الثلاثاء، 25 أكتوبر 2022

.............

 

الجن اصطلاحًا فهم: نوع من الأرواح العاقلة المريدة المكلفة على نحو ما عليه الإنسان، مجردون عن المادة، مستترون عن الحواس، لا يرون على طبيعتهم وصورتهم الحقيقية، يأكلون ويشربون ويتناكحون، ولهم ذرية، محاسبون على أعمالهم في الآخرة


تعريف الجن: لغة واصطلاحًا
الجن لغة: اسم جنس جمعي، واحده جني، وهو مأخوذ من الاجتنان، وهو التستر والاستخفاء. وقد سموا بذلك لاجتنانهم من الناس فلا يرون([1])، والجمع جنان، وهم الجنة([2]).
وكل شيء وقيت به نفسك، واستترت به فهو جنة، ومنه قول النبي r فيما أخرجه البخاري في كتاب الصوم: «والصيام جنة» أي وقاية، حيث يقي صاحبه من المعاصي.
وسمي الجنين جنينًا لاستتاره في بطن أمه، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}([3])([4]).
وسميت الجنة – بفتح الجيم – بذلك لكثرة شجرها، بحيث يستر بعضها بعضًا([5]).
وأما الجن اصطلاحًا فهم: نوع من الأرواح العاقلة المريدة المكلفة على نحو ما عليه الإنسان، مجردون عن المادة، مستترون عن الحواس، لا يرون على طبيعتهم وصورتهم الحقيقية، يأكلون ويشربون ويتناكحون، ولهم ذرية، محاسبون على أعمالهم في الآخرة([6]).
فإن قال قائل: وما الفرق بين الجن والشياطين؟
فالجواب: أن الشياطين هم مردة الجن، ومنه قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ...} الآية ([7]).
وواحد الشياطين شيطان، مأخوذ من شطن بمعنى بعد ولا يقتصر هذا اللفظ على مردة الجن فقط، بل يطلق كذلك على كل عارم ومؤذ من الجن والإنس، قال الله تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ}([8])، وقال سبحانه عن المنافقين: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ}([9]) أي إلى أصحابهم من الجن والإنس([10]).
حكم الإيمان بوجود الجن
إن قال قائل: وما حكم الإيمان والاعتراف بوجود الجن؟ وهل على من أنكر وجودهم ذنب؟
فالجواب أن يقال: قد دل الكتاب العزيز والسنة المطهرة على وجودهم – كما سيأتي- ودل عليه كذلك الإجماع، وعليه فإنه لا يجوز لأي أحد من الناس إنكارهم، ولذا قال جمع من أهل العلم: إنه يكفر من أنكرهم، ففي كتاب «الفصل في الملل والأهواء والنحل»([11]) لابن حزم قوله: «وأجمع المسلمون كلهم على ذلك – أي على وجود الجن وأنهم خلق من خلق الله – نعم والنصارى والمجوس والصابئون وأكثر اليهود حاشا السامرة فقط، فمن أنكر الجن أو تأول فيهم تأويلاً يخرجهم به عن هذا الظاهر, فهو كافر مشرك حلال الدم والمال».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، ولا في أن الله أرسل محمدًا r إليهم، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن، أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين، وإن وجد فيهم من ينكر ذلك كما يوجد في طوائف المسلمين كالجمهية والمعتزلة من ينكر ذلك، وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرين بذلك؛ وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواترًا معلومًا بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة، بل مأمورون منهيون، ليسوا صفات وأعراضًا قائمة بالإنسان أو غيره كما يزعم بعض الملاحدة، فلما كان أمر الجن متواترًا عن الأنبياء تواترًا ظاهرًا، تعرفه العامة والخاصة لم يمكن طائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل أن تنكرهم، كما لم يمكن لطائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل إنكار الملائكة، ولا إنكار معاد الأبدان، ولا إنكار عبادة الله وحده لا شريك له، ولا إنكار أن يرسل الله رسولاً من الإنس إلى خلقه، ونحو ذلك مما تواترت به الأخبار عن الأنبياء تواترًا تعرفه العامة والخاصة، كما تواتر عند العامة والخاصة مجيء موسى إلى فرعون، وغرق فرعون، ومجيء المسيح إلى اليهود وعداوتهم له، وظهور محمد r بمكة وهجرته إلى المدينة، ومجيئه بالقرآن والشرائع الظاهرة، وجنس الآيات الخارقة التي ظهرت على يديه، كتكثير الطعام والشراب، والإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة التي لا يعلمها بشر إلا بإعلام الله وغير ذلك ([12]).
صفات الجن
إن الناظر في عالم الجن الكبير لا يمكنه معرفتهم معرفة جيدة حتى يدرس أوصافهم التي وردت في الكتاب العزيز وفي السنة الصحيحة، ولذا كان لابد من الحديث عن أوصافهم بوضوح، وأنا مبين ذلك في الأمور التالية:
1- أنهم خلقوا من نار، قال الله عز وجل: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}([13])، وقال: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}([14]).
وأخرج مسلم في كتاب الزهد والرقاق من صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله r: «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم».
2- أنهم أقدم خلقًا من الإنس، قال الألوسي في تفسيره «روح المعاني»([15]) عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ}([16]): «وتقديم الجن؛ لأنهم أعرف من الإنس، وأكثر عددًا، وأقدم خلقًا».
3- أنهم يأكلون ويشربون، ودليل ذلك ما ثبت في صحيح مسلم في كتاب الأشربة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله r قال: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله». وثبت في سنن أبي داود، كتاب الطهارة، عن ابن مسعود t قال: «قدم وفد الجن على النبي r فقالوا: يا محمد، انهَ أمتك أن يستنجوا بعظم أو روثة أو حممة، فإن الله تعالى جعل لنا فيها رزقًا، فنهى النبي r عن ذلك». والحممة: الفحمة.
وقد قيل: إن طعام المؤمنين منهم ما ذكر اسم الله عليه، وطعام الكفار ما لم يذكر اسم الله عليه، قاله عماد الدين العامري في كتابه «بهجة المحافل».
وقال ابن عبد البر معلقًا على ما ذكر في السنة من أن طعام الجن العظم والروثة، وشرابهم الجدف، وهي الرغوة والزبد , هذه أشياء لا تدرك بعقل، ولا تقاس على أصل، وإنما فيه التسليم لمن آتاه الله من العلم ما لم يؤتنا وهو نبينا r وقال: «ويحتمل أن الجن كلهم يأكلون ويشربون ويحتمل أن يكون بعضهم»([17]).
وجاء في شرح الزرقاني: وقال ابن العربي: «من نفى عن الجن الأكل والشرب فقد وقع في حبالة إلحاد وعدم رشاد، بل الشيطان وجميع الجان يأكلون ويشربون وينكحون ويولد لهم، ويموتون، وذلك جائز عقلاً، وورد به الشرع، وتظافرت به الأخبار فلا يخرج عن هذا المضمار إلى حمار، ومن زعم أن أكلهم شم فما شم رائحة العلم، وقال صاحب آكام المرجان: «العمومات تقتضي أن كل أصناف الجن يأكلون ويشربون». اهـ.
4- أنهم يتناكحون ويتناسلون، ولهم ذرية.
قال الله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي}([18])، قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: «وذرية إبليس: الشياطين الذين يغرون بني آدم»([19])، وأخرج بسنده عن مجاهد {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} قال: ذريته: هم الشياطين»([20]).
ومما يستدل به على أن الجن يتناكحون ويتناسلون ما ثبت في الصحيحين وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وأبي داود، عن أنس بن مالك t قال: كان رسول الله r إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» قال في «عون المعبود شرح سنن أبي داود»([21]): «قال الخطابي: الخبث الشياطين وإناثهم الخبث بضم الباء جماعة الخبيث، والخبائث جمع خبيثة، يريد ذكران الشياطين وإناثهم». اهـ.
وإن قال قائل: هل يمكن التناكح بين الإنس والجن؟
قيل: الجواب ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: «وقد يتناكح الإنس والجن، ويولد بينهما ولد، وهذا كثير معروف»([22]). اهـ. قلت: ويمكن الاستدلال على ذلك بقوله تعالى عن الحور: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ}([23])، قال ابن الجوزي في «زاد المسير»([24]). «وفي الآية دليل على أن الجني يغشى المرأة كالإنسي». اهـ.
5- أنه يرحم بعضهم بعضًا.
ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب التوبة من صحيحة عن أبي هريرة t عن النبي r قال: «إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها وأخر الله تسعًا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة».
6- أنهم مكلفون.
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}([25]).
قال ابن القيم يرحمه الله: «أخبر سبحانه أنه إنما خلقهم للعبادة، وكذلك إنما أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه ليعبدوه، فالعبادة هي الغاية التي خلقوا لها، ولم يخلقوا لمجرد الترك فإنه أمر عدمي لا كمال فيه من حيث هو عدم، بخلاف امتثال المأمور؛ فإنه أمر وجودي، مطلوب الحصول»([26]). ا هـ.
وثبت في سنن الترمذي من حديث أبي هريرة t أن النبي r قال: «فضلت على الأنبياء بست» وذكر منها قوله: «وأرسلت إلى الخلق كافة» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
والمراد من قوله r: «وأرسلت إلى الخلق كافة» أي جنهم وإنسهم كما أخرج ما يشهد لذلك الدارمي في المقدمة من سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له: فما فضله على الأنبياء؟ أي النبي r، فقال ابن عباس: قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}([27])، وقال الله عز وجل لمحمد r: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ}([28]) فأرسله إلى الجن والإنس. وقال ابن حجر: «وإذا تقرر كونهم مكلفين فهم مكلفون بالتوحيد وأركان الإسلام وأما ما عداه من الفروع فاختلف فيه لما ثبت من النهي عن الروث والعظم وأنهما زاد الجن»([29]).
7- أن منهم المسلم والكافر، والصالح والفاسد.
قال الله تعالى مخبرًا عن الجن قولهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا}([30])، قال البغوي في تفسيره «معالم التنزيل»([31]): قوله: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي دون الصالحين. {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} أي جماعات متفرقين وأصنافًا مختلفة، والقدة: القطعة من الشيء، يقال: صار القوم قددًا إذا اختلفت حالاتهم، وأصلها من القد وهو القطع. قال مجاهد: يعنون: مسلمين وكافرين.
وقيل ذوو أهواء مختلفة. وقال الحسن والسدي: الجن أمثالكم فمنهم قدرية، ومرجئة ورافضة. وقال ابن كيسان: شيعًا وفرقًا لكل فرقة هوى كأهواء الناس. وقال سعيد بن جبير: ألوانًا شتى، وقال أبو عبيدة: أصنافًا. اهـ.
وقال سبحانه مخبرًا عنهم كذلك: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا}([32])، والقاسطون: الكافرون. ومما يشهد لوجود المسلمين الصادقين من الجن قوله سبحانه: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}([33]).
وهذا فيه إشارة عميقة إلى مدى التأثر الكبير الذي وقع لهؤلاء المؤمنين من الجن بالقرآن الذي استمعوا إليه، ويكشف عن تلك الميزة العظيمة التي اتسموا بها، عندما أصبحوا دعاة لقومهم إلى الإيمان والإسلام، وهي لحظات تجلب للقلب الخشوع واليقين، وفي الوقت نفسه تنذر وتهدد كل معرض عن القرآن والإيمان به أنه إن لم يخضع لخطاب هذا الكتاب، ويستسلم لمنزله فليس له جزاء إلا النار، وبئس القرار: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا}([34])، وهي كذلك تحفز نفوس المؤمنين إلى الجد في تبليغ الإسلام، ودعوته إلى الناس: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}([35]).
ومما يستدل به كذلك على أن من الجن مسلمين مؤمنين ما أخرجه مسلم في كتاب الصلاة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما قرأ رسول الله r على الجن وما رآهم. انطلق رسول الله r في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ([36])، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء. وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث. فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة، وهو بنخل ([37])، عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له. وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا! إنا سمعنا قرآنا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا. فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد r: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}.
ومما يستدل به كذلك على وجود المسلمين من الجن ما أخرجه مسلم كذلك في كتاب التفسير من صحيحه عن عبد الله ([38]): {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}([39]) قال: كان نفر من الإنس يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم النفر من الجن، واستمسك الإنس بعبادتهم، فنزلت: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}.
وللمسلمين من الجن أعمال طيبة، وأفعال حسنة مثل ما ورد في شعب الإيمان للبيهقي أنهم يأمرون بالخير، ويكفون عن الكذب والشر، ومثل ما جاء في معجم الطبراني الكبير أن منهم من ينبه العبد إلى التوحيد ويحذره من الشرك ([40])، ومثل ما جاء في مسند البزار أن منهم من يصلي مع المؤمن إذا صلى، ويقرأ بقراءته ويستمع إليه([41])، ونحو ما ورد من بكاء نفر منهم على قتل عمر كما في مصنف ابن أبي شيبة([42])، والسنة للخلال([43])، وبكائهم كذلك على قتل عثمان كما في السنة للخلال كذلك([44]) وبكائهم على قتل الحسين([45]).
وإن قال قائل: هل في الجن من يعد صحابيًا؟
فيقال له: قال ابن حجر وهو يتحدث عن قول البخاري في تفسير الصحابي بأنه من صحب النبي r أو رآه من المسلمين: «وهل يختص ذلك بجميع بني آدم أو يعم غيرهم من العقلاء؟ محل نظر، أما الجن فالراجح دخولهم لأن النبي r بعث إليهم قطعًا، وهم مكلفون، فيهم العصاة والطائعون، فمن عرف اسمه منهم لا ينبغي التردد في ذكره في الصحابة وإن كان ابن الأثير عاب على أبي موسى ([46]) فلم يستند في ذلك إلى حجة»([47]) اهـ.
8- محاولة الشياطين منهم استراق السمع ليعينوا من يطيعهم من شياطين الإنس من السحرة وغيرهم.
ويشهد لذلك ما أخرجه مسلم في كتاب السلام من صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أخبرني رجل من أصحاب النبي r من الأنصار أنهم بينما هم جلوس ليلةً مع رسول الله r رمي بنجم فاستنار، فقال لهم رسول الله r: «ماذا كنتم تقولون في الجاهلية، إذا رمي بمثل هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. كنا نقول: ولد الليل رجل عظيم، ومات رجل عظيم. فقال رسول الله r: فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته. ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمرًا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا، ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال. قال: فيستخبر بعض أهل السموات بعضًا حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا فتخطف الجن السمع، فيقذون إلى أوليائهم، ويرمون به، فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون».
قال النووي: ومعنى يقرفون: يخلطون فيه الكذب. والشاهد قوله: فتخطف الجن السمع، فيقذفون إلى أوليائهم، ويرمون به، ويوضح ذلك رواية أخرى في كتاب السلام كذلك من صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل أناس رسول الله r عن الكهان؟ فقال لهم رسول الله r: «ليسوا بشيء» قالوا: يا رسول الله! فإنهم يحدثون أحيانًا الشيء يكون حقًا، قال رسول الله r: «تلك الكلمة من الجن، يخطفها الجني، فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة».
قال الخطابي وغيره: معناه أن الجني يقذف الكلمة إلى وليه الكاهن فتسمعها الشياطين، كما تؤذن الدجاجة بصوتها صواحباتها فتتجاوب. اهـ.
وفي هذا دليل على تحريم الكهانة وإتيان الكهان وحث على منع ذلك كما قال الماوردي في الأحكام السلطانية: «ويمنع المحتسب الناس من التكسب بالكهانة واللهو ويؤدب عليه الآخذ والمعطي». اهـ.
9- أن الشياطين منهم من يكذب الكذب العظيم، وقد دل على ذلك الحديثان السابقان.
10- أن المردة منهم يشدون ويوثقون بالأغلال عند دخول رمضان بحيث لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن والذكر([48])، ويشهد لذلك ما أخرجه الترمذي في كتاب الصوم من سننه عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار، فلم تفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار» هذا لفظ الترمذي، ورواه بنحوه البخاري ومسلم. قال في «تحفة الأحوذي»([49]): «وأما ما يوجد خلاف ذلك في بعضهم فإنها تأثيرات من تسويلات الشياطين أغرقت في عمق تلك النفوس وباضت في رءوسها». اهـ.
11- أنهم لا يعلمون الغيب كغيرهم من المخلوقين.
قال الله تعالى عند ذكر موت نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}([50]).
قال القرطبي: «قيل كان رؤساء الجن سبعة، وكانوا منقادين لسليمان u وكان داود u أسس بيت المقدس، فلما مات أوصى إلى سليمان في إتمام مسجد بيت المقدس، فأمر سليمان الجن به، فلما دنت وفاته قال لأهله: لا تخبرهم بموتي حتى يتمنوا بناء المسجد، وكان بقي لإتمامه سنة. وفي الخبر أن ملك الموت كان صديقه، فسأل عن آية موته، فقال: أن تخرج من موضع سجودك شجرة يقاتل لها: الخرنوبة، فلم يكن يوم يصبح فيه إلا تنبت في بيت المقدس شجرة، فيسألها: ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا، فيقول: ولأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا وكذا، فيأمر بها فتقطع، ويغرسها في بستان له، ويأمر بكتب منافعها ومضارها، واسمها وما تصلح له في الطب، فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة نبتت بين يديه، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة، قال: ولأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا المسجد، فقال سليمان: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت الذي على وجهك هلاكي وهلاك بيت المقدس! فنزعها وغرسها في حائطه، ثم قال: اللهم عم عن الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب. وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء، وأنهم يعلمون ما في غد، ثم لبس كفنه، وتحنط، وخل المحراب، وقام يصلي واتكأ على عصاه على كرسيه، فمات ولم تعلم الجن إلى أن مضت سنة، وتم بناء المسجد.
قال أبو جعفر النحاس: وهذا أحسن ما قيل في الآية، ويدل على صحته الحديث المرفوع، روى إبراهيم بن طهمان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبي r قال: «كان نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه، فيسألها ما اسمك؟ فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء كتبت، فبينما هو يصلي ذات يوم إذا شجرة نابتة بين يديه، قال: ما اسمك؟ قالت: الخرنوبة، فقال: لأي شيء أنت؟ فقالت: لخراب هذا البيت، فقال: اللهم عمِّ عن الجن موتي حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنحتها عصا، فتوكأ عليها حولاً لا يعلمون، فسقطت، فعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنظروا مقدار ذلك، فوجدوه سنة».
وقال القرطبي كذلك: وفي التفسير بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس، قال: أقام سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام حولاً لا يعلم بموته وهو متكئ على عصاه، والجن منصرفة فيما كان أمرها به، ثم سقط بعد حول، فلما خر تبينت الإنس أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ([51]).
والحديث أخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
12- أنه يمكن خروجهم عن أصل خلقتهم التي هي كونهم لا يرون، فيتشكلون ويرون، وفي ذلك وجوه عديدة:
أ- أتيانهم في صورة بشر، ومما يستدل به على ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}([52])، وهذا كان يوم بدر، عندما تمثل إبليس في صورة رجل، فقال ما قال، وخدع المشركين.
وقصة أبي هريرة t مع الشيطان الذي جاءه في صورة رجل لما وكله رسول الله r بحفظ زكاة رمضان معروفة معلومة ثابتة في كتاب الوكالة وغيره من صحيح البخاري.
ب- إتيانهم في صورة الكلب الأسود، ويدل على ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب الصلاة من صحيحه عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر t قال: قال رسول الله r «إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار، والمرأة، والكلب الأسود» قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله r كما سألتني، فقال:« الكلب الأسود شيطان». ورواه بنحوه الترمذي في كتاب الصلاة من سننه، والنسائي في كتاب القبلة، وأبو داود كذلك في الصلاة، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، وأحمد في مسنده، والدارمي في كتاب الصلاة من سننه، كلهم من حديث عبد الله ابن الصامت عن أبي ذر.
وهناك ما يدل على أن الأسود هو اللون الذي اختصت به الجن، وهو ما أخرجه أحمد في مسنده عن أبي ذر t قال: قال رسول الله r: «أوتيت خمسًا لم يؤتهن نبي كان قبلي، نصرت بالرعب، فيرعب مني العدو عن مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد كان قبلي، وبعثت إلى الأحمر والأسود، وقيل لي: سل تعطه، فاختبأتها شفاعة لأمتي، وهي نائلة منكم إن شاء الله، من لقي الله عز وجل لا يشرك به شيئًا»، قال الأعمش – وهو الشاهد هنا -: فكان مجاهد يرى أن الأحمر الإنس، والأسود الجن.
وفي معجم شيوخ أبي بكر الإسماعيلي: عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال علي بن أبي طالب t: «الجن الكلاب المعينة» وقد قال رسول الله r: «اقتلوا الأسود البهيم ذا النقطتين فإنه شيطان). قال ابن عبد البر: «وقد قالوا: إن الأسود البهيم شيطان أي بعيد من المنافع قريب من المضرة والأذى، وهذه أمور لا تدرك بنظر، ولا يتوصل إليها بقياس، وإنما ينتهى فيها إلى ما جاء عنه r»([53]).
ومال ابن عبد البر يرحمه الله إلى أنه لا يقتل شيء من الكلاب حتى الأسود إذا لم تضر أحدًا، ولم تعقر أحدًا؛ لنهيه r أن يتخذ شيء فيه الروح غرضًا، ولأن الأمر بقتل الكلاب منسوخ بمثل قوله r كما في سنن أبي داود: «خمس من الدواب يقتلن في الحل والحرم».
فذكر منهن الكلب العقور؛ فخص العقور دون غيره، لأن كل ما يعقر المؤمن ويؤذيه ويقدر عليه فواجب قتله.
قال: ومن الحجة في ذلك كذلك ترك قتلها في كل الأمصار على اختلاف الأعصار بعد مالك رحمه الله، وفيهم العلماء والفضلاء ممن يذهب مذهب مالك وغيره، ممن لا يسامح في شيء من المناكر والمعاصي الظاهرة إلا ويبدر إلى إنكارها، وينبت إلى تغييرها.
وأما قول من ذهب إلى قتل الأسود منها بأنه شيطان على ما روي في ذلك فلا حجة فيه؛ لأن الله عز وجل قد سمى من غلب عليه الشر من الإنس والجن شيطانًا بقوله: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ}([54]) ولم يجب بذلك قتله ([55]).
جـ- إتيانهم في صور الحيات التي تلازم البيوت، ويشهد لذلك ما أخرجه مسلم في كتاب السلام من صحيحه عن أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله r: «إن بالمدينة نفرًا من الجن قد أسلموا فمن رأى شيئًا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثًا فإن بدا له بعد فليقتله فإنه شيطان». والمراد بالعوامر: الحيات التي تلازم البيوت وغالبًا ما تكون من الجن، كما في مسند أحمد من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله r: «الحيات مسخ الجن».
د- إتيانهم في صور الهوام؛ وهي الحشرات الضارة، ويدل على ذلك ما أخرجه أبو داود في كتاب الأدب من حديث أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله r: «إن الهوام من الجن، فمن رأى في بيته شيئًا فليحرج عليه ثلاث مرات فإن عاد فليقتله فإنه شيطان».
13- سرعة الحركة والقدرة على الأعمال الشاقة.
إن عالم الجن عالم عجيب، ومن أشد أوجه العجب فيهم قدرتهم على سرعة التنقل؛ كما يشهد بذلك قوله سبحانه: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}([56]) حيث تكفل هذا العفريت من الجن بإحضار عرش بلقيس ملكة سبأ قبل قيام سليمان عليه الصلاة والسلام من مجلسه، وهذا دليل على تحركهم السريع.
ومن أوجه العجب فيهم كذلك قدرتهم على القيام بالأعمال الشاقة؛ نحو ما أخبر الله عز وجل به من أن من الجن من يعمل لسليمان r القصور والمحاريب، والجفان الواسعة للطعام، وحياض الماء الكبيرة ونحوها؛ كما قال جل شأنه: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}([57]).
* * * *
فصل في إيذاء الجن للإنس وكيفية ذلك
لشياطين الجن بخاصة تأثير على الإنس إذا شاء الله تعالى ذلك؛ إذ إن منهم من يؤذي الإنسي بقتله، أو وخزه لينتج عن ذلك مرض الطاعون، أو بصرعه، إو إصابته بالعين، أو خطفه، أو إيذائه في نومه وجلب الفزع إليه، أو قطع صلاته.
ومنهم من يسترق السمع لإفادة أعوانه من الكهنة والمشعوذين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
وفي السطور التالية أذكر عددًا من صور الشر عند هؤلاء، فمن ذلك:
1- قتلهم للإنسي، ويشهد لذلك ما أخرجه مسلم في كتاب السلام من صحيحه أن أبا السائب دخل على أبي سعيد الخدري t في بيته، قال: فوجدته يصلي، قال: فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكًا في عراجين ([58]) في ناحية البيت، فالتفت فإذا حية، فوثبت لأقتلها، فأشار إلي أن اجلس، فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار، فقال: أترى هذا البيت؟ فقلتُ: نعم. قال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس. قال: فخرجنا مع رسول الله r إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله r بأنصاف النهار، فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يومًا، فقال له رسول الله r: «خذ عليك سلاحك، فإني أخشى عليك قريظة»، فأخذ الرجل سلاحه، ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به، وأصابته غيرة، فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني. فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج، فركزه بالدار، فاضطربت عليه، فما يدرى أيهما كان أسرع موتًا: الحية أم الفتى؟
قال: فجئنا إلى رسول الله r فذكرنا ذلك له، وقلنا: ادع الله يحييه لنا، فقال: استغفروا لصاحبكم، ثم قال: «إن بالمدينة جنًا قد اسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان».
فدل هذا الحديث على أن الفتى قتل بسبب تلك الحية التي تمثل واحدًا من الجن، وسيأتي مزيد كلام على هذه الحادثة عند ذكر السبل التي تعين على دفع شر الجن بإذنه تعالى.
2- وخزهم للإنس؛ لينتج عن ذلك مرض الطاعون.
والطاعون: ورم ينشأ عن هيجان الدم، أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده ([59]).
والدليل على أنه من وخز الجن ما ثبت في الأحاديث الواردة في ذلك، مثل ما أخرجه أحمد من حديث أبي موسى رفعه: «فناء أمتي بالطعن والطاعون. قيل: يا رسول الله: هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: وخز أعدائكم من الجن، وفي كل شهادة».
وعن أحمد والحاكم وصححه من رواية عاصم الأحول عن كريب بن الحارث عن أبي بدرة بن قيس أخي أبي موسى الأشعري رفعه: «اللهم اجعل فناء أمتي قتلاً في سبيلك بالطعن والطاعون».
قال ابن حجر: «ومما يؤيد أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن وقوعه غالبًا في أعدل الفصول، وفي أصح البلاد هواء، وأطيبها ماء، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض لأن الهواء يفسد تارة، ويصح أخرى، وهذا يذهب أحيانًا ويجئ أحيانًا على غير قياس ولا تجربة، فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وبأنه لو كان كذلك لعم الناس والحيوان، والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير، ولا يصيب من هم بجانبهم مما هو في مثل مزاجهم، ولو كان كذلك لعم جميع البدن، وهذا يختص بموضع الجسد ولا يتجاوزه، ولأن فساد الهواء يقتضي تغير على أنه من طعن الجن»([60]).
وقد ثبت في سنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم أنه r قال: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا عليهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا»، وأخرج الحاكم كذلك: «إذا كثر الزنا كثر القتل، ووقع الطاعون» فبين في هذين الحديثين أن من أسباب الطاعون انتشار الفاحشة والرذيلة في المجتمع الذي ينشر فيه أسباب الفسق والفاحشة من دعوة للتبرج والسفور، وإعلان الصور الفاضحة والمسلسلات الخليعة التي تخدش الحياء، وتنفر منها الطباع، وتدعو الناس إلى احتذاء سير أصحابها وتقليدهم في فحشهم وفجورهم، ومن ثم كانت عقوبتهم أن يسلط الله عز وجل عليهم الطاعون، الذي يفتك بأجسامهم حتى يموتوا، وقد علق الشيخ المناوي على الحديث المتقدم: «إذا كثر الزنا كثر القتل، ووقع الطاعون» بقوله: «وذلك لأن حد الزنا القتل فإذا لم يقم الحد فيهم سلط الله عليهم الجن فقتلوهم»([61]). اهـ. وكلامه هذا خاص بالزاني المحصن، لأن عقوبته الرجم، وفي تفسيره هذا نظر، ويكفي أن يقال: إن الطاعون عقوبة لأهل الفسق والإجرام كغيره من العقوبات مثل التي ذكرها الله عز وجل في القرآن، مما جازى به سبحانه أهل الزيغ والفساد كما قال جل شأنه: {فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}([62]). ولا يتعارض هذا مع ما ورد أن الطاعون شهادة كما أخرج البخاري في كتاب الطب أنه r قال: «الطاعون شهادة لكل مسلم». وما ورد كذلك أن الطاعون رحمة من الله عز وجل كما أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه ([63]) وعبد بن حميد في مسنده ([64])، والطبراني في معجمه الكبير([65]) ولفظه مختصرًا عن الحارث بن عميرة الزبيدي قال: وقع الطاعون بالشام، فقام معاذ فخطبهم بحمص فقال: إن هذا الطاعون رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم..
قال ابن حجر بعد إيراده بعض الأحاديث التي تفيد أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية: «ففي هذه الأحاديث أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة؟ ويحتمل أن يقال: بل تحصل له درجة الشهادة لعموم الأخبار الواردة.. ولا يلزم من حصول درجة الشهادة لمن اجترح السيئات مساواة المؤمن الكامل في المنزلة، ولأن درجات الشهداء متفاوتة كنظيره من العصاة إذا قتل مجاهدًا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا مقبلاً غير مدبر. ومن رحمة الله بهذه الأمة المحمدية أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا، ولا ينافي ذلك أن يحصل لمن وقع به الطاعون أجر الشهادة، ولا سيما وأكثرهم لم يباشر تلك الفاحشة وإنما عمهم والله أعلم لتقاعدهم عن إنكار المنكر...»([66]).
فإن قال قائل: وهل الإصابة بالطاعون في كل بلد؟
قيل: لا؛ لأن الدليل قد جاء باستثناء مكة والمدينة كما أخرج عمر بن شبة في تاريخ مكة بسند صحيح([67]) عن أبي هريرة t مرفوعًا: «المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة على كل نقب([68]) منهما ملك فلا يدخلهما الدجال ولا الطاعون». وفي حديث أنس عند البخاري في الفتن: «فتجد الملائكة يحرسونها- يعني المدينة- فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله تعالى». وقد اختلف في هذا الاستثناء فقيل: للتبرك، فيشملها، وقيل: للتعليق، وأن مقتضاه جواز دخول الطاعون المدينة([69])، والأول أولى؛ لحديث أبي هريرة المتقدم، والله أعلم.
3- أن منهم من يصرع الإنسي، ويؤثر فيه.
وذلك أن من كفرة الجن من يتسلط على عقل الإنسي وجسمه، فيتخبط المصاب في تحركاته وتصرفاته، وقد يصيب الجني جسم الإنسي دون عقله، وكل ذلك من ابتلاء الله تعالى لعباده، كما قال سبحانه: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}([70]).
فإن قيل: ولم يصرع الجني الإنسي؟
قيل: الجواب: إما أن يكون ذلك عن عشق وشهوة وهوى، أو أن يكون عن بغض ومجازاة؛ مثل أن يؤذيهم بعض الإنس، أو يظنوا أنهم يتعمدون أذاهم: إما ببول على بعضهم، وإما بصب ماء حار، وإما بقتل بعضهم، وإن كان الإنسي لا يعرف ذلك – وفي الجن جهل وظلم – فيعاقبونه بأكثر مما يستحقه، وقد يكون عن عبث منهم، وشر بمثل سفهاء الإنس. وفعل الجن في الأمرين السابقين يحتاج إلى بيان؛ وهو أن يقال: ما كان من الأمر الأول فهو من الفواحش المحرمة، ويعرف الجن بذلك، ويعلمون أنه يحكم فيهم بحكم الله ورسوله r الذي أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإنس.
وأما ما كان من الأمر الثاني: فإن كان الإنسي لم يعلم فيخاطب الجن بأن هذا لم يعلم، ومن لم يتعمد الأذى لا يستحق العقوبة، وإن كان قد فعل ذلك في داره وملكه عرفوا بأن الدار ملكه فله أن يتصرف فيها بما يجوز، وأنه ليس للجن أن يمكثوا في ملك الإنس بغير إذنهم، بل لهم ما ليس من مساكن الإنس؛ كالخراب والفلوات، ولهذا يوجدون كثيرًا في الخراب والفلوات، ويوجدون في مواضع النجاسات؛ كالحمامات، والحشوش، والمزابل، والقمامين، والمقابر، والشيوخ الذين تقترن بهم الشياطين، وتكون أحوالهم شيطانية لا رحمانية، يأوون كثيرًا إلى هذه الأماكن التي هي مأوى الشياطين ([71]).
وإن قال قائل: وهل يقع الصرع من النفوس الخبيثة وغير الخبيثة.
قيل: قد أجاب ابن حجر على لك، فقال: «قد يكون الصرع من الجن، ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم...» ثم ذكر سبب الصرع على نحو مما تقدم([72])، ولأبي جعفر أحمد بن محمد الطبيب بن أبي الأشعث (ت: 360) كتاب عن الصرع، ذكره في كشف الظنون([73]).
4- أن منهم من يصيب الإنسي بالعين، قال ابن حجر معلقًا على ما أخرجه البخاري في الطب من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي r رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة ([74])، فقال: «استرقوا لها فإن بها النظرة». قال: «واختلف في المراد بالنظرة، فقيل: عين من نظر الجن، وقيل من الإنس، والأولى أنها أعم من ذلك»([75]).
5- أن من الجن من يخطف الإنسي، وشاهد ذلك ما أخرجه مالك في الموطأ، والشافعي، وعبد الرزاق، وأبو عبيد، والبيهقي، وابن أبي شيبة ([76])، وابن أبي الدنيا، ولفظه: عن عبد الرحمن بن أبي ليلة أن رجلاً من قومه خرج ليصلي مع قومه صلاة العشاء، ففقد، فانطلقت امرأته إلى عمر بن الخطاب، فحدثته بذلك، فسأل عن ذلك قومها، فصدقوها، فأمرها أن تتربص أربع سنين، فتربصت، ثم أتت عمر، فأخبرته بذلك، فسأل عن ذلك قومها، فصدقوها، فأمرها أن تتزوج، ثم إن زوجها الأول قدم، فارتفعوا إلى عمر بن الخطاب، فقال عمر: يغيب أحدكم الزمان الطويل لا يعلم أهله حياته؟ قال: إن لي عذرًا، قال: فما عذرك؟ قال: خرجت أصلي مع قومي صلاة العشاء، فسبتني الجن – أو قال: أصابتني الجن، فكنت فيهم زمانًا، فغزاهم جن مؤمنون، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، فكنت فيمن أصابوا، فقالوا: ما دينك؟ قلت: مسلم، قالوا: أنت على ديننا، لا يحل لنا سبيك، فخيروني بين المقام وبين القفول، فاخترت القفول، فأقبلوا معي بالليل، يسير يحدو بي وبالنهار – إعصار ريح اتبعها -، قال: فما كان طعامك؟ قال: الفول وما لم يذكر اسم الله عليه، فما كان شرابك؟ قال: الجدف، قال قتادة: الجدف: ما لم يخمر من الشراب، قال: فخيره عمر بين المرأة والصداق.
قال ابن عبد البر رحمه الله في كتابه «التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» عن الأثر السابق: «هذا خبر صحيح من رواية العراقيين والمكيين مشهور...»([77]).
6- حرصهم على إيذاء المسلم في نومه، ومحاولتهم جلب الفزع إليه، فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه ([78]) قال: الرجل إذا قام من الليل ما يدعو به: حدثنا عبد الله بن نمير عن زكريا بن أبي زائدة عن مصعب عن يحيى بن جعدة قال: كان خالد بن الوليد يفزع من الليل حتى يخرج ومعه سيفه، فخشي عليه أن يصيب أحدًا، فشكا ذلك إلى رسول الله r فقال: «إن جبريل قال لي إن عفريتًا من الجن يكيدك، فقل: «أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزهن من بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق إلا طارقًا يطرق بخير، يا رحمن». فقالهن خالد، فذهب ذلك عنه.
7- الحرص على قطع صلاة المسلم، ففي كتاب أحاديث الأنبياء من صحيح البخاري عن أبي هريرة t عن النبي r: «إن عفريتًا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته، فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم، فذكرت دعوة أخي سليمان {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}([79])، فرددته خاسئًا». قوله r: «إن عفريتًا من الجن». العفريت هو المتمرد الخبيث([80]).
8- محاولتهم استراق السمع بإفادة الكهان والمشعوذين، ودليل ذلك تقدم، قال ابن حجر: «قال الخطابي: هؤلاء الكهان فيما علم بشهادة الامتحان قوم لهم أذهان حادة، ونفوس شريرة وطبائع نارية، فهم يفزعون إلى الجن في أمورهم، ويستفتونهم في الحوادث، فيلقون إليهم الكلمات»([81]).
وقال ابن حجر كذلك: «قال الخطابي: بين r أن إصابة الكاهن أحيانًا إنما هي لأن الجني يلقي إليه الكلمة التي يسمعها استراقًا من الملائكة فيزيد عليها أكاذيب يقيسها على ما سمع، فربما أصاب نادرًا، وخطؤه الغالب...»([82]).
9- ملازمة الجني الكافر لكل فرد من الناس، يأمره بكل شر، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة من حديث عبد الله بن مسعود t قال: قال رسول الله r: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن. قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير».
وفي مسند أحمد من حديث ابن مسعود كذلك: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة. قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فلا يأمرني إلا بحق».
وفي كتاب الرقاق من سنن الدارمي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله r: «ما منكم من أحد إلا معه قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة. قالوا: وإياك، قال: نعم، وإياي، ولكن الله أعانني عليه، فأسلم». قال أبو محمد: من الناس من يقول: أسلم استسلم، يقول: ذل.
والحديث أخرجه كذلك ابن خزيمة([83])، وابن حبان([84])، والشاشي في مسنده([85])، والخلال في كتابه «السنة»([86])، وغيرهم([87]).
سبل الوقاية من شر شياطين الجن
إن مما يميز دين الإسلام ويجعله شامخًا عزيزًا، قدرته بإذن الله تعالى على الوقوف أمام الشدائد والمحن، وإعطاؤه للمسلم الطرق والسبل التي تعينه على العيش في أجواء مطمئنة، بعيدة عن الاضطراب والقلق، ومن ذلك ما ورد في السنة الشريفة من بيان الطرق والأساليب التي يستطيع المرء المسلم – بإذنه تعالى – إذا اتبعها والتزم بها أن يدفع عنه شر شياطين الجن، الذين يسعون بلا شك إلى إيصال الضرر إليه بكل ما يستطيعون من وسائل، وقد أبانت السنة المطهرة جميع الطرق التي تعين المسلم على دفع شر شياطين الجن عنه في جميع المجالات، وهذا بيان تفصيلي بذلك.
في مجال الأذكار
1- قراءة القرآن، ويشهد لذلك أدلة كثيرة، منها ما أخرجه ابن ماجه في كتاب الطب عن ابن أبي ليلى، عن أبيه أبي ليلى قال: كنت جالسًا عند النبي r إذ جاءه أعرابي، فقال: إن لي أخًا وجعًا، قال: ما وجع أخيك؟ قال: به لَمم. قال: اذهب فأتني به، قال: فذهب، فجاء به، فأجلسه بين يديه، فسمعته عوذه بفاتحة الكتاب، وأربع آيات من أول البقرة، وآيتين من وسطها {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، وآية الكرسي، وثلاث آيات من خاتمتها، وآية من آل عمران، أحسبه قال: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} وآية من الأعراف {إن ربكم الذي خلق} الآية، وآية من المؤمنين: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ}، وآية من الجن {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا}، وعشر آيات من أول الصافات، وثلاث آيات من آخر الحشر، {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، والمعوِّذتين، فقام الأعرابي قد برأ ليس به بأس.
قوله: به لَممٌ: طرف من الجنون يلم بالإنسان.
وفي كتاب فضائل القرآن من سنن الدارمي عن عبد الله بن مسعود t قال: لقي رجل من أصحاب النبي r رجلاً من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلاً شَخِيتًا كأن ذريعتيك ذُريِّعتا كلب، فكذلك أنتم معشر الجن، أم أنت من بينهم كذلك، قال: لا والله إني منهم لضليع، ولكن عاودني الثانية، فإن صرعتني علمتك شيئًا ينفعك، قال: نعم. قال: تقرأ {اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قال: نعم، قال: فإنك لا تقرؤها في بيت إلا خرج منه الشيطان له خبج كخبج الحمار، ثم لا يدخله حتى يصبح، قال أبو محمد: الضئيل: الدقيق، والشخيت: المهزول، والضليع: جيد الأضلاع، والخبج: الريح.
2- التعوذ بالله تعالى من الشيطان عند الغضب، والحرص على الوضوء، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة من حديث سليمان بن صرد قال: استب رجلان عند النبي r فجعل أحدهما تحمر عيناه، وتنتفخ أوداجه، قال رسول الله r: «إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، فقال الرجل: وهل ترى بي من جنون؟ قال ابن العلاء، فقال: وهل ترى ولم يذكر الرجل. فهذا دليل الاستعاذة من الشيطان عند الغضب. وأما دليل الوضوء فهو ما أخرجه أبو داود في كتاب الأدب عن أبي وائل القاص، قال: دخلنا على عروة بن محمد السعدي فكلمه رجل، فأغضبه، فقام فتوضأ، ثم رجع وقد توضأ، فقال: حدثني أبي عن جدي عطية، قال: قال رسول الله r: «إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ».
3- التعوذ كذلك بالله تعالى من الشيطان عند شراء البعير، ودليل ذلك ما أخرجه مالك في كتاب النكاح من الموطأ عن زيد بن أسلم أن رسول الله r قال: «إذا تزوج أحدكم المرأة أو اشترى الجارية فليأخذ بناصيتها وليدع بالبركة، وإذا اشترى البعير فليأخذ بذروة سنامه، وليستعذ بالله من الشيطان».
قال في «فيض القدير» بعد أن ذكر ما في الحديث من الحث على الاستعاذة من الشيطان عند شراء البعير: «لأن الإبل من مراكب الشيطان، فإذا سمع الاستعاذة فر... ويحتمل أن الأمر بالاستعاذة إنما هو لما في الإبل من العز والفخر والخيلاء كما يأتي إن شاء الله تعالى؛ فهو استعاذة من شر ذلك الذي يحبه الشيطان، ويأمر به، ويحث عليه»([88]). اهـ.
4- التعوذ بالله تعالى من الشيطان والتفل يسارًا عند وسوسته في الصلاة، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب السلام من صحيحه عن أبي العلاء أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي r فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يلبسها علي، فقال رسول الله r: «ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثًا»، قال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني.
5- التعوذ بالله تعالى من الشيطان عند دخول المسجد، ويشهد لذلك ما أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة من سننه عن حيوة بن شريح قال: لقيت عقبة بن مسلم، فقلت له: بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي r أنه كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، قال: أقط، قلت: نعم، قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم. قوله: أقط أي فقط وحسب.
6- التعوذ بالله تعالى من الخبث والخبائث عند دخول الخلاء، ويشهد له ما أخرجه أبو داود في الطهارة بسند صحيح أن النبي r كان إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» والمراد: ذكور الشياطين وإناثهم، قاله في عون المعبود.
7- البسملة عند الأكل، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب ألشربة من صحيحة عن حذيفة t قال: كنا إذا حضرنا مع النبي r طعامًا لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله r فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرةً طعامًا، فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهب لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله r بيدها، ثم جاء أعرابي، كأنما يدفع، فأخذ بيده، فقال رسول الله r: «إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذت بيدها، فجاءت بهذا الأعرابي ليستحل به، فأخذت بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدها».
8- التسمية وذكر الله عند الجماع، ويشهد لذلك ما أخرجه مسلم كذلك في كتاب النكاح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r: «لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله، قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدًا».
9- ذكر الله تعالى عند دخول المنزل، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب الأشربة من صحيحه عن جابر بن عبد الله أنه سمع النبي r يقول: «إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء».
ووقع في سنن أبي داود ذكر الدعاء الذي يقال عند دخول البيت، وهو ما رواه في كتاب الأدب من حديث أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله r: «إذا ولج الرجل بيته فليقل: الهم إني أسألك خير المولج، وخير المخرج، بسم الله ولجنا، وبسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا، ثم ليسلم على أهله».
10- التسمية عند عثور الدابة وغيرها، كما أخرج أبو داود في كتاب الأدب من سننه عن أبي المليح عن رجل قال: كنت رديف النبي r فعثرت دابة، فقلت: تعس الشيطان، فقال: «لا تقل: تعس الشيطان فإنك إذا قلت ذلك تعاظم حتى يكون مثل البيت، ويقول: بقوتي، ولكن قل: بسم الله، فإنك إذا قلت ذلك تصاغر الشيطان حتى يكون مثل الذباب».
11- ذكر الله تعالى عند الخروج من البيت، ويشهد لذلك ما أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله r: «من قال: يعني إذا خرج من بيته: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
12- الحرص على ذكر الله عند النوم، والحذر من ضد ذلك. ودليل ذلك ما أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r: «خلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة، ألا وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل، يسبح الله دبر كل صلاة عشرًا، ويحمده عشرًا، ويكبره عشرًا» قال: فأنا رأيت رسول الله r يعقدها بيده، قال: فتلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمس مائة في الميزان، وإذا أخذت مضجعك تسبحه، وتكبره، وتحمده مائة، فتلك مائة باللسان، وألف في الميزان، فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمس مائة سيئة، قالوا: فكيف لا يحصيها؟ قال: يأتي أحدكم الشيطان وهو في صلاته، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا، حتى ينفتل، فلعله لا يفعل، ويأتيه وهو في مضجعه، فلا يزال ينومه حتى ينام. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
والحديث كذلك أخرجه الطبري في تفسيره سورة المزمل، وابن حبان في صحيحه([89])، وابن ماجه في سننه ([90])، كلهم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
في مجال العبادات
1- الحرص على الأذان، ويشهد لذلك ما أخرجه مسلم في كتاب الصلاة من حديث جابر t قال: سمعت النبي r يقول: «إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة ذهب حتى يكون مكان الروحاء». قال سليمان ([91]) فسألته ([92]) عن الروحاء فقال: هي من المدينة ستة وثلاثون ميلاً.
وأخرج مسلم في الكتاب نفسه كذلك عن أبي هريرة t عن النبي r قال: «إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة أحال له ضراط حتى لا يسمع صوته، فإذا سكت رجع فوسوس، فإذا سمع الإقامة ذهب حتى لا يسمع صوته، فإذا سكت رجع فوسوس».
وفي شرح الزرقاني ([93]): «الشيطان: إبليس على الظاهر...، ويحتمل أن المراد جنس الشيطان، وهو كل متمرد من الجن أو الإنس، لكن المراد هنا شيطان الجن خاصة. وقوله: «له ضراط» جملة اسمية وقعت حالاً بدون واو لحصول الارتباط بالضمير، وفي رواية للبخاري: «وله» بالواو، وقال عياض: يمكن حمله على ظاهره، لأنه جسم متغذ، يصح منه خروج الريح، ويحتمل أنه عبارة عن شدة نفاره، ويقربه رواية عند مسلم: «له حُصاص» بمهملات، مضموم الأول، وفسره الأصمعي وغيره بشدة العدو، وقال الطيبي: شبه شغل الشيطان نفسه عن سماع الأذان بالصوت الذي يملأ السمع، ويمنعه عن سماع غيره، ثم سماه ضراطًا حتى لا يسمع النداء أي التأذين, وقيل: ظاهره أنه يتعمد إخراج ذلك إما ليشتغل بسماع الصوت الذي يخرجه عن سماع المؤذن، أو يصنع ذلك استخفافًا كما تفعله السفهاء، أو ليقابل ما يناسب الصلاة من الطهارة بالحدث، ويحتمل أنه لا يتعمد ذلك، بل يحصل له عند سماع الأذان شدة خوف يحدث له ذلك الصوت بسببها، وفيه استحباب رفع الصوت بالأذان؛ لأنه ظاهر في أنه يبعد إلى غاية ينتفي فيها سماعه للصوت، وقد بينت الغاية في قوله r في الحديث الآنف الذكر: «حتى يكون مكان الروحاء...».
2- الاستنثار ثلاث مرات عند الاستيقاظ من النوم، ويدل على ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب الطهارة من صحيحه عن أبي هريرة t أن النبي r قال: «إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خياشيمه يعني على أنفه».
3- الحرص على الصلاة مع الجماعة، ويشهد لذلك ما أخرجه النسائي في كتاب الإمام من سننه عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: قال لي أبو الدرداء: أين مسكنك؟ قلت: في قرية دون حمص، فقال أبو الدرداء t: سمعت رسول الله r يقول: «ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية» قال السائب: يعني بالجماعة: الجماعة في الصلاة.
وفي مسند الإمام أحمد عن عبادة بن نسي قال: كان رجل بالشام يقل له معدان ([94]) كان أبو الدرداء يقرئه القرآن، ففقده أبو الدرداء، فلقيه يومًا وهو بدابق ([95])، فقال له أبو الدرداء: يا معدان، ما فعل القرآن الذي معك، كيف أنت والقرآن اليوم، قال: قد علم الله منه فأحسن، قال يا معدان، أفي مدينة تسكن اليوم أو في قرية، قال: لا بل في قرية قريبة من المدينة، قال: مهلاً، ويحك يا معدان، فإني سمعت رسول الله r يقول: «ما من خمسة أهل أبيات لا يؤذن فيهم بالصلاة، وتقام فيهم الصلوات إلا استحوذ عليهم الشيطان، وإن الذئب يأخذ الشاذة» فعليك بالمدائن، ويحك يا معدان.
قال السيوطي: «استحوذ عليهم الشيطان: أي استولى عليهم وحولهم إليه، فعليكم بالجماعة، يأكل الذئب القاصية، قال في النهاية: هي المنفردة عن القطيع، البعيدة منه، يريد أن الشيطان يتسلط على الخارج من الجماعة وأهل السنة»([96]).
4- الحرص على تسوية الصفوف في الصلاة، ويشهد لذلك ما أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة من سننه عن أنس بن مالك عن رسول الله r قال: «رصوا صفوفكم وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنها الحذف». قوله: الحذف: أولاد الغنم.
قال أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي: «إسناده صحيح»([97]).
ومعنى الحديث: «صلوا صفوفكم بتواصل المناكب، وقاربوا بينها بحيث لا يسع بين كل صفين صف آخر حتى لا يقدر الشيطان أن يمر بين أيديكم، ويصير تقارب أشباحكم سببًا لتعاضد أوراحكم، وحاذوا بالأعناق بأن يكون عنق كل منكم على سمت عنق الآخر، يقال: حذوت النعل بالنعل إذا حاذيته به وحذاء الشيء إزاؤه؛ يعني لا يرتفع بعضكم على بعض، ولا عبرة بالأعناق أنفسها، إذ ليس على الطويل، ولا له أن ينحني حتى يحاذي عنقه عنق القصير الذي يجنبه»([98]).
5- اتخاذ السترة عند الصلاة، والقرب منها، ويشهد لذلك ما أخرجه النسائي في كتاب القبلة من حديث سهل بن أبي حثمة، قال: قال رسول الله r: «إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان عليه صلاته»، هذا لفظ النسائي، قال ابن عبد البر: «وهذا حديث مختلف في إسناده، ولكنه حديث حسن...»([99]).
وقد أخرجه كذلك الشافعي في «السنن المأثورة»([100])، وابن أبي شيبة في مصنفه ([101])، والطحاوي في «شرح معاني الآثار»([102])، والطبراني في «المعجم الكبير»([103])، وأبو الحسين عبد الباقي بن قانع في «معجم الصحابة»([104]).
6- الإقبال على الصلاة، والحذر من التفكير خارجها قدر المستطاع؛ ففي سنن النسائي، كتاب السهو ما يفيد أن الشيطان يبذل جهده ليجعل تفكير المسلم خارج صلاته لينقص أجره، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في صلاته، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا...» الحديث.
وفي سنن الترمذي، كتاب الدعوات: «يأتي أحدكم الشيطان وهو في صلاته، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا حتى ينفتل...» - أي ينصرف وينتهي – قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
7- الحذر من الالتفات في الصلاة، كما أخرج الترمذي في كتاب الجمعة من سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله r عن الالتفات في الصلاة قال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة الرجل». قال أبو عيسى: «هذا حديث حسن غريب»، والحديث رواه كذلك البخاري في الأذان، وأبو داود في الصلاة، والنسائي في السهو قال الشوكاني: «الاختلاس أخذ الشيء بسرعة، يقال: اختلس الشيء إذا استلبه... وفي النهاية: الاختلاس افتعال من الخلسة، وهو ما يؤخذ سلبًا, وقيل: المختلس الذي يخطف الشيء من غير غلبة، ويهرب، ونسب إلى الشيطان لأنه سبب له لوسوسته به، وإطلاق اسم الاختلاس على الالتفات مبالغة.
والحكمة في التنفير عنه ما فيه من نقص الخشوع، والإعراض عن الله تعالى، وعدم التصميم على مخالفة وسوسة الشيطان»([105]). اهـ.
8- الحرص على سجود السهو عند الشك في الصلاة، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب المساجد من صحيحه، والنسائي في السهو، وأحمد، والدارمي في كتاب الصلاة من سننه، من حديث أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله r: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى؟ ثلاثًا أم أربعًا، فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان قد صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان». وهذا لفظ مسلم.
9- عدم الخروج من الصلاة عند وسوسة الشيطان حتى يسمع المصلي صوتًا، أو يجد ريحًا، ويشهد لذلك ما أخرجه أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله r: «إن أحدكم إذا كان في الصلاة جاءه الشيطان، فأبس به كما يأبس الرجل بدابته، فإذا سكن له أضرط بين أليته ليفتنه عن صلاته، فإذا وجد أحدكم شيئًا من ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا لا يشك فيه».
وقوله r: «فأبس به كما يأبس الرجل بدابته» أي ضربه، كما يضرب الرجل دابته ليزجرها.
والحديث أخرجه بنحوه مسلم في الحيض، والترمذي وأبو داود وابن ماجه كلهم في كتاب الطهارة من السنن، ورواه كذلك الدارمي في الطهارة كذلك.
وأخرج أحمد كذلك من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله r: «إن أحدكم إذا كان في المسجد جاءه الشيطان فأبس منه كما يأبس الرجل بدابته، فإذا سكن له زنقه أو ألجمه». قال أبو هريرة: فأنتم ترون ذلك. أما المزنوق فتراه مائلاً كذا لا يذكر الله، وأما الملجوم فتراه فاتحًا فاه لا يذكر الله عز وجل.
وروى الطبراني في معجمه الكبير، والبزار، وسنده صحيح([106]) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي r سُئل الرجل يخيل إليه في صلاته أنه أحدث في صلاته ولم يحدث، فقال رسول الله r: «إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في صلاته حتى يفتح مقعدته، فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فإذا وجد أحدكم ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوت ذلك بأذنه، أو يجد ريح ذلك بأنفه».
10- الحذر من تحريك الحصى ونحوه والعبد يصلي، إذ أخرج النسائي في كتاب التطبيق من سننه عن عبد الله بن عمر أنه رأى رجلاً يحرك الحصى بيده، وهو في الصلاة، فلما انصرف قال له عبد الله: «لا تحرك الحصى وأنت في الصلاة، فإن ذلك من الشيطان، ولكن اصنع كما كان رسول الله r يصنع، قال: وكيف كان يصنع، قال: فوضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بأصبعه التي تلي الإبهام في القبلة، ورمى ببصره إليها أو نحوها، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله r يصنع».
والحديث رواه كذلك الإمام ابن حبان في صحيحه ([107])، وابن أبي شيبة في مصنفه([108])، وعبد الرزاق كذلك في مصنفه ([109]) بنحوه، وغيرهم.
11- الحذر من الصلاة في أعطان الإبل ([110])، ويدل عليه ما أخرجه ابن ماجه في كتاب المساجد والجماعات من سننه وأحمد في المسند من حديث عبد الله بن مغفل المزني قال: قال النبي r: «صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين».
وأخرج الشافعي في مسنده([111]) من حديث عبد الله بن مغفل كذلك عن النبي r قال: «إذا أدركتم الصلاة وأنتم في مراح الغنم، فصلوا فيها؛ فإنها سكينة وبركة، وإذا أدركتم الصلاة وأنتم في أعطان الإبل، فاخرجوا منها، فصلوا فإنها جن من جن خلقت، ألا ترونها إذا نفرت كيف تشمخ بأنفها».
وقد اختلف في علة النهي عن الصلاة في معاطن الإبل، وأقرب الأقوال في ذلك كون الإبل لا تكاد تهدأ، ولا تقر في العطن، بل تثور، فربما قطعت على المصلي صلاته([112])، ويمكن أن يضاف إلى ذلك القول الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: «والصحيح أن العلة في الحمام وأعطان الإبل ونحو ذلك أنها مأوى الشياطين»([113])، فيجمع بين المعنيين، والله أعلم.
12- قيام الليل، كما أخرج مسلم في كتاب صلاة المسافرين من حديث أبي هريرة t يبلغ به النبي r: «يعقد الشيطان على قافية أحدكم ثلاث عقد، إذا نام بكل عقدة، يضرب عليك ليلاً طويلاً، فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، وإذا توضأ انحلت عقدتان، فإذا صلى انحلت العقد، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان».
وفي صحيح مسلم كذلك، كتاب صلاة المسافرين، من حديث أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: ذكر عند رسول الله r رجل نام ليلة حتى أصبح قال:« ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه» أو قال:« في أذنه». قال ابن عبد البر في معنى الحديث الأول: «إن الشيطان ينوم المرء ويزيده ثقلاً وكسلاً بسعيه، وما أعطي من الوسوسة والقدرة على الإغواء والتضليل، وتزيين الباطل والعون عليه إلا عباد الله المخلصين. وفي هذا الحديث دليل على أن ذكر الله تعالى يطرد به الشيطان، وكذلك الوضوء والصلاة، ويحتمل أن يكون الذكر الوضوء والصلاة، لما فيهما من معنى الذكر، فخص بهذا الفضل في طرد الشيطان، ويحتمل أن يكون كذلك سائر أعمال البر – والله أعلم -، فمن قام من الليل يصلي انحلت عقده، فإن لم يفعل أصبح على ما قال r إلا أنه تنحل عقده بالوضوء للفريضة وصلاتها – والله أعلم -. وأما طرد الشيطان بالتلاوة والذكر والأذان فمجمع عليه، مشهور في الآثار.
قال ابن عبد البر: وفي هذا الحديث حض على قيام الليل، لأن فيه أنه يصبح طيب النفس نشيطًا بعد ذكر الوضوء والصلاة»([114]).
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: «فأصبح نشيطًا طيب النفس» معناه: لسروره بما وفقه الله الكريم له من الطاعة، ووعده به من ثوابه، مع ما يبارك له في نفسه وتصرفه في كل أموره مع ما زال عنه من عقد الشيطان، وتثبيطه»([115]).
13- الحرص على الصيام، إذا أخرج أحمد في مسنده من حديث أبي ذر t قال: سمعت رسول الله r يقول: «صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر، ويذهب مغلة الصدر»، قال: قلت وما مغلة الصدر؟ قال: «رجس الشيطان».
والحديث أخرجه كذلك الطيالسي في مسنده ([116])، والبيهقي في شعب الإيمان ([117]) كلاهما عن أبي ذر رضي الله عنهما.
14- الحرص على الحج وشهود يوم عرفة، ويشهد لذلك ما أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحج من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله r قال: «ما رئي الشيطان يومًا هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر»، قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: «أما إنه قد رأى جبريل يزع الملائكة». قوله: يزع أي يصف ويرتب.
قال ابن عبد البر: «هذا حديث حسن في فضل شهود ذلك الموقف المبارك، وفيه دليل على الترغيب في الحج, وفيه الخبر عن حسد إبليس وعداوته...»([118]).
قلت: وهذا الحديث أخرجه كذلك الطبري في تفسيره، وعبد الرزاق في مصنفه، والبيهقي في شعب الإيمان، والديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب، والفاكهي في أخبار مكة.
في مجال التعامل مع الآخرين
ومن السبل التي يمكن للمسلم عن طريقها السلامة من أشرار الشيطان عند تعامله مع الآخرين ما يأتي:
1- الحرص على المودة والمحبة بين المسلمين، والحذر من التباغض والتنافر، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار من صحيحه عن جابر t قال: سمعت النبي r يقول: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم».
والحديث رواه جمع من الأئمة كذلك، منهم الترمذي في سننه، كتاب البر والصلة، وأحمد في عدة مواضع من المسند، وأبو يعلى في مسنده.
قال في «فيض القدير»: «فالمراد أن الشيطان أيس أن يعود أحد من المؤمنين على عبادة الصنم، ويرتد إلى شركه في جزيرة العرب، وارتداد بعض العرب لا ينافي يأسه، فلا يرد نقضًا، أو لأنهم لم يعبدوا الصنم، أو لأن المراد أن المصلين لا يجمعون بين الصلاة وعبادة الشيطان»، «ولكن في التحريش بينهم» خبر مبتدأ محذوف، أي وهو في التحريش، أو ظرف لمقدر، أي يسعى في التحريش، أي في إغراء بعضهم على بعض، وحملهم على الفتن والحروب والشحناء، قال القاضي: والتحريش الإغراء على الشيء بنوع من الخداع؛ من حرش الضب الصياد: خدعه، وله من دقائق الوسواس ما لا يفهمه إلا البصراء بالمعارف الإلهية، قال بعض الأئمة: إنما خص جزيرة العرب لأنها مهبط الوحي...»([119]).
2- لزوم الجماعة، ويشهد لذلك ما أخرجه الترمذي في كتاب الفتن من سننه عن ابن عمر قال: خطبنا عمر بالجابية، فقال: يا أيها الناس إني قمت فيكم كما قام رسول الله r فينا فقال: «أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلق الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد، ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، من سرته حسنته، وساءته سيئته، فذلكم المؤمن». قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه وأخرجه بنحوه البيهقي في السنن الكبرى، وابن أبي عاصم في السنة، وفي كتاب تحريم الدم من سنن النسائي من حديث عرفجة بن شريح الأشجعي قال: رأيت النبي r على المنبر يخطب الناس، فقال: «إنه سيكون بعدي هنات وهنات، فمن رأيتموه فارق الجماعة أو يريد أن يفرق أمة محمد r كائنًا من كان فاقتلوه، فإن يد الله على الجماعة، فإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض».
3- الحذر من الجدال والمراء بغير حاجة، ويشهد لذلك ما أخرجه الدارمي في المقدمة من سننه عن محمد بن واسع قال: كان مسلم بن يسار يقول: «إياكم والمراء فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلته».
والحديث رواه كذلك أبو نعيم في: «حلية الأولياء»([120])، وابن سعد في الطبقات الكبرى»([121]).
4- عدم المبالغة في المدح، ويشهد لذلك ما أخرجه أبو داود في كتاب ألأدب من سننه عن أبي نضرة عن مطرف قال: قال أبي: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله r فقلنا: أنت سيدنا، فقال: « السيد لله تبارك وتعالى» قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً، فقال: «قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان»، وروى أحمد في مسنده من حديث أنس t: أن رجلاً قال: يا محمد، يا خيرنا، وابن خيرنا، ويا سيدنا، وابن سيدنا، فقال: «قولوا بقولكم ولا يستجركم الشيطان»- أو الشياطين, قال: إحدى الكلمتين- « أنا محمد عبد الله ورسوله، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل».
5- أن يحرص القاضي على العدل ويحذر من الجور، ويشهد لذلك ما ثبت في سنن الترمذي كتاب الأحكام، من حديث عبد الله بن أبي أوفى، قال: قال رسول الله r: «إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى عنه، ولزمه الشيطان».
والحديث أخرجه البيهقي كذلك في سننه الكبرى([122]) بلفظ «إن الله عز وجل مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار برئ الله منه، ولزمه الشيطان»، وأخرجه كذلك الديلمي في «الفردوس بمأثور الخطاب»([123]) بلفظ: «إن الله عز وجل مع القاضي ما لم يخن، فإذا خان برئ الله منه، ولزمه الشيطان».
قال في «فيض القدير»([124]) شارحًا الحديث: «إن الله مع القاضي بعونه وإرشاده وإسعافه، وإسعاده ما لم يجر في حكمه أي يتعمد الظلم فيه، فإذا جار فيه تخلى الله؛ أي قطع عنه تسديده، وتوفيقه، ولزمه الشيطان يغويه، ويضله؛ ليخزيه غدًا، ويذله؛ لما أحدثه من الجور، وارتكبه، من الباطل، وتحلى به من خبيث الشمائل، وقبيح الرذائل».
6- عدم الإشارة إلى المسلم بالسلاح ولو مازحًا؛ كما أخرج ما يدل على ذلك مسلم في كتاب البر والصلة والآداب من صحيحه وغيره عن أبي هريرة t عن رسول الله r فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله r: «لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم: لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار».
قال النووي: «قوله r: «لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده» هكذا في جميع النسخ «لا يشير» بالياء بعد الشين، وهو صحيح، وهو نهي بلفظ الخبر كقوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ}([125])، وقد قدمنا مرات أن هذا أبلغ من لفظ النهي، «ولعل الشيطان ينزع» ضبطناه بالعين المهملة، وكذا نقله القاضي عن جميع روايات مسلم، وكذا هو في نسخ بلادنا، ومعناه: يرمي في يده، ويحقق ضربته، ورميته، وروي في غير مسلم بالغين المعجمة، وهي بمعنى الإغراء، أي يحمل على تحقيق الضرب به، ويزين ذلك»([126]). اهـ.
في مجال البيت والأسرة والمجتمع
1- إغلاق الأبواب، وإيكاء الأسقية، وتغطية الإناء، وإطفاء السراج عند النوم، ففي كتاب الأشربة من صحيح مسلم عن جابر t عن رسول الله r أنه قال: «غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، وأغلقوا الباب، وأطفئوا السراج، فإن الشيطان لا يحل سقاء، ولا يفتح بابًا، ولا يكشف إناء، فإن لم يجحد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودًا، ويذكر اسم الله فليفعل، فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم».
والحديث رواه كذلك أبو عوانة في مسنده ([127])، والبيهقي في السنن الكبرى ([128])، وابن ماجه في سننه، وغيرهم.
قال في «فيض القدير»: «غطوا الإناء» : أي استروه، والتغطية: الستر، والأمر للندب سيما في الليل، وأوكثوا السقاء مع ذكر اسم الله في هذه الخصلة وما قبلها وما بعدها من الخصال، فاسم الله هو السور الطويل العريض، والحجاب الغليظ المنيع من كل سوء»([129]).
وقال ابن حجر: «قال ابن دقيق العيد: في الأمر بإغلاق الأبواب من المصالح الدينية والدنيوية حراسة الأنفس والأموال من أهل العبث والفساد ولا سيما الشياطين، وأما قوله: «فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا»: فإشارة إلى الأمر بالإغلاق لمصلحة إبعاد الشيطان عن الاختلاط بالإنسان، وخصه بالتعليل تنبيهًا على ما يخفى مما لا يطلع عليه إلا من جانب النبوة، قال: واللام في (الشيطان) للجنس، إذ ليس المراد فردًا يعينه»([130]).
وأما أمره عليه الصلاة والسلام بإطفاء السراج فقد جاء الخبر بذلك عن النبي r فيما أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان والحاكم من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «جاءت فأرة، فجرت الفتيلة، فألقتها بين يدي النبي r على الخمرة التي كان قاعدًا عليها، فأحرقت منها مثل موضع الدرهم، فقال النبي r: «إذا نمتم فأطفئوا سراجكم، فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا، فيحرقكم» قال ابن حجر: «وفي هذا الحديث بيان سبب الأمر أيضًا، وبيان الحامل للفويسقة – وهي الفأرة – على جر الفتيلة، وهو الشيطان، فيستعين- وهو عدو الإنسان- عليه بعدو آخر، وهي النار، أعاذنا الله بكرمه من كيد الأعداء إنه رءوف رحيم»([131]). اهـ.
وقد نقل بعض أهل العلم أنه لا يدخل ههنا ما يؤمن معه الضرر كالقنديل([132]).
2- عدم قتل الحيات في البيوت إلا بعد تهديدها ثلاثة أيام، ويستثنى من ذلك نوعان من الحيات تقتل بدون تهديد، لأن الجني لا يتصور بصورتهما، كما أخرج مسلم في كتاب السلام عن عمر ابن نافع قال: «كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يومًا عند هدم ([133]) له، فرأى وبيص جان، فقال: اتبعوا هذا الجان فاقتلوه، فقال أبو لبابة الأنصاري t: إني سمعت رسول اله r نهى عن قتل الجنان التي تكون في البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين، فإنهما اللذان يخطفان البصر، ويتبعان ما في بطون النساء» فنهى عليه الصلاة والسلام عن قتل الحيات في البيوت قبل تهديدها إلا هذين النوعين، وهما الأبتر، وهو قصير الذنب، وقال نضر بن شميل: هو صنف من الحيات أرزق مقطوع الذنب، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها، وذو الطفيتين وهما خطان أبيضان على ظهر الحية.
وأما الدليل على عدم قتل الحيات في البيوت إلا بعد تهديدها ثلاثة أيام فهو ما أخرجه مسلم كذلك في كتاب السلام من حديث أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله r: «إن بالمدينة نفرًا من الجن قد أسلموا، فمن رأى شيئًا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثًا، فإن بدا له بعد, فليقتله فإنه شيطان».
ويدل على ذلك قصة الفتى الأنصاري التي تقدمت في موضع سابق عندما قتل تلك الحية العظيمة في بيته، فمات بعد قتلها، فلما ذكروا ذلك لرسول الله r قال: «استغفروا لصاحبكم» ثم قال: «إن بالمدينة جنًا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان».
قال الزرقاني: «ولا يفهم من الحديث أن الذي قتله الفتى مسلم، وأن الجن قتلته قصاصًا وإن شرع بين الإنس والجن لكن شرطه العمد، والفتى لم يتعمد قتل نفس مسلمة، وإنما قتل مؤذيًا يسوغ له قتل نوعه شرعًا، فهو من القتل خطأ، فالأولى أن يقال: إن فسقة الجن قتلته بصاحبهم عدوانًا، وإنما قال r: «إن بالمدينة جنًا قد أسلموا ليبين طريقًا يحصل بها التحرز عن قتل المسلم منهم، ويسلط به على قتل الكافر منهم»([134]).
فإن قال قائل: كيف الإنذار؟
قيل: جاء الجواب عن ذلك فيما رواه الترمذي وحسنه عن أبي ليلى قال، قال رسول الله r: «إذا ظهرت الحية في المسكن، فقولوا لها: نسألك بعهد نوح، وبعهد سليمان بن داود لا تؤذينا، فإن عادت فاقتلوها».
وقال مالك: يكفي أن يقال: أحرج عليكم بالله واليوم الآخر أن لا تبدوا لنا ولا تؤذونا. قال عياض: أظنه أخذه من رواية لمسلم عن أبي سعيد فقال: «إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم شيئًا منها فحرجوا عليها ثلاثًا»([135]).
وهل النهي عن قتل الحيات ببيوت المدينة أو عام؟ قولان للعلماء، وظاهر الحديث النهي عن قتل حيات البيوت على التعميم إلا بعد الإنذار، أما في البراري والصحاري فقتل من غير إنذار، ورجح ابن عبد البر أنه في بيوت المدينة خاصة ([136])، والأظهر والله أعلم الأول ([137]).
3- كف الصبيان عند دخول المساء، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب الأشربة من صحيحه من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله r: «إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم؛ فإن الشيطان ينتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل، فخلوهم...» الحديث.
قال في «فيض القدير»: «إذا كان جنح الليل- بضم الجيم وكسرها- أي أقبل ظلامه، قال الطيبي: جنح الليل طائفة منه، وأراد به هنا الطائفة الأولى منه عند امتداد فحمة العشاء، « فكفوا صبيانكم» : ضموهم وامنعوهم من الخروج ندبًا فيه، وقال الظاهرية: وجوبًا، «فإن الشيطان» يعني الجن، وفي رواية «للشيطان» ولامه للجنس، «تنتشر حينئذ» أي حين فحمة العشاء؛ لأن حركتهم ليلاً أمكن منها نهارًا، إذ الظلام أجمع لقوى الشيطان، وعند ابتداء انتشارهم يتعلقون بما يمكنهم التعلق به فخيف على الأطفال من إيذائهم. «فإذا ذهب ساعة من الليل» وفي رواية: «من العشاء» فحلوهم: بحاء مهملة مضومة في صحيح البخاري، وفي رواية له أيضًا بخاء معجمة مفتوحة، وحكي ضمها، أي فلا تمنعوهم من الخروج والدخول»([138]). اهـ.
ويحسن التنبيه ههنا إلى رواية موضوعة حول الحث على اتخاذ الحمام المقاصيص ([139])، وأنها تلهي الجن عن الصبيان، وهي ما روي عن ابن عباس مرفوعًا: «اتخذوا الحمام المقاصيص؛ فإنها تهلي الجن عن صبيانكم» وسبب كون هذه الرواية موضوعة، مكذوبة على النبي r لأنها من رواية محمد بن زياد اليشكري الميموني الطحان، وقد قال فيه أحمد بن حنبل: كذاب أعور، يضع الحديث. وقال ابن معين: كذاب، وقال ابن المديني: رميت بما كتبت عنه، وضعفه جدًا، وقال أبو زرعة: كان يكذب، وقال الدارقطني كذاب ([140]).
وقال أبو حاتم البستي: «كان ممن يضع الحديث على الثقات، ويأتي عن الأثبات بالأشياء المعضلات لا يحل ذكره في الكتب إلا على جهة القدح، ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار عند أهل الصناعة خصوصًا عند غيرهم» ثم ذكر عدة روايات، ومنها اللفظ الآنف الذكر «اتخذوا الحمام المقاصيص» الخ ([141]).
4- الإعراض عن آلات الطرب، والمزامير، قال القرطبي عند قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا}: «وفي الآية ما يدل على تحريم المزامير والغناء واللهو لقوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ} على قول مجاهد: «وما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يستحسنه فواجب التنزه عنه»([142]).
وأخرج البيهقي في «السنن الكبرى»([143]) عن عبد الله بن دينار قال: مر ابن عمر بجارية صغيرة تغني، فقال: لو ترك الشيطان أحدًا ترك هذه.
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود t قال: إذا ركب الرجل الدابة ولم يسمِّ ردفه شيطان، فقال: تغنه، فإن كان لا يحسن قال له: تمنه ([144]).
وأخرج ابن أبي الدنيا كذلك أن مما كتب عمر بن عبد العزيز يرحمه الله إلى مؤدب ولده: «وليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من حملة العلم: أن حضور المعازف واستماع الأغاني، واللهج بهما ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب»([145]).
5- إماطة الأذى عن اللقمة إذا سقطت ثم أكلها، ويشهد لذلك ما أخرجه مسلم في كتاب الأشربة من صحيحه عن جابر t قال: سمعت رسول الله r يقول: «إن الشيطان يحضر أحدكم عنك كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى، ثم ليأكلها، ولا يدعها للشيطان، فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه تكون البركة».
والحديث أخرجه كذلك ابن حبان في صحيحه ([146])، والبيهقي في السنن الكبرى ([147])، وأحمد في عدة مواضع من المسند، وعبد ابن حميد في المنتخب ([148]) والطبراني في معجمه الكبير ([149])، وأبو الشيخ في «طبقات المحدثين بأصفهان»، وغيرهم، والمراد بالشيطان الجنس، فلا يختص بواحد من الشياطين، قال أبو زرعة ([150])، قال في «شرح سنن ابن ماجة»([151]): «قوله: ولا يدعها للشيطان، إنما صار تركها للشيطان لأن فيه إضاعة نعمة الله تعالى, ثم إنه من أخلاق المتكبرين، والمانع عن تناول تلك اللقمة في الغالب هو الكبر، وذلك من عمل الشيطان».
6- كظم التثاؤب وعدم إخراج الصوت، ويدل على ذلك ما أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق عن أبي هريرة t أن رسول الله r قال: «التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع».
وأخرج كذلك في الكتاب نفسه عن سهيل بن أبي صالح قال: سمعت ابنًا لأبي سعيد الخدري يحدث أبي عن أبيه قال: قال رسول الله r: «إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه فإن الشيطان يدخل»، وأخرج الترمذي في كتاب الأدب من سننه من حديث أبي هريرة t أن رسول الله r قال: «العطاس من الله، والتثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه، وإذا قال: آه آه فإن الشيطان يضحك من جوفه، وإن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب».
وفي سنن الترمذي كذلك من حديث أبي هريرة أن النبي r قال: «التثاؤب في الصلاة من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع». قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
قال ابن حجر: «قال ابن بطال: إضافة التثاؤب إلى الشيطان بمعنى إضافة الرضا والإرادة؛ أي إن الشيطان يحب أن يرى الإنسان متثائبًا، لأنها حالة تتغير فيها صورته، فيضحك منه، لا أن المراد أن الشيطان فعل التثاؤب، وقال ابن العربي: قد بينا أن كل فعل مكروه نسبه الشرع إلى الشيطان لأنه واسطته، وأن كل فعل حسن نسبه الشرع إلا الملك لأنه واسطته. قال والتثاؤب من الامتلاء، وينشأ عنه التكاسل، وذلك بواسطة الشيطان، والعطاس من تقليل الغذاء، وينشأ عنه النشاط، وذلك بواسطة الملك. وقال بعضهم: «أضيف التثاؤب إلى الشيطان لأنه يدعو إلى الشهوات، إذ يكون عن ثقل البدن واسترخائه وامتلائه، والمراد: التحذير من السبب الذي يتولد منه ذلك وهو التوسع في المأكل»([152]).
7- عدم الخلوة بالمرأة الأجنبية، ويشهد لذلك ما أخرجه الترمذي في كتاب الرضاع من حديث عقبة بن عامر t أن رسول الله r قال: «إياكم والدخول على النساء، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، فأريت الحمو، قال: الحمو الموت».
قال: وفي الباب عن عمر وجابر وعمرو بن العاص. قال أبو عيسى: حديث عقبة بن عامر حديث حسن صحيح، وإنما معنى كراهية الدخول على النساء على نحو ما روي عن النبي r قال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان».
قال في «فيض القدير: «إلا كان ثالثهما الشيطان» بالوسوسة وتهييج الشهوة ورفع الحياء، وتسويل المعصية حتى يجمع بينهما بالجماع أو فيما دونه من مقدماته التي توشك أن توقع فيه، والنهي للتحريم، واستثنى ابن جرير كالثوري ما منه بد كخلوته بأمة زوجته التي تخدمه حال غيبتها»([153]).
وقال الشوكاني: قوله: لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، سبب ذلك أن الرجل يرغب إلى المرأة؛ لما جبل عليه من الميل إليها؛ لما ركب فيه من شهوة النكاح، وكذلك المرأة ترغب إلى الرجل.. فمع ذلك يجد الشيطان السبيل إلى إثارة شهوة كل واحد منهما إلى الآخر، فتقع المعصية»([154]). اهـ.
وقد أدرك السلف رحمهم الله تعالى خطورة هذه الخلوة، فكانوا يحذرون منها أشد الحذر، كما قال عطاء بن أبي رباح يرحمه الله: «لو ائتمنت على بيت مال لكنت أمينًا، ولا آمن نفسي على أمة شوهاء»، قال الذهبي معقبًا: «قلت: صدق رحمه الله ففي الحديث: «ألا لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان»([155])، والحديث أخرجه أحمد، والترمذي في الفتن، والحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي.
8- عدم خروج المرأة من منزلها إلا لضرورة ملحة؛ ففي كتاب الرضاع من سنن الترمذي عن عبد الله بن مسعود عن النبي r قال: «المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني يرحمه الله.
وأخرج ابن خزيمة في صحيحه ([156]) الحديث السابق، وزاد في آخره: «وأقرب ما تكون من وجه ربها وهي في قعر بيتها»، وأخرج هذه الزيادة بنحوها ابن حبان ([157]).
وعند الطبراني في الكبير ([158]): «إن المرأة عورة، وإنها إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان، فتقول: ما رآني أحد إلا أعجبته، وأقرب ما تكون إلا الله إذا كانت في قعر بيتها».
قال في «فيض القدير»: «استشرفها الشيطان» يعني رفع البصر إليها ليغويها أو يغوي بها، فيوقع أحدهما أو كليهما في الفتنة, وقال الطيبي: المعنى المتبادر أنها ما دامت في خدرها لم يطمع الشيطان فيها، وفي إغواء الناس، فإذا خرجت طمع، وأطمع لأنها حبائله، وأعظم فخوخه».
والذي هو حق لا مرية فيه أن الإسلام إنما دعا المرأة المسلمة إلى لزوم بيتها لأن في ذلك صيانة عفتها، وحفظ حيائها، ودفع الفتن عنها وبها، ولذا حث السلف على لزومها بيتها، وذكروا أن صلاتها في بيتها خير لها من صلاتها في المسجد، قال الثوري: «ليس للمرأة خير من بيتها، وإن كانت عجوزًا»([159]).
وقال كذلك: «أكره اليوم للنساء الخروج إلى العيدين»([160]).
وقال ابن المبارك: «أكره اليوم للنساء الخروج في العيدين، فإن أبت المرأة إلا أن تخرج فليأذن لها زوجها أن تخرج في أطهارها، ولا تتزين، فإن أبت أن تخرج كذلك فللزوج أن يمنعها من ذلك»([161]).
وقال أبو حنيفة: «كان النساء يرخص لهن في الخروج إلى العيد، فأما اليوم فإني أكرهه، قال: وأكره لهم شهود الجمعة، والصلاة المكتوبة في الجماعة، وأرخص للعجوز الكبيرة أن تشهد العشاء والفجر، فأما غير فلا»([162]).
وهذا الكلام يقوله هؤلاء الأئمة عن زمانهم، فكيف لو رأوا زماننا هذا، وما فيه من فتن النساء، مع جلب الفساق لبلاد المسلمين كل ما يغري بهن من ألوان الفتن، فالله المستعان.
في مجال التجارة والدخول إلى الأسواق
1- أن يحرص التجار على الصدقة، يدل على ذلك ما أخرجه الترمذي في كتاب البيوع من سننه، عن قيس بن أبي غَرَزة، قال: خرج علينا رسول الله r ونحن نسمى السماسرة، فقال: «يا معشر التجار إن الشيطان والإثم يحضران البيع، فشوبوا بيعكم بالصدقة». قال أبو عيسى: حديث قيس بن أبي غرزة حديث حسن صحيح، رواه منصور، والأعمش، وحبيب بن أبي ثابت، وغير واحد عن أبي وائل عن قيس بن أبي غرزة، ولا نعرف لقيس عن النبي r غير هذا.
قوله: السماسرة مفرده سمسار، وهو القائم على بيع سلعة الغير بمقابل.
2- أن يحذر المرء من التردد على الأسواق بدون حاجة ملحة، وإذا خرج إليها قضى حاجته، وخرج بسرعة. أخرج مسلم في كتاب فضائل الصحابة من صحيحه عن معتمر بن سليمان قال: سمعت أبي حدثنا أبو عثمان عن سلمان قال: لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته... الحديث
قال النووي: «قوله في السوق «إنها معركة الشيطان» قال أهل اللغة: المعركة بفتح الراء، موضع القتال لمعاركة الأبطال بعضهم بعضًا فيها، ومصارعتهم، فشبه السوق وفعل الشيطان بأهلها، ونيله منهم بالمعركة، لكثرة ما يقع فيها من أنواع الباطل كالغش والخداع، والأيمان الخائنة، والعقود الفاسدة، والبيع على بيع أخيه، والشراء على شرائه، والسوم على سومه، وبخس المكيال والميزان. قوله: «وبها ينصب رايته» إشارة إلى ثبوته هناك، واجتماع أعوانه إليه للتحريش بين الناس وحملهم على هذه المفاسد المذكورة ونحوها، فهي موضعه، وموضع أعوانه»([163]).
وقال القرطبي إن هذا الحديث يدل على «كراهة دخول الأسواق لا سيما في هذه الأزمان([164]) التي يخالط فيها الرجال النسوان، وهكذا قال علماؤنا: لما كثر الباطل في الأسواق، وظهرت فيها المناكر كره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدين، تنزيهًا لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها، فحق على من ابتلاه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل محل الشيطان، ومحل جنوده، وأنه إن قام هنالك هلك، ومن كانت هذه حاله اقتصر منه على قدر ضرورته، وتحرز من سوء عاقبته وبليته»([165]).
في مجال السفر
1- أن يحرص المسافر إذا سافر أن يكون معه اثنان فأكثر؛ إذ أخرج ابن خزيمة، والحاكم، والترمذي، والبيهقي في السنن الكبرى، وأبو داود ومالك في الموطأ، وأحمد في المسند من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي r قال: «الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب» وهذا لفظ أحمد. وحسنه في «الفتح»([166]).
قال ابن قتيبة في معنى الحديث: «إن الشيطان يطمع في الواحد كما يطمع فيه اللص والسبع، فإذا خرج وحده فقد تعرض للبلاء به فكان شيطانًا، والراكبان شيطانان؛ لأن كلاً منهما متعرض لذلك سيما بذلك لأن كل واحد من القبيلين يسلك سبيل الشيطان في اختياره الوحدة في السفر»([167]).
وقال النبي r: «والثلاثة ركب»؛ لزوال الوحشة وحصول الأنس وانقطاع الطماع عنهم.
ولا يتعارض ذلك مع خروج النبي r مع أبي بكر t مهاجرين؛ وذلك لضرورة الخوف على أنفسهما من المشركين، أو لأن من خصائصه عدم كراهة الانفراد في السفر وحده لأمنه من الشيطان بخلاف غيره كما ذكره الحافظ العراقي.
وإيراد النبي r البريد وحده إنما هو لضرورة طلب السرعة في إبلاغ ما أرسل به، على أنه كان يأمره أن ينضم في الطريق لرفقاء، فسقط ما لبعض الضالين هنا من زعم التناقض ([168]).
2- الحرص على الاجتماع وترك التفرق في الأودية والشعاب ونحوها عند النزول في منزل من المنازل حال السفر ونحوه.
أخرج أبو داود في كتاب الجهاد من سننه عن أبي ثعلبة الخشني t قال: كان الناس إذا نزلوا منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله r: «إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان» قال: فلم ينزلوا بعد منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض، حتى لو بسط عليهم ثوب لعمهم.
والحديث رواه كذلك ابن حبان في صحيحه ([169])، والحاكم وصححه ([170])، والبيهقي في السنن الكبرى ([171]).
قال في «عون المعبود» مبينًا معنى: «إن تفرقكم من الشيطان» أي ليخوف أولياء الله، ويحرك أعداءه».
فهرس المحتويات
مقـدمــة
تعريف الجن: لغة واصطلاحًا
حكم الإيمان بوجود الجن
صفات الجن
فصل في إيذاء الجن للإنس وكيفية ذلك
سبل الوقاية من شر شياطين الجن
في مجال الأذكار
في مجال العبادات
في مجال التعامل مع الآخرين
في مجال البيت والأسرة والمجتمع
في مجال التجارة والدخول إلى الأسواق
في مجال السفر
فهرس المحتويات
* * * *
([1]) أي لا يرون على طبيعتهم وصورتهم الحقيقة كما سيأتي في تعريفهم، وبذلك يعلم عدم التعارض بين هذا القول، وما ورد أنهم يتشكلون في صور البشر، والحيات والكلاب وغير ذلك وبذلك يفهم قول الشافعي: «من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته» أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (9/141) فإنه يريد على طبيعتهم وصورتهم الحقيقية.
([2]) انظر «القاموس المحيط» ص1532، مادة (جنن)، و «لسان العرب» (13/95).
([3]) سورة النجم: 32.
([4]) انظر «المفردات» ص98.
([5]) انظر «تهذيب اللغة» للأزهري (10/499).
([6]) انظر «الفصل في الملل والأهواء والنحل» لابن حزم (5/12)، و «فتح الباري» (6/344)، و «فيض القدير» (1/113)
([7]) سورة البقرة: 102.
([8]) سورة الأنعام: 112.
([9]) سورة البقرة: 14.
([10]) المفردات للراغب الأصفهاني، وانظر «فتح الباري» (6/344).
([11]) (5/12).
([12]) «مجموع الفتاوى» (19/10، 11).
([13]) سورة الحجر: 27.
([14]) سورة الرحمن: 15. وانظر «الإحكام» لابن حزم (2/166).
([15]) (9/119).
([16]) سورة الأعراف: 179.
([17]) «التمهيد» (11/116).
([18]) سورة الكهف: 50.
([19]) «جامع البيان» (8/237).
([20]) المرجع السابق.
([21]) للإمام العظيم آبادي (1/12)، وانظر «فيض القدير» للمناوي (1/99).
([22]) «مجموع الفتاوى» (19/39)، وانظر «حاشية ابن القيم» (14/8).
([23]) سورة الرحمن: 56.
([24]) (7/315).
([25]) سورة الذاريات: 56-58.
([26]) بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم (4/248).
([27]) سورة إبراهيم: 4.
([28]) سورة سبأ: 28.
([29]) سورة الجن: 11.
([30]) (8/240).
([31]) «فتح الباري» (6/345)، وانظر «التمهيد» لابن عبد البر (11/117).
([32]) سورة الجن: 14، 15.
([33]) سورة الأحقاف: 29-32.
([34]) سورة الجن: 17، ومعنى (صعدًا) أي شاقًا.
([35]) سورة فصلت: 33.
([36]) موضع قرب مكة.
([37]) قال النووي: الصواب «بنخلة» مكان معروف.
([38]) هو ابن مسعود t.
([39]) سورة الإسراء: 57.
([40]) انظر «معجم الطبراني الكبير» (4/211).
([41]) انظر «مسند البزار» (7/97) برقم (2655)، وانظر «حلية الأولياء» (6/245)، وانظر «الإرشاد» لأبي يعلي (2/187).
([42]) (6/357).
([43]) (2/316).
([44]) (2/339).
([45]) قال في مجمع الزوائد (9/199): «رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه»، وانظر «فيض القدير» (1/205).
([46]) لم أقف عليه.
([47]) «فتح الباري» (7/4)، وانظر «لسان الميزان» (7/301).
([48]) انظر «فتح الباري» (4/114)، وانظر «تحفة الأحوذي» للمبارك فوري (3/291).
([49]) (3/291).
([50]) سورة سبأ: 14.
([51]) «الجامع لأحكام القرآن» (14/179، 180).
([52]) سورة الأنفال: 48.
([53]) «التمهيد» (14/229).
([54]) سورة الأنعام: 112.
([55]) «التمهيد» (14/233، 234).
([56]) سورة النمل: 39.
([57]) سورة سبأ: 13.
([58]) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: أراد بها الأعواد التي في سقف البيت.
([59]) «فتح الباري» (10/180).
([60]) المرجع السابق (10/181).
([61]) «فيض القدير» (1/266).
([62]) سورة العنكبوت: 40.
([63]) (6/161).
([64]) (1/74).
([65]) (20/116).
([66]) «فتح الباري (10/193).
([67]) انظر «شرح الزرقاني» (4/299).
([68]) النقب: الثقب، قاله في القاموس.
([69]) «شرح الزرقاني» (4/299).
([70]) سورة الملك: 2.
([71]) «مجموع الفتاوى» (19/39-41).
([72]) انظر «فتح الباري» (10/114).
([73]) انظر «كشف الظنون» (2/1422).
([74]) أي إن في وجهها موضعًا على غير لونه الأصلي، انظر «فتح الباري» (10/202).
([75]) «فتح الباري» (10/202).
([76]) انظر «تلخيص الحبير» (3/235).
([77]) «التمهيد» (12/184)، وانظر «الدراية في تخريج أحاديث الهداية» (2/142).
([78]) (6/80).
([79]) سورة ص: 35.
([80]) «فتح الباري» (6/460).
([81]) «فتح الباري» (6/219).
([82]) المرجع السابق (6/220).
([83]) انظر «صحيح ابن خزيمة» (1/330).
([84]) انظر «صحيح ابن حبان» (14/327).
([85]) انظر «مسند الشاشي» (2/251).
([86]) انظر «السنة» للخلال (1/191).
([87]) انظر «معتصر المختصر» لأبي المحاسن الحنفي (2/245)، و «المعجم الأوسط» للطبراني (3/93)، و «الفردوس بمأثور الخطاب» (4/37)، و «علل الدارقطني» (5/342).
([88]) «فيض القدير» (1/282).
([89]) (5/350).
([90]) (1/299).
([91]) يعني الأعمش.
([92]) يعني أبا سفيان الراوي عن جابر.
([93]) (1/209).
([94]) هو معدان بن أبي طلحة اليعمري الوارد في الحديث السابق.
([95]) دابق: مدينة معروفة في أقاصي فارس، انظر «معجم ما استعجم» (2/531).
([96]) «شرح السيوطي» (2/98).
([97]) «الأحاديث المختارة» (7/42).
([98]) «فيض القدير» (4/5).
([99]) «التمهيد» (4/194).
([100]) (1/242).
([101]) (1/250).
([102]) (1/458).
([103]) (6/98).
([104]) (1/269).
([105]) «نيل الأوطار» (2/379).
([106]) انظر «مجمع الزوائد» (2/242).
([107]) (4/603).
([108]) (1/337).
([109]) (1/409).
([110]) جمع عطن وهو مبرك الإبل حول الماء «نيل الأزطار» (2/141).
([111]) (1/21).
([112]) انظر «التمهيد» لابن عبد البر (22/333)، و «شرح الزرقاني» (1/486)، و «تأويل مختلف الحديث» (1/132)، و «عون المعبود» (2/113)، و «حاشية السندي على سنن النسائي» (2/56).
([113]) انظر «مجموع الفتاوى» (19/41).
([114]) «التمهيد» (19/45-47).
([115]) «شرح النووي على صحيح مسلم» (6/66).
([116]) ص 65.
([117]) (3/391).
([118]) «التمهيد» (1/116).
([119]) «فيض القدير» (2/356)، وانظر «تحفة الأحوذي» (6/57).
([120]) (2/294).
([121]) (7/187).
([122]) (10/88).
([123]) (1/168).
([124]) (2/99).
([125]) سورة البقرة: 233.
([126]) «شرح النووي على مسلم» (16/170، 171).
([127]) (5/145).
([128]) (1/256).
([129]) «فيض القدير» (4/404).
([130]) «فتح الباري» (11/86).
([131]) «فتح الباري» (11/87).
([132]) المرجع السابق (11/86).
([133]) هو البيت القديم المتهدم.
([134]) «شرح الزرقاني» (4/497).
([135]) المرجع السابق.
([136]) «التمهيد» (16/25).
([137]) انظر «شرح الزرقاني» (4/494).
([138]) «فيض القدير» (1/423).
([139]) ربما أن المراد: «مقصوصة الآجنحة».
([140]) «ميزان الاعتدال في نقد الرجال» للذهبي (3/552، 553).
([141]) «المجروحين» (2/250)، وانظر «الكامل في ضعفاء الرجال» لابن عدي (6/130)، و «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (5/279)، و «نقد المنقول» للزرعي ص94.
([142]) «الجامع لأحكام القرآن» (10/290).
([143]) (10/223).
([144]) «الدر المنثور» (5/308).
([145]) المرجع السابق.
([146]) (12/54).
([147]) (7/278).
([148]) ص 324.
([149]) (3/88).
([150]) «فيض القدير» (2/350).
([151]) ص 236.
([152]) «فتح الباري» (10/613)، وانظر «الديباج على صحيح مسلم» للسيوطي (6/298)، و «شرح سنن ابن ماجه» للسيوطي ص68، و «النهاية في غريب الأثر» لابن الأثير (1/204).
([153]) «فيض القدير» (3/78).
([154]) «نيل الأوطار» (6/231).
([155]) «سير أعلام النبلاء» (5/88).
([156]) «صحيح ابن خزيمة» (3/93).
([157]) «صحيح ابن حبان» (12/413).
([158]) «معجم الطبراني الكبير» (9/295).
([159]) «التمهيد» (23/402).
([160]) المرجع السابق.
([161]) المرجع السابق.
([162]) المرجع السابق.
([163]) «شرح النووي على مسلم» (16/7).
([164]) هذا الكلام يقوله القرطبي عن زمانه، فكيف لو رأى زماننا هذا!
([165]) «الجامع لأحكام القرآن» (13/16).
([166]) (6/53).
([167]) «شرح الزرقاني» (4/500).
([168]) انظر «فيض القدير» (4/44).
([169]) (6/408).
([170]) (2/126).
([171]) (7/210).

سؤالات لابن تيمية واجوبتها

 

مجموع فتاوى ابن تيمية – 04 – الجزء الرابع

(العقيدة)

شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

كتاب مفصل الاعتقاد

سئل ما قولكم في مذهب السلف في الاعتقاد ومذهب غيرهم من المتأخرين‏؟‏

فصل: في كون أهل الحديث أعلم ممن بعدهم وأحكم وأن مخالفهم أحق بالجهل

فصــل: في أن كل من استحكم في بدعته يرى أن قياسه يطرد

إن السابقين الأولين لهم في كلام الرسول ثلاث طرق

إن لفظ‏ التأويل‏‏ قد صار بسبب تعدد الاصطلاحات له ثلاثة معان‏

فصــل: في أن الرسل إما أنهم علموا الحقائق الخبرية والطلبية، أو لم يعلموها

فصــل: في قول من قال‏ إن الحشوية على ضربين

فصــل: في قول المعترض‏ في الرد على الحنابلة

فصــل: الأقوال نوعان‏

قال الشيخ : الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهيته قاعدة عظيمة عامة

سئل: ما الدليل القاطع على تحقيق حق المسلمين، وإبطال باطل الكافرين؟

فصــل: في طرق المخاطبة

سئل:عـن ‏‏الروح‏ هل هي قديمة أو مخلوقة؟

سئل الشَّيخُ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن حقيقة ماهية الجن

سئل الشَّيْخُ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن الجان المؤمنين

قولُ الشَيْخُ ـ رَحمهُ اللَّهُ ـ ردًا لقول من قال‏:‏ كل مولود على ما سبق له في علم اللّه أنه سائر إليه

سُئِلَ عَن قَوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة‏)‏

قوله أيضًا عن حديث‏:‏ (‏كل مولود يولد على الفطرة‏)‏

فَصــل في ذكر اللّه الحفظة الموكلين ببني آدم، الذين يحفظونهم ويكتبون أعمالهم

سُئِلَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ هل الملائكة الموكلون بالعبد هم الموكلون دائمًا؟

سُئلَ عَنْ قَوْله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا هم العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة‏)‏

سُئِلَ عَنْ عَرْضِ الأدْيَانَ عَنْدَ الْمَوْتِ

سُئِلَ‏: هَل جَمِيعُ الْخَلْقِ ـ حَتَّى المَلاَئِكَةِ ـ يَمُوتُونَ ‏؟‏

فصــل في مذهب سائر المسلمين في إثبات القيامة الكبرى

سُئلَ شَيْخُ الإسْلاَم ـ رَحمَهُ اللَّه ـ عن‏ [‏الروح المؤمنة‏]

سُئِلَ: هَلْ يَتَكَلَّمُ الْمَيتُ فِى قَبْرِهِ‏؟‏

سُئِلَ شَيْخُ الإسْلاَم ـ رَحمهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ عن سؤال منكر ونكير الميت إذا مات

َسُئلَ عن الصغير، وعن الطفل إذا مات‏:‏ هل يمتحن‏؟‏

سُئلَ الشَّيْخُ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ عن الصغير هل يحيا ويسأل أو يحيا ولا يسأل‏؟‏

سُئِلَ شَيْخ الإسْلام ـ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ ـ وهو بمصر عن ‏[‏عذاب القبر‏]‏‏

سئل: وهو بمصر عن ‏[‏عذاب القبر‏]‏ ‏؟

سئل: بماذا يخاطب الناس يوم البعث‏؟‏

سئل عن الميزان‏:‏ هل هو عبارة عن العدل‏ أم له كفتان‏؟‏

سئل عَنْ الْكُفّار‏:‏ هل يحاسبون يوم القيامة أم لا‏؟‏

سئل: عن العبد المؤمن‏ هل يَكْفُر بالمعصية أم لا‏؟‏

سئل عن رجل مسلم‏‏ يعمل عملًا يستوجب أن يبنى له قصر في الجنة

سئل عن الشفاعة في أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏؟

سُئلَ عن أَطفال المؤمنين هل يدومون على حالتهم التي ماتوا عليها‏‏ أم يكبرون ويتزوجون‏؟‏

سئل: هل يتناسل أهل الجنة‏؟‏ والولدان هل هم ولدان أهل الجنة‏؟‏

سئل عن رجل قيل له‏:‏ إنه ورد عن النبي‏:‏ ‏(‏أن أهل الجنة يأكلون ويشربون) فقال : من أكل وشرب بال وتغوط؟

سئل: هل أهل الجنة يأكلون ويشربون وينكحون بتلذذ كالدنيا‏؟‏

فَصـل: أفضل الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم إبراهيم الخليل

سئل فيمن يقول‏:‏ إن غير الأنبياء يبلغ درجتهم بحيث يأمنون مكر اللّه؟

سئل عن رجل قال‏:‏ إن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ معصومون من الكبائر دون الصغائر؟

سئل عن رجلين تنازعا في أمر نبي اللّه عيسى ابن مريم ـ عليه السلام؟

سئل: هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن اللّه ـ تبارك وتعالى ـ أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه ثم ماتا بعد ذلك ‏؟‏

سئل عن هذه الأحاديث‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى مـوسى وهو يصلي في قبره؟

سئل عن الذبيح من ولد خليل اللّه إبراهيم ـ عليه السلام ـ هل هو إسماعيل أو إسحاق؟

سئل عن ‏الخضر‏ وإلياس‏ هل هما معمران‏؟‏

سئل: هل كان الخضر ـ عليه السلام ـ نبيًا أو وليًا ‏؟‏ وهل هو حي إلى الآن‏؟

سئل عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل يعلم وقت الساعة ‏؟‏

سئل: عن صالحي بني آدم والملائكة أيهما أفضل ‏؟‏

سئل: عن المطيعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل هم أفضل من الملائكة‏؟‏

سئل:‏ هل سجد ملائكة السماء والأرض أم ملائكة الأرض خاصة‏؟‏

فَصــل: في ‏التفضيل بين الملائكة والناس‏

سئل:عن[‏خديجة]‏ و[‏عائشة‏]‏ أمي المؤمنين أيتهما أفضل ‏؟‏

فَصْــل: وأفضل نساء هذه الأمة [‏خديجة]‏، و[‏عائشة]‏، و[‏فاطمة]؟‏

فَصْــل: في نساء النبي صلى الله عليه وسلم

فَصـل: هل أبو بكر وعمر أفضل من الخضر؟

سئل: عن رجلين اختلفا‏ فقال أحدهما‏:‏ أبو بكر الصديق وعمر بـن الخطاب أعلم وأفقه من على بن أبي طالب؟

سئل: عن رجل متمسك بالسنة ويحصل له ريبة في تفضيل الثلاثة على عليّ لقوله ـ عليه السلام ـ له‏:‏ ‏(‏أنت مني وأنا منك‏)‏؟

سئل: لا أفضل على عليٍّ غيره وإذا ذكر[‏علي‏]‏ صلى عليه مفردًا هل يجوز له أن يخصه بالصلاة دون غيره‏؟‏

سئل:عن قول الشيخ أبي محمد عبد اللّه بن أبي زيد في آخر عقيدته‏؟

سئل: عما شَجَرَ بين الصحابة ـ علي ومعاوية وطلحة وعائشة ـ هل يطالبون به أم لا‏؟‏

فائــدة: إن كان المختار الإمساك عما شَجَرَ بين الصحابة فلا يجب الاعتقاد بأن كل واحد منهم كان مجتهدا متأولا؟

فصل: في أعداء الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين

سئل: عن إسلام معاوية بن أبي سفيان متى كان‏؟‏

فَصْـــل: في الطريق التي بها يعلم إيمان الواحد من الصحابة

فَصْــل: افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق

سئل: عن جماعة يقولون‏:‏ إن الدين فسد من حين أخذت الخلافة من علي بن أبي طالب؟

سئل: هل يصح عند أهل العلم‏:‏ أن عليًا ـ رضي اللّه عنه ـ قاتل الجن في البئر‏؟‏

سئل: عمن قال أن عليا قاتل الجن في البئر وأنه حمل على اثني عشر ألفًا وهزمهم‏؟‏

سئل: عن فاطمة أنها قالت‏:‏ يارسول اللّه إن عليًا يقوم الليالي كلها إلا ليلة الجمعة؟

سئل:عن رجل قال عن علي بن أبي طالب أنه ليس من أهل البيت ولا تجوز الصلاة عليه والصلاة عليه بدعة‏؟

سئل: أن علي بـن أبي طالب قال‏:‏ إذا أنا مت فأركبوني فوق ناقتي وسيبوني؟

فَصــل: هل كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن لم يصحبه مطلقًا؟

سئل: عن رجلين تنازعا في ساب أبي بكر أحدهما يقول‏:‏ يتوب اللّه عليه وقال الآخر‏:‏ لا يتوب اللّه عليه؟

سئل: عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة من الفساد وطعنوا في ابن مسعود وروايته؟

سئل: عن رجل يناظر مع آخر في [‏مسألة المصراة] فطعن أحدهما في أبي هريرة وروايته؟

سئل: عن فرقة من المسلمين يقرون بالشهادتين ويصومون إلا أنهم يكفرون سابِّي صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؟

 

كتاب مفصل الاعتقاد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

سئل شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية قدس الله روحه ما قولكم في مذهب السلف في الاعتقاد ومذهب غيرهم من المتأخرين‏؟‏ ما الصواب منهما‏؟‏ وما تنتحلونه أنتم من المذهبين‏؟‏ وفي أهل الحديث‏:‏ هل هم أولى بالصواب من غيرهم‏؟‏ وهل هم المرادون بالفرقة الناجية‏؟‏ وهل حدث بعدهم علوم جهلوها وعلمها غيرهم‏؟‏‏.‏

 

فأجاب الشيخ ابن تيمية

 

فأجاب‏:‏ -

الحمد لله‏.‏ هذه المسائل بسطها يحتمل مجلدات لكن نشير إلى المهم منها والله الموفق‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏115‏]‏ ‏.‏ وقد شهد الله لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان بالإيمان‏.‏ فعلم قطعا أنهم المراد بالآية الكريمة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏100‏]‏‏.‏وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏18‏]‏‏.‏فحيث تقرر أن من اتبع غير سبيلهم ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم‏.‏ فمن سبيلهم في الاعتقاد‏:‏ ‏[‏الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه‏]‏ التي وصف بها نفسه وسمى بها نفسه في كتابه وتنزيله أو على لسان رسوله من غير زيادة عليها ولا نقص منها ولا تجاوز لها ولا تفسير لها ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها ولا تشبيه لها بصفات المخلوقين‏;‏ ولا سمات المحدثين بل أمروها كما جاءت وردوا علمها إلى قائلها؛ ومعناها إلى المتكلم بها‏.‏ وقال بعضهم - ويروى عن الشافعي‏:‏ ‏[‏آمنت بما جاء عن الله وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله‏]‏‏.‏ وعلموا أن المتكلم بها صادق لا شك في صدقه فصدقوه ولم يعلموا حقيقة معناها فسكتوا عما لم يعلموه‏.‏ وأخذ ذلك الآخر عن الأول ووصى بعضهم بعضا بحسن الاتباع والوقوف حيث وقف أولهم وحذروا من التجاوز لهم والعدول عن طريقتهم وبينوا لنا سبيلهم ومذهبهم ونرجو أن يجعلنا الله تعالى ممن اقتدى بهم في بيان ما بينوه؛ وسلوك الطريق الذي سلكوه‏.‏ والدليل على أن مذهبهم ما ذكرناه‏:‏ أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل مصدق لها مؤمن بها قابل لها؛ غير مرتاب فيها؛ ولا شاك في صدق قائلها ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات منها ولا تأولوه ولا شبهوه بصفات المخلوقين إذ لو فعلوا شيئا من ذلك لنقل عنهم ولم يجز أن يكتم بالكلية‏.‏ إذ لا يجوز التواطؤ على كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته لجريان ذلك في القبح مجرى التواطؤ على نقل الكذب وفعل ما لا يحل‏.‏ بل بلغ من مبالغتهم في السكوت عن هذا‏:‏ أنهم كانوا إذا رأوا من يسأل عن المتشابه بالغوا في كفه تارة بالقول العنيف؛ وتارة بالضرب وتارة بالإعراض الدال على شدة الكراهة لمسألته‏.‏ ولذلك لما بلغ عمر - رضي الله عنه - أن صبيغا يسأل عن المتشابه أعد له عراجين النخل فبينما عمر يخطب قام فسأله عن‏:‏ ‏{‏وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً‏}‏ ‏[‏الذريات‏:‏1‏]‏‏{‏فَالْحَامِلاتِ وِقْراً‏}‏ ‏[‏الذريات‏:‏2‏]‏وما بعدها‏.‏ فنزل عمر فقال‏:‏ ‏[‏لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف ‏[‏ثم أمر به فضرب ضربا شديدا وبعث به إلى البصرة وأمرهم أن لا يجالسوه فكان بها كالبعير الأجرب لا يأتي مجلسا إلا قالوا‏:‏ ‏[‏عزمة أمير المؤمنين‏]‏ فتفرقوا عنه حتى تاب وحلف بالله ما بقي يجد مما كان في نفسه شيئا فأذن عمر في مجالسته فلما خرجت الخوارج أتي فقيل له‏:‏ هذا وقتك فقال‏:‏ لا نفعتني موعظة العبد الصالح‏.‏ ولما سئل ‏[‏مالك بن أنس‏]‏- رحمه الله تعالى - فقيل له‏:‏ يا أبا عبد الله ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ كيف استوى‏؟‏ فأطرق مالك وعلاه الرحضاء - يعني العرق - وانتظر القوم ما يجيء منه فيه‏.‏ فرفع رأسه إلى السائل وقال‏:‏ ‏[‏الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وأحسبك رجل سوء‏]‏‏.‏ وأمر به فأخرج‏.‏ ومن أول الاستواء بالاستيلاء فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك وسلك غير سبيله‏.‏ وهذا الجواب من مالك - رحمه الله - في الاستواء شاف كاف في جميع الصفات‏.‏ مثل النزول والمجيء واليد والوجه وغيرها‏.‏ فيقال في مثل النزول‏:‏ النزول معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة‏.‏ وهكذا يقال في سائر الصفات إذ هي بمثابة الاستواء الوارد به الكتاب والسنة‏.‏ وثبت عن محمد بن الحسن - صاحب أبي حنيفة - أنه قال‏:‏ ‏[‏اتفق الفقهاء كلهم من الشرق والغرب‏:‏ على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه فمن فسر شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة‏.‏ فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا‏.‏ فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة‏]‏ انتهى‏.‏ فانظر - رحمك الله - إلى هذا الإمام كيف حكى الإجماع في هذه المسألة ولا خير فيما خرج عن إجماعهم‏.‏ ولو لزم التجسيم من السكوت عن تأويلها لفروا منه‏.‏ وأولوا ذلك؛ فإنهم أعرف الأمة بما يجوز على الله وما يمتنع عليه‏.‏ وثبت عن إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني أنه قال‏:‏ ‏[‏إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يعرفون ربهم -تبارك وتعالى- بصفاته التي نطق بها كتابه وتنزيله وشهد له بها رسوله؛ على ما وردت به الأخبار الصحاح ونقله العدول الثقات‏.‏ ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه ولا يكيفونها تكييف المشبه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه تحريف المعتزلة والجهمية‏.‏ وقد أعاذ الله ‏[‏أهل السنة‏]‏ من التحريف والتكييف ومن عليهم بالتفهيم والتعريف حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه واكتفوا بنفي النقائص بقوله عز من قائل‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏}‏ وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏4‏]‏‏.‏وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏[‏ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين‏]‏‏.‏ وثبت عن الربيع بن سليمان أنه قال‏:‏ سألت الشافعي - رحمه الله تعالى - عن صفات الله تعالى‏؟‏ فقال‏:‏ ‏[‏حرام على العقول أن تمثل الله تعالى؛ وعلى الأوهام أن تحده وعلى الظنون أن تقطع؛ وعلى النفوس أن تفكر؛ وعلى الضمائر أن تعمق وعلى الخواطر أن تحيط وعلى العقول أن تعقل إلا ما وصف به نفسه أو على لسان نبيه‏]‏ عليه الصلاة والسلام‏.‏ وثبت عن الحسن البصري أنه قال‏:‏ ‏[‏لقد تكلم مطرف على هذه الأعواد بكلام ما قيل قبله ولا يقال بعده‏.‏ قالوا‏:‏ وما هو يا أبا سعيد‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏الحمد لله الذي من الإيمان به‏:‏ الجهل بغير ما وصف به نفسه‏]‏‏.‏ وقال سحنون ‏[‏من العلم بالله السكوت عن غير ما وصف به نفسه‏]‏‏.‏ وثبت عن الحميدي أبي بكر عبد الله بن الزبير - أنه قال‏:‏ ‏[‏أصول السنة‏]‏ - فذكر أشياء - ثم قال‏:‏ وما نطق به القرآن والحديث مثل‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ اليهود يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏64‏]‏‏.‏ومثل‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ من الآية67‏]‏ وما أشبه هذا من القرآن والحديث لا نزيد فيه ولا نفسره ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ونقول‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طـه‏:‏5‏]‏ومن زعم غير هذا فهو جهمي‏.‏ فمذهب السلف رضوان الله عليهم‏:‏ إثبات الصفات وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها‏.‏ لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات وإثبات الذات إثبات وجود؛ لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات‏.‏ وعلى هذا مضى السلف كلهم‏.‏ ولو ذهبنا نذكر ما اطلعنا عليه من كلام السلف في ذلك لخرجنا عن المقصود في هذا الجواب‏.‏ فمن كان قصده الحق وإظهار الصواب اكتفي بما قدمناه ومن كان قصده الجدال والقيل والقال والمكابرة لم يزده التطويل إلا خروجا عن سواء السبيل والله الموفق‏.‏ وقد ثبت ما ادعيناه من مذهب السلف رضوان الله عليهم بما نقلناه جملة عنهم وتفصيلا واعتراف العلماء من أهل النقل كلهم بذلك‏.‏ ولم أعلم عن أحد منهم خلافا في هذه المسألة بل لقد بلغني عمن ذهب إلى التأويل لهذه الآيات والأخبار من أكابرهم‏:‏ الاعتراف بأن مذهب السلف فيها ما قلناه‏.‏ ورأيته لبعض شيوخهم في كتابه قال‏:‏ ‏[‏اختلف أصحابنا في أخبار الصفات فمنهم من أمرها كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل مع نفي التشبيه عنها‏.‏ وهو مذهب السلف‏]‏ فحصل الإجماع على صحة ما ذكرناه بقول المنازع والحمد لله‏.‏ وما أحسن ما جاء عن ‏[‏عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة‏]‏ أنه قال‏:‏ ‏[‏عليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة‏.‏ فإن السنة إنما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها وإنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزلل والخطإ والحمق والتعمق‏.‏ فارض لنفسك بما رضوا به لأنفسهم‏.‏ فإنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا‏.‏ ولهم كانوا على كشفها أقوى‏.‏ وبتفصيلها لو كان فيها أحرى وإنهم لهم السابقون وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف بعد القرون الثلاثة؛ فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه ولئن قلتم حدث حدث بعدهم فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيهم؛ وتلقاه عنهم من تبعهم بإحسان‏.‏ ولقد وصفوا منه ما يكفي؛ وتكلموا منه بما يشفي‏.‏ فمن دونهم مقصر؛ ومن فوقهم مفرط‏.‏ لقد قصر دونهم أناس فجفوا؛ وطمح آخرون فغلوا؛ وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم‏]‏‏.‏

فصل

وأما كونهم أعلم ممن بعدهم وأحكم وأن مخالفهم أحق بالجهل والحشو‏.‏ فنبين ذلك بالقياس المعقول؛ من غير احتجاج بنفس الإيمان بالرسول كما قال الله‏:‏ ‏{‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ من الآية53‏]‏؛ فأخبر‏:‏ أنه سيريهم الآيات المرئية المشهودة حتى يتبين لهم أن القرآن حق‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ من الآية53‏]‏ أي بإخبار الله ربك في القرآن وشهادته بذلك‏.‏ فنقول‏:‏ من المعلوم أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال ويمتازون عنهم بما ليس عندهم‏.‏ فإن المنازع لهم لا بد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقا أخرى؛ مثل المعقول والقياس والرأي والكلام والنظر والاستدلال والمحاجة والمجادلة والمكاشفة والمخاطبة والوجد والذوق ونحو ذلك‏.‏ وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتها وخلاصتها‏:‏ فهم أكمل الناس عقلا؛ وأعدلهم قياسا وأصوبهم رأيا وأسدهم كلاما وأصحهم نظرا وأهداهم استدلالا وأقومهم جدلا وأتمهم فراسة وأصدقهم إلهاما وأحدهم بصرا ومكاشفة وأصوبهم سمعا ومخاطبة وأعظمهم وأحسنهم وجدا وذوقا‏.‏ وهذا هو للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل‏.‏ فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحد وأسد عقلا وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك متمتعين‏.‏ وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ من الآية17‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ من الآية66‏]‏ ‏{‏وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏67‏]‏ ‏{‏وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 68‏]‏‏.‏وهذا يعلم تارة بموارد النزاع بينهم وبين غيرهم فلا تجد مسألة خولفوا فيها إلا وقد تبين أن الحق معهم‏.‏ وتارة بإقرار مخالفيهم ورجوعهم إليهم دون رجوعهم إلى غيرهم أو بشهادتهم على مخالفيهم بالضلال والجهل‏.‏ وتارة بشهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض‏.‏ وتارة بأن كل طائفة تعتصم بهم فيما خالفت فيه الأخرى وتشهد بالضلال على كل من خالفها أعظم مما تشهد به عليهم‏.‏ فأما شهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض‏:‏ فهذا أمر ظاهر معلوم بالحس والتواتر لكل من سمع كلام المسلمين لا تجد في الأمة عظم أحد تعظيما أعظم مما عظموا به ولا تجد غيرهم يعظم إلا بقدر ما وافقهم فيه كما لا ينقص إلا بقدر ما خالفهم‏.‏ حتى إنك تجد المخالفين لهم كلهم وقت الحقيقة يقر بذلك كما قال الإمام أحمد‏:‏ ‏[‏آية ما بيننا وبينهم يوم الجنائز‏]‏ فإن الحياة بسبب اشتراك الناس في المعاش يعظم الرجل طائفته فأما وقت الموت فلا بد من الاعتراف بالحق من عموم الخلق‏.‏ ولهذا لم يعرف في الإسلام مثل جنازته‏:‏ مسح المتوكل موضع الصلاة عليه فوجد ألف ألف وستمائة ألف؛ سوى من صلى في الخانات والبيوت وأسلم يومئذ من اليهود والنصارى عشرون ألفا‏.‏ وهو إنما نبل عند الأمة باتباع الحديث والسنة‏.‏ وكذلك الشافعي وإسحاق وغيرهما إنما نبلوا في الإسلام باتباع أهل الحديث والسنة‏.‏ وكذلك البخاري وأمثاله إنما نبلوا بذلك وكذلك مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وغيرهم إنما نبلوا في عموم الأمة وقبل قولهم لما وافقوا فيه الحديث والسنة وما تكلم فيمن تكلم فيه منهم إلا بسبب المواضع التي لم يتفق له متابعتها من الحديث والسنة إما لعدم بلاغها إياه أو لاعتقاده ضعف دلالتها أو رجحان غيرها عليها‏.‏ وكذلك المسائل الاعتقادية الخبرية؛ لم ينبل أحد من الطوائف ورءوسهم عند الأمة إلا بما معه من الإثبات والسنة فالمعتزلة أولا - وهم فرسان الكلام - إنما يحمدون ويعظمون عند أتباعهم وعند من يغضي عن مساوئهم لأجل محاسنهم عند المسلمين بما وافقوا فيه مذهب أهل الإثبات والسنة والحديث وردهم على الرافضة بعض ما خرجوا فيه عن السنة والحديث‏:‏ من إمامة الخلفاء وعدالة الصحابة وقبول الأخبار وتحريف الكلم عن مواضعه والغلو في على ونحو ذلك‏.‏ وكذلك الشيعة المتقدمون كانوا يرجحون على المعتزلة بما خالفوهم فيه من إثبات الصفات والقدر والشفاعة ونحو ذلك وكذلك كانوا يستحمدون بما خالفوا فيه الخوارج من تكفير على وعثمان وغيرهما وما كفروا به المسلمين من الذنوب ويستحمدون بما خالفوا فيه المرجئة من إدخال الواجبات في الإيمان‏.‏ ولهذا قالوا بالمنزلة وإن لم يهتدوا إلى السنة المحضة‏.‏ وكذلك متكلمة أهل الإثبات مثل الكلابية والكرامية والأشعرية إنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم الأمة بما أثبتوه من أصول الإيمان من إثبات الصانع وصفاته وإثبات النبوة والرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب وبيان تناقض حججهم وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية والمعتزلة؛ والرافضة والقدرية من أنواع المقالات التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة‏.‏ فحسناتهم نوعان‏:‏ إما موافقة أهل السنة والحديث‏.‏ وإما الرد على من خالف السنة والحديث ببيان تناقض حججهم‏.‏ ولم يتبع أحد مذهب الأشعري ونحوه إلا لأحد هذين الوصفين أو كليهما‏.‏ وكل من أحبه وانتصر له من المسلمين وعلمائهم فإنما يحبه وينتصر له بذلك‏.‏ فالمصنف في مناقبه الدافع للطعن واللعن عنه - كالبيهقي؛ والقشيري أبي القاسم؛ وابن عساكر الدمشقي - إنما يحتجون لذلك بما يقوله من أقوال أهل السنة والحديث أو بما رده من أقوال مخالفيهم لا يحتجون له عند الأمة وعلمائها وأمرائها إلا بهذين الوصفين ولولا أنه كان من أقرب بني جنسه إلى ذلك لألحقوه بطبقته الذين لم يكونوا كذلك كشيخه الأول ‏[‏أبي على‏]‏‏;‏ وولده ‏[‏أبي هاشم‏]‏‏.‏ لكن كان له من موافقة مذهب السنة والحديث في الصفات؛ والقدر والإمامة؛ والفضائل والشفاعة والحوض والصراط والميزان وله من الردود على المعتزلة والقدرية؛ والرافضة والجهمية وبيان تناقضهم‏:‏ ما أوجب أن يمتاز بذلك عن أولئك؛ ويعرف له حقه وقدره ‏{‏قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ من الآية3‏]‏ وبما وافق فيه السنة والحديث صار له من القبول والأتباع ما صار‏.‏ لكن الموافقة التي فيها قهر المخالف وإظهار فساد قوله‏:‏ هي من جنس المجاهد المنتصر‏.‏ فالراد على أهل البدع مجاهد حتى كان ‏[‏يحيى بن يحيى‏]‏ يقول‏:‏ ‏[‏الذب عن السنة أفضل من الجهاد‏]‏ والمجاهد قد يكون عدلا في سياسته وقد لا يكون وقد يكون فيه فجور كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم‏) ‏ولهذا مضت السنة بأن يغزى مع كل أمير برا كان أو فاجرا والجهاد عمل مشكور لصاحبه في الظاهر لا محالة وهو مع النية الحسنة مشكور باطنا وظاهرا ووجه شكره‏:‏ نصره للسنة والدين فهكذا المنتصر للإسلام والسنة يشكر على ذلك من هذا الوجه‏.‏ فحمد الرجال عند الله ورسوله وعباده المؤمنين بحسب ما وافقوا فيه دين الله وسنة رسوله وشرعه من جميع الأصناف؛ إذ الحمد إنما يكون على الحسنات‏.‏ والحسنات‏:‏ هي ما وافق طاعة الله ورسوله من التصديق بخبر الله والطاعة لأمره‏.‏ وهذا هو السنة‏.‏ فالخير كله - باتفاق الأمة - هو فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكذلك ما يذم من يذم من المنحرفين عن السنة والشريعة وطاعة الله ورسوله إلا بمخالفة ذلك‏.‏ ومن تكلم فيه من العلماء والأمراء وغيرهم إنما تكلم فيه أهل الإيمان بمخالفته السنة والشريعة‏.‏ وبهذا ذم السلف والأئمة أهل الكلام والمتكلمين الصفاتية كابن كرام؛ وابن كلاب والأشعري‏.‏ وما تكلم فيه من تكلم من أعيان الأمة وأئمتها المقبولين فيها من جميع طوائف الفقهاء؛ وأهل الحديث والصوفية إلا بما يقولون إنهم خالفوا فيه السنة والحديث لخفائه عليهم أو إعراضهم عنه أو لاقتضاء أصل قياس - مهدوه - رد ذلك كما يقع نحو ذلك في المسائل العلمية‏.‏ فإن مخالفة المسلم الصحيح الإيمان النص إنما يكون لعدم علمه به أو لاعتقاده صحة ما عارضه لكن هو فيما ظهر من السنة وعظم أمره يقع بتفريط من المخالف وعدوان فيستحق من الذم ما لا يستحقه في النص الخفي وكذلك فيما يوقع الفرقة والاختلاف؛ يعظم فيه أمر المخالفة للسنة‏.‏

ولهذا اهتم كثير من الملوك والعلماء بأمر الإسلام وجهاد أعدائه حتى صاروا يلعنون الرافضة والجهمية وغيرهم على المنابر؛ حتى لعنوا كل طائفة رأوا فيها بدعة‏.‏ فلعنوا الكلابية والأشعرية‏:‏ كما كان في مملكة الأمير ‏[‏محمود بن سبكتكين‏]‏ وفي دولة السلاجقة ابتداء وكذلك الخليفة القادر؛ ربما اهتم بذلك واستشار المعتزلة من الفقهاء ورفعوا إليه أمر القاضي ‏[‏أبي بكر‏]‏ ونحوه وهموا به حتى كان يختفي وإنما تستر بمذهب الإمام أحمد وموافقته ثم ولى النظام وسعوا في رفع اللعنة واستفتوا من استفتوه من فقهاء العراق كالدامغاني الحنفي وأبي إسحاق الشيرازي وفتواهما حجة على من بخراسان من الحنفية والشافعية‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن أبا إسحاق استعفي من ذلك فألزموه وأفتوا بأنه لا يجوز لعنتهم ويعزر من يلعنهم وعلل الدامغاني‏:‏ بأنهم طائفة من المسلمين‏.‏ وعلل أبو إسحاق - مع ذلك -‏:‏ بأن لهم ذبا وردا على أهل البدع المخالفين للسنة فلم يمكن المفتي أن يعلل رفع الذم إلا بموافقة السنة والحديث‏.‏ وكذلك رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد فتوى طويلة فيها أشياء حسنة قد سئل بها عن مسائل متعددة قال فيها‏:‏ - ولا يجوز شغل المساجد بالغناء والرقص ومخالطة المردان ويعزر فاعله تعزيرًا بليغًا رادعًا وأما لبس الحلق والدمالج والسلاسل والأغلال والتختم بالحديد والنحاس فبدعة وشهرة‏.‏ وشر الأمور محدثاتها وهي لهم في الدنيا وهي لباس أهل النار وهي لهم في الآخرة إن ماتوا على ذلك‏.‏ ولا يجوز السجود لغير الله من الأحياء والأموات ولا تقبيل القبور ويعزر فاعله‏.‏ ومن لعن أحدا من المسلمين عزر على ذلك تعزيرا بليغا‏.‏ والمؤمن لا يكون لعانا وما أقر به من عود اللعنة عليه قال‏:‏ ولا تحل الصلاة عند القبور ولا المشي عليها من الرجال والنساء ولا تعمل مساجد للصلاة فإنه ‏(‏اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏.‏ قال‏:‏ وأما لعن العلماء لأئمة الأشعرية فمن لعنهم عزر‏.‏ وعادت اللعنة عليه فمن لعن من ليس أهلا للعنة وقعت اللعنة عليه‏.‏ والعلماء أنصار فروع الدين والأشعرية أنصار أصول الدين‏.‏ قال‏:‏ وأما دخولهم النيران فمن لا يتمسك بالقرآن فإنه فتنة لهم ومضلة لمن يراهم كما يفتتن الناس بما يظهر على يدي الدجال فإنه من ظهر على يديه خارق فإنه يوزن بميزان الشرع فإن كان على الاستقامة كان ما ظهر على يديه كرامة ومن لم يكن على الاستقامة كان ذلك فتنة كما يظهر على يدي الدجال من إحياء الميت وما يظهر من جنته وناره‏.‏ فإن الله يضل من لا خلاق له بما يظهر على يدي هؤلاء‏.‏ وأما من تمسك بالشرع الشريف‏:‏ فإنه لو رأى من هؤلاء من يطير في الهواء؛ أو يمشي على الماء؛ فإنه يعلم أن ذلك فتنة للعباد‏.‏ انتهى‏.‏ فالفقيه أبو محمد أيضا إنما منع اللعن وأمر بتعزير اللاعن لأجل ما نصروه من ‏[‏أصول الدين‏]‏ وهو ما ذكرناه من موافقة القرآن والسنة والحديث والرد على من خالف القرآن والسنة والحديث‏.‏ ولهذا كان الشيخ أبو إسحاق يقول‏:‏ ‏[‏إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة‏]‏ وهذا ظاهر عليه وعلى أئمة أصحابه في كتبهم ومصنفاتهم قبل وقوع الفتنة القشيرية ببغداد ولهذا قال أبو القاسم بن عساكر في مناقبه‏:‏ ‏[‏ما زالت الحنابلة والأشاعرة في قديم الدهر متفقين غير مفترقين حتى حدثت فتنة‏]‏ ابن القشيري ثم بعد حدوث الفتنة وقبلها لا تجد من يمدح الأشعري بمدحة؛ إلا إذا وافق السنة والحديث ولا يذمه من يذمه إلا بمخالفة السنة والحديث‏.‏ وهذا إجماع من جميع هذه الطوائف على تعظيم السنة والحديث واتفاق شهاداتهم على أن الحق في ذلك‏.‏ ولهذا تجد أعظمهم موافقة لأئمة السنة والحديث أعظم عند جميعهم ممن هو دونه‏.‏ فالأشعري نفسه لما كان أقرب إلى قول الإمام أحمد ومن قبله من أئمة السنة كان عندهم أعظم من أتباعه والقاضي ‏[‏أبو بكر بن الباقلاني‏]‏ لما كان أقربهم إلى ذلك كان أعظم عندهم من غيره‏.‏ وأما مثل الأستاذ أبي المعالي؛ وأبي حامد؛ ونحوهما ممن خالفوا أصوله في مواضع فلا تجدهم يعظمون إلا بما وافقوا فيه السنة والحديث وأكثر ذلك تقلدوه من مذهب الشافعي في الفقه الموافق للسنة والحديث ومما ذكروه في الأصول مما يوافق السنة والحديث وما ردوه مما يخالف السنة والحديث‏.‏ وبهذا القدر ينتحلون السنة وينحلونها وإلا لم يصح ذلك‏.‏ وكانت الرافضة والقرامطة - علماؤها وأمراؤها - قد استظهرت في أوائل الدولة السلجوقية حتى غلبت على الشام والعراق وأخرجت الخليفة القائم ببغداد إلى تكريت وحبسوه بها في فتنة البساسيري المشهورة فجاءت بعد ذلك السلجوقية حتى هزموهم وفتحوا الشام والعراق وقهروهم بخراسان وحجروهم بمصر‏.‏ وكان في وقتهم من الوزراء مثل‏:‏ ‏[‏نظام الملك‏]‏ ومن العلماء مثل‏:‏ ‏[‏أبي المعالي الجويني‏]‏ فصاروا بما يقيمونه من السنة ويردونه من بدعة هؤلاء ونحوهم لهم من المكانة عند الأمة بحسب ذلك‏.‏ وكذلك المتأخرون من أصحاب مالك الذين وافقوه‏:‏ ‏[‏كأبي الوليد الباجي‏]‏ والقاضي ‏[‏أبي بكر بن العربي‏]‏ ونحوهما لا يعظمون إلا بموافقة السنة والحديث وأما الأكابر‏:‏ مثل ‏[‏ابن حبيب‏]‏ و‏[‏ابن سحنون‏]‏ ونحوهما؛ فلون آخر‏.‏ وكذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث مثل ما ذكره في مسائل ‏[‏القدر‏]‏ و ‏[‏الإرجاء‏]‏ ونحو ذلك بخلاف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة‏.‏ وكذلك ما ذكره في ‏[‏باب الصفات‏]‏ فإنه يستحمد فيه بموافقة أهل السنة والحديث لكونه يثبت في الأحاديث الصحيحة ويعظم السلف وأئمة الحديث ويقول إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن وغيرها ولا ريب أنه موافق له ولهم في بعض ذلك‏.‏ لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة في القرآن والصفات وإن كان ‏[‏أبو محمد بن حزم‏]‏ في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره وأعلم بالحديث وأكثر تعظيما له ولأهله من غيره لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعنى‏.‏ وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهر لا باطن له كما نفي المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق وكما نفي خرق العادات ونحوه من عبادات القلوب‏.‏ مضموما إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر والإسراف في نفي المعاني ودعوى متابعة الظواهر‏.‏ وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابر؛ ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال؛ والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره‏.‏ فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح‏.‏ وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء‏.‏ وتعظيم أئمة الأمة وعوامها للسنة والحديث وأهله في الأصول والفروع من الأقوال والأعمال‏:‏ أكثر من أن يذكر هنا‏.‏ وتجد الإسلام والإيمان كلما ظهر وقوي كانت السنة وأهلها أظهر وأقوى وإن ظهر شيء من الكفر والنفاق ظهرت البدع بحسب ذلك مثل‏:‏ دولة المهدي والرشيد ونحوهما ممن كان يعظم الإسلام والإيمان ويغزو أعداءه من الكفار والمنافقين‏.‏ كان أهل السنة في تلك الأيام أقوى وأكثر وأهل البدع أذل وأقل‏.‏ فإن المهدي قتل من المنافقين الزنادقة من لا يحصي عدده إلا الله ‏,‏ والرشيد كان كثير الغزو والحج‏.‏ وذلك أنه لما انتشرت الدولة العباسية وكان في أنصارها من أهل المشرق والأعاجم طوائف من الذين نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ ‏(‏الفتنة هاهنا‏)‏‏;‏ ظهر حينئذ كثير من البدع وعربت أيضا إذ ذاك طائفة من كتب الأعاجم - من المجوس الفرس والصابئين الروم والمشركين الهند - وكان المهدي من خيار خلفاء بني العباس وأحسنهم إيمانا وعدلا وجودا فصار يتتبع المنافقين الزنادقة كذلك‏.‏ وكان خلفاء بني العباس أحسن تعاهدا للصلوات في أوقاتها من بني أمية فإن أولئك كانوا كثير الإضاعة لمواقيت الصلاة كما جاءت فيهم الأحاديث‏:‏ ‏(‏سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة‏)‏‏.‏ لكن كانت البدع في القرون الثلاثة الفاضلة مقموعة وكانت الشريعة أعز وأظهر وكان القيام بجهاد أعداء الدين من الكافرين والمنافقين أعظم‏.‏ وفي دولة ‏[‏أبي العباس المأمون‏]‏ ظهر ‏[‏الخرمية‏]‏ ونحوهم من المنافقين وعرب من كتب الأوائل المجلوبة من بلاد الروم ما انتشر بسببه مقالات الصابئين وراسل ملوك المشركين من الهند ونحوهم حتى صار بينه وبينهم مودة‏.‏

فلما ظهر ما ظهر من الكفر والنفاق في المسلمين وقوي ما قوي من حال المشركين وأهل الكتاب؛ كان من أثر ذلك‏:‏ ما ظهر من استيلاء الجهمية؛ والرافضة؛ وغيرهم من أهل الضلال وتقريب الصابئة ونحوهم من المتفلسفة‏.‏ وذلك بنوع رأي يحسبه صاحبه عقلا وعدلا وإنما هو جهل وظلم إذ التسوية بين المؤمن والمنافق؛ والمسلم والكافر أعظم الظلم وطلب الهدى عند أهل الضلال أعظم الجهل فتولد من ذلك محنة الجهمية حتى امتحنت الأمة بنفي الصفات والتكذيب بكلام الله ورؤيته وجرى من محنة الإمام أحمد وغيره ما جرى مما يطول وصفه‏.‏ وكان في أيام ‏[‏المتوكل‏]‏ قد عز الإسلام حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية؛ وألزموا الصغار فعزت السنة والجماعة وقمعت الجهمية والرافضة ونحوهم‏.‏ وكذلك في أيام ‏[‏المعتضد‏]‏ والمهدي والقادر وغيرهم من الخلفاء الذين كانوا أحمد سيرة وأحسن طريقة من غيرهم‏.‏ وكان الإسلام في زمنهم أعز وكانت السنة بحسب ذلك‏.‏ وفي دولة ‏[‏بني بويه‏]‏ ونحوهم‏:‏ الأمر بالعكس فإنهم كان فيهم أصناف المذاهب المذمومة‏.‏ قوم منهم زنادقة وفيهم قرامطة كثيرة ومتفلسفة ومعتزلة ورافضة وهذه الأشياء كثيرة فيهم غالبة عليهم‏.‏ فحصل في أهل الإسلام والسنة في أيامهم من الوهن ما لم يعرف حتى استولى النصارى على ثغور الإسلام وانتشرت القرامطة في أرض مصر والمغرب والمشرق وغير ذلك وجرت حوادث كثيرة‏.‏ ولما كانت مملكة محمود بن سبكتكين من أحسن ممالك بني جنسه‏:‏ كان الإسلام والسنة في مملكته أعز فإنه غزا المشركين من أهل الهند ونشر من العدل ما لم ينشره مثله‏.‏ فكانت السنة في أيامه ظاهرة والبدع في أيامه مقموعة‏.‏ وكذلك السلطان ‏[‏نور الدين محمود‏]‏ الذي كان بالشام؛ عز أهل الإسلام والسنة في زمنه وذل الكفار وأهل البدع ممن كان بالشام ومصر وغيرهما من الرافضة والجهمية ونحوهم‏.‏ وكذلك ما كان في زمنه من خلافة بني العباس ووزارة ابن هبيرة لهم فإنه كان من أمثل وزراء الإسلام‏.‏ ولهذا كان له من العناية بالإسلام والحديث ما ليس لغيره‏.‏ وما يوجد من إقرار أئمة الكلام والفلسفة وشهادتهم على أنفسهم وعلى بني جنسهم بالضلال ومن شهادة أئمة الكلام والفلسفة بعضهم على بعض كذلك؛ فأكثر من أن يحتمله هذا الموضع وكذلك ما يوجد من رجوع أئمتهم إلى مذهب عموم أهل السنة وعجائزهم كثير وأئمة السنة والحديث لا يرجع منهم أحد لأن ‏[‏الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد‏]‏ وكذلك ما يوجد من شهادتهم لأهل الحديث بالسلامة والخلاص من أنواع الضلال وهم لا يشهدون لأهل البدع إلا بالضلال‏.‏ وهذا باب واسع كما قدمناه‏.‏ وجميع الطوائف المتقابلة من أهل الأهواء تشهد لهم بأنهم أصلح من الأخرىن وأقرب إلى الحق فنجد كلام أهل النحل فيهم وحالهم معهم بمنزلة كلام أهل الملل مع المسلمين وحالهم معهم‏.‏ وإذا قابلنا بين الطائفتين - أهل الحديث وأهل الكلام - فالذي يعيب بعض أهل الحديث وأهل الجماعة بحشو القول‏:‏ إنما يعيبهم بقلة المعرفة؛ أو بقلة الفهم‏.‏ أما الأول‏:‏ فبأن يحتجوا بأحاديث ضعيفة أو موضوعة؛ أو بآثار لا تصلح للاحتجاج‏.‏ وأما الثاني‏:‏ فبأن لا يفهموا معنى الأحاديث الصحيحة بل قد يقولون القولين المتناقضين ولا يهتدون للخروج من ذلك‏.‏ والأمر راجع إلى شيئين‏:‏ - إما زيادة أقوال غير مفيدة يظن أنها مفيدة كالأحاديث الموضوعة وإما أقوال مفيدة لكنهم لا يفهمونها إذ كان اتباع الحديث يحتاج أولا إلى صحة الحديث‏.‏ وثانيا إلى فهم معناه كاتباع القرآن‏.‏ فالخلل يدخل عليهم من ترك إحدى المقدمتين‏.‏ ومن عابهم من الناس فإنما يعيبهم بهذا‏.‏ ولا ريب أن هذا موجود في بعضهم يحتجون بأحاديث موضوعة في مسائل ‏[‏الأصول والفروع‏]‏ وبآثار مفتعلة وحكايات غير صحيحة ويذكرون من القرآن والحديث ما لا يفهمون معناه وربما تأولوه على غير تأويله؛ ووضعوه على غير موضعه‏.‏ ثم إنهم بهذا المنقول الضعيف والمعقول السخيف قد يكفرون ويضللون ويبدعون أقواما من أعيان الأمة ويجهلونهم ففي بعضهم من التفريط في الحق والتعدي على الخلق ما قد يكون بعضه خطأ مغفورا وقد يكون منكرا من القول وزورا وقد يكون من البدع والضلالات التي توجب غليظ العقوبات فهذا لا ينكره إلا جاهل أو ظالم وقد رأيت من هذا عجائب‏.‏ لكن هم بالنسبة إلى غيرهم في ذلك كالمسلمين بالنسبة إلى بقية الملل ولا ريب أن في كثير من المسلمين من الظلم والجهل والبدع والفجور ما لا يعلمه إلا من أحاط بكل شيء علما لكن كل شر يكون في بعض المسلمين فهو في غيرهم أكثر وكل خير يكون في غيرهم فهو فيهم أعلى وأعظم وهكذا أهل الحديث بالنسبة إلى غيرهم‏.‏

وبيان ذلك‏:‏ أن ما ذكر من فضول الكلام الذي لا يفيد مع اعتقاد أنه طريق إلى التصور والتصديق - هو في أهل الكلام والمنطق أضعاف أضعاف أضعاف ما هو في أهل الحديث؛ فبإزاء احتجاج أولئك بالحديث الضعيف احتجاج هؤلاء بالحدود والأقيسة الكثيرة العقيمة؛ التي لا تفيد معرفة؛ بل تفيد جهلا وضلالا وبإزاء تكلم أولئك بأحاديث لا يفهمون معناها تكلف هؤلاء من القول بغير علم ما هو أعظم من ذلك وأكثر وما أحسن قول الإمام أحمد‏:‏ ‏[‏ضعيف الحديث خير من رأي فلان‏]‏‏.‏

ثم لأهل الحديث من المزية‏:‏ أن ما يقولونه من الكلام الذي لا يفهمه بعضهم هو كلام في نفسه حق وقد آمنوا بذلك وأما المتكلمة‏:‏ فيتكلفون من القول ما لا يفهمونه ولا يعلمون أنه حق وأهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في نقض أصل عظيم من أصول الشريعة بل إما في تأييده؛ وإما في فرع من الفروع وأولئك يحتجون بالحدود والمقاييس الفاسدة في نقض الأصول الحقة الثابتة‏.‏

إذا عرف هذا فقد قال الله تعالى عن أتباع الأئمة من أهل الملل المخالفين للرسل ‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ من الآية83‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏66‏]‏‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ من الآية68‏]‏ ومثل هذا في القرآن كثير؛ وإذا كانت سعادة الدنيا والآخرة هي باتباع المرسلين، فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك هم أعلمهم بآثار المرسلين وأتبعهم؛ لذلك فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم المتبعون لها هم أهل السعادة في كل زمان ومكان، وهم الطائفة الناجية من أهل كل ملة، وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة، فإنهم يشاركون سائر الأمة فيما عندهم من أمور الرسالة؛ ويمتازون عنهم بما اختصوا به من العلم الموروث عن الرسول مما يجهله غيرهم أو يكذب به والرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ عليهم البلاغ المبين، وقد بلغوا البلاغ المبين وخاتم الرسل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنزل الله كتابه مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه فهو الأمين على جميع الكتب؛ وقد بلغ أبين البلاغ وأتمه وأكمله، وكان أنصح الخلق لعباد الله، وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيمًا بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين فأسعد الخلق وأعظمهم نعيما وأعلاهم درجة أعظمهم اتباعا وموافقة له علما وعملاً‏.‏

وأما غير اتباعه من أهل الكلام؛ فالكلام في أقيستهم التي هي حججهم وبراهينهم على معارفهم وعلومهم وهذا يدخل فيه كل من خالف شيئا من السنة والحديث من المتكلمين والفلاسفة فالكلام في هذا المقام واسع لا ينضبط هنا، لكن المعلوم من حيث الجملة أن الفلاسفة والمتكلمين من أعظم بني آدم حشوا وقولا للباطل وتكذيبا للحق في مسائلهم ودلائلهم لا يكاد ـ والله أعلم ـ تخلو لهم مسألة واحدة عن ذلك وأذكر أني قلت مرة لبعض من كان ينتصر لهم من المشغوفين بهم وأنا إذ ذاك صغير قريب العهد من الإحتلام كل ما يقوله هؤلاء ففيه باطل إما في الدلائل وإما في المسائل، إما أن يقولوا مسألة تكون حقا لكن يقيمون عليها أدلة ضعيفة؛ وإما

أن تكون المسألة باطلاً فأخذ ذلك المشغوف بهم يعظمها؛ وذكر مسألة التوحيد‏.‏ فقلت التوحيد حق لكن اذكر ما شئت من أدلتهم التي تعرفها حتى أذكر لك ما فيه فذكر بعضها بحروفه حتى فهم الغلط وذهب إلى ابنه وكان أيضا من المتعصبين لهم فذكر ذلك له قال فأخذ يعظم ذلك علي فقلت أنا لا أشك في التوحيد ولكن أشك في هذا الدليل المعين ويدلك على ذلك أمور أحدها أنك تجدهم أعظم الناس شكا واضطرابا وأضعف الناس علما ويقينا وهذا أمر يجدونه في أنفسهم ويشهده الناس منهم وشواهد ذلك أعظم من أن تذكر هنا وإنما فضيلة أحدهم باقتداره على الاعتراض والقدح والجدل ومن المعلوم أن الاعتراض والقدح ليس بعلم ولا فيه منفعة وأحسن أحوال صاحبه أن يكون بمنزلة العامي وإنما العلم في جواب السؤال ولهذا تجد غالب حججهم تتكافأ إذ كل منهم يقدح في أدلة الآخر وقد قيل إن الأشعري مع أنه من أقربهم إلى السنة والحديث وأعلمهم بذلك صنف في آخر عمره كتابا في تكافؤ الأدلة يعني أدلة علم الكلام فإن ذلك هو صناعته التي يحسن الكلام فيها وما زال أئمتهم يخبرون بعدم الأدلة والهدى في طريقهم كما ذكرناه عن أبي حامد وغيره حتى قال أبو حامد الغزالي أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام وهذا أبو عبدالله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب باب الحيرة والشك والاضطراب لكن هو مسرف في هذا الباب بحيث له نهمة في التشكيك دون التحقيق بخلاف غيره فإنه يحقق شيئا ويثبت على نوع من الحق لكن بعض الناس قد يثبت على باطل محض بل لا بد فيه من نوع من الحق وكان من فضلاء المتأخرين وأبرعهم في الفلسفة والكلام ابن واصل الحموي كان يقول أستلقي على قفاي وأضع الملحفة على نصف وجهي ثم أذكر المقالات وحجج هؤلاء وهؤلاء واعتراض هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي شيء ولهذا أنشد الخطابي حجج تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور فإذا كانت هذه حال حججهم فأي لغو باطل وحشو يكون أعظم من هذا وكيف يليق بمثل هؤلاء أن ينسبوا إلى الحشو أهل الحديث والسنة الذين هم أعظم الناس علما ويقينا وطمأنينة وسكينة وهم الذين يعلمون ويعلمون أنهم يعلمون وهم بالحق يوقنون لا يشكون ولا يمترون فأما ما أوتيه علماء أهل الحديث وخواصهم من اليقين والمعرفة والهدى فأمر يجل عن الوصف ولكن عند عوامهم من اليقين والعلم والنافع ما لم يحصل منه شيء لأئمة المتفلسفة المتكلمين وهذا ظاهر مشهود لكل أحد غاية ما يقوله أحدهم أنهم جزموا بغير دليل وصمموا بغير حجة وإنما معهم التقليد وهذا القدر قد يكون في كثير من العامة لكن جزم العلم غير جزم الهوى فالجازم بغير علم يجد من نفسه أنه غير عالم بما جزم به، والجازم بعلم يجد من نفسه أنه عالم اذ كون الإنسان عالما وغير عالم مثل كونه سامعًا ومبصرًا وغير سامع ومبصر فهو يعلم من نفسه ذلك مثل ما يعلم من نفسه كونه محبًا ومبغضًا ومريدًا وكارهًا ومسرورًا ومحزونًا ومنعمًا ومعذبًا وغير ذلك ومن شك في كونه يعلم مع كونه يعلم فهو بمنزلة من جزم بأنه علم وهو لا يعلم وذلك نظير من شك في كونه سمع ورأى أو جزم بأنه سمع ورأى ما لم يسمعه ويراه والغلط أو الكذب يعرض للإنسان في كل واحد من طرفي النفي والإثبات لكن هذا الغلط أو الكذب العارض لا يمنع أن يكون الإنسان جازمًا بما لا يشك فيه من ذلك كما يجزم بما يجده من الطعوم والأراييح وإن كان قد يعرض له من الانحراف ما يجد به الحلو مرا فالأسباب العارضة لغلط الحس والباطن أو الظاهر والعقل بمنزلة المرض العارض لحركة البدن والنفس والأصل هو الصحة في الإدراك وفي الحركة فإن الله خلق عباده على الفطرة وهذه الأمور يعلم الغلط فيها بأسبابها الخاصة كالمرة الصفراء العارضة للطعم وكالحول في العين ونحو ذلك وإلا فمن حاسب نفسه على ما يجزم به وجد أكثر الناس الذين يجزمون بما لا يجزم به إنما جزمهم لنوع من الهوى كما قال تعالى وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم وقال ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ولهذا تجد اليهود يصممون ويصرون على باطلهم لما في نفوسهم من الكبر والحسد والقسوة وغير ذلك من الأهواء وأما النصارى فأعظم ضلالا منهم وإن كانوا في العادة والأخلاق أقل منهم شرا فليسوا جازمين بغالب ضلالهم بل عند الاعتبار تجد من ترك الهوى من الطائفتين ونظر نوع نظر تبين له الإسلام حقا والمقصود هنا أن معرفة الإنسان بكونه يعلم أو لا يعلم مرجعه إلى وجود نفسه عالمة ولهذا لا نحتج على منكر العلم إلا بوجودنا نفوسنا عالمة كما احتجوا على منكري الأخبار المتواترة بأنا نجد نفوسنا عالمة بذلك وجازمة به كعلمنا وجزمنا بما أحسسناه وجعل المحققون وجود العلم بخبر من الأخبار هو الضابط في حصول التواتر إذ لم يحدوه بعدد ولا صفة بل متى حصل العلم كان هو المعتبر والإنسان يجد نفسه عالمة وهذا حق فإنه لا يجوز أن يستدل الإنسان على كونه عالما بدليل فإن علمه بمقدمات ذلك الدليل يحتاج إلى أن يجد نفسه عالمة بها فلو احتاج علمه بكونه عالما إلى دليل أفضى إلى الدور أو التسلسل ولهذا لا يحس الإنسان بوجود العلم عند وجود سببه إن كان بديهيا أو إن كان نظريا إذا علم المقدمتين وبهذا استدل على منكري إفادة النظر العلم وإن كان في هذه المسألة تفصيل ليس هذا موضعه فالغرض أن من نظر في دليل يفيد العلم وجد نفسه عالمة عند علمه بذلك الدليل كما يجد نفسه سامعة رائية عند الاستماع للصوت والترائي للشمس أو الهلال أو غير ذلك والعلم يحصل في النفس كما تحصل سائر الإدراكات والحركات بما يجعله الله من الأسباب وعامة ذلك بملائكة الله تعالى فإن الله سبحانه ينزل بها على قلوب عباده من العلم والقوة وغير ذلك ما يشاء ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏لحسان اللهم أيده بروح القدس‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ من الآية22‏]‏ وقال‏:‏ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده)‏ وقال عبدالله بن مسعود‏:‏ كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر وقال ابن مسعود أيضًا أن للملك لمة وللشيطان لمة فلمة الملك إيعاد بالخير تصديق بالحق ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق وهذا الكلام الذي قاله ابن مسعود هو محفوظ عنه وربما رفعه بعضهم إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو كلام جامع لأصول ما يكون من العبد من علم وعمل من شعور وإرادة وذلك أن العبد له قوة الشعور والإحساس والإدراك وقوة الإرادة والحركة وإحداهما أصل الثانية مستلزمة لها والثانية مستلزمة للأولى ومكملة لها فهو بالأولى يصدق بالحق ويكذب بالباطل وبالثانية يحب النافع الملائم له ويبغض الضار المنافي له والله سبحانه خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به ومعرفة الباطل والتكذيب به ومعرفة النافع الملائم والمحبة له ومعرفة الضار المنافي والبغض له بالفطرة فما كان حقا موجودا صدقت به الفطرة وما كان حقا نافعا عرفته الفطرة فأحبته واطمأنت إليه وذلك هو المعروف وما كان باطلا معدوما كذبت به الفطرة فأبغضته الفطرة فانكرته قال تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر والإنسان كما سماه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏حيث قال أصدق الأسماء حارث وهمام‏)‏ فهو دائما يهم ويعمل لكنه لا يعمل إلا ما يرجو نفعه أو دفع مضرته ولكن قد يكون ذلك الرجاء مبينا على اعتقاد باطل إما في نفس المقصود فلا يكون نافعا ولا ضارا وإما في الوسيلة فلا تكون طريقا إليه وهذا جهل وقد يعلم أن هذا الشيء يضره ويفعله ويعلم أنه ينفعه ويتركه لأن ذلك العلم عارضه ما في نفسه من طلب لذة أخرى او دفع ألم آخر جاهلا ظالما حيث قدم هذا على ذاك ولهذا قال أبو العالية سألت أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ من الآية17‏]‏ فقالوا كل من عصى الله فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب وإذا كان الإنسان لا يتحرك إلا راجيا وإن كان راهبا خائفا لم يسع إلا في النجاة ولم يهرب إلا من الخوف فالرجاء لا يكون إلا بما يلقى في نفسه من الإيعاد بالخير الذي هو طلب المحبوب أو فوات المكروه فكل بني آدم له اعتقاد فيه تصديق بشيء وتكذيب بشيء وله قصد وإرادة لما يرجوه مما هو عنده محبوب ممكن الوصول إليه أو لوجود المحبوب عنده أو لدفع المكروه عنه؛ والله خلق العبد يقصد الخير فيرجوه بعمله فإذا كذب بالحق فلم يصدق به ولم يرج الخير فيقصده ويعمل له كان خاسرًا بترك تصديق الحق وطلب الخير فكيف إذا كذب بالحق وكره إرادة الخير فكيف إذا صدق بالباطل وأراد الشر فذكر عبدالله بن مسعود أن لقلب ابن آدم لمة من الملك ولمة من الشيطان؛ فلمة الملك تصديق بالحق، وهو ما كان من غير جنس الاعتقاد الفاسد، ولمة الشيطان هو تكذيب بالحق وإيعاد بالشر؛ وهو ما كان من جنس إرادة الشر وظن وجوده، أما مع رجائه إن كان مع هوى نفس وإما مع خوفه إن كان غير محبوب لها وكل من الرجاء والخوف مستلزم للآخر‏.‏

فمبدأ العلم الحق والإرادة الصالحة، من لمة الملك، ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة، من لمة الشيطان، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ من الآية268‏]‏ ‏[‏البقرة‏:‏268‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏175‏]‏ أي‏:‏ يخوفكم أولياءه، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ‏}‏‏[‏الأنفال‏:‏48‏]‏

والشيطان وَسْواس خَنَّاس، إذا ذكر العبد ربه خنس، فإذا غفل عن ذكره وسوس؛ فلهذا كان ترك ذكر الله سببًا ومبدأ لنزول الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة في القلب، ومِنْ ذكر الله ـ تعالى ـ تلاوة كتابه وفهمه، ومذاكرة العلم، كما قال معاذ بن جبل‏:‏ ومذاكرته تسبيح‏.‏

وقد تنازع أهل الكلام في حصول العلم في القلب عقب النظر في الدليل، فقال بعضهم‏:‏ ذلك على سبيل التولد‏.‏ وقال المنكرون للتولد‏:‏ بل ذلك بفعل الله ـ تعالى‏.‏ والنظر إما متضمن للعلم وإما موجب له، وهذا ينصره المنتسبون للسنة من المتكلمين ومن وافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وقالت المتفلسفة‏:‏ بل ذلك يحصل بطريق الفيض من العقل الفعال عند استعداد النفس لقبول الفيض‏.‏ وقد يزعمون أن العقل الفعال هو جبريل‏.‏

فأما قول القائلين‏:‏ إن ذلك بفعل الله، فهو صحيح؛ بناء على أن الله هو معلم كل علم وخالق كل شىء، لكن هذا كلام مجمل ليس فيه بيان لنفس السبب الخاص، وأما قول القائلين بالتولد، فبعضه حق وبعضه باطل، فإن كان دعواهم أن العلم المتولد هو حاصل بمجرد قدرة العبد، فذلك باطل قطعًا، ولكن هو حاصل بأمرين‏:‏ قدرة العبد، والسبب الآخر، كالقوة التي في السهم والقبول الذي في المحل، ولا ريب أن النظر هو بسبب، ولكن الشأن فيما به يتم حصول العلم‏.‏

وأما زعم المتفلسفة أنه بالعقل الفعال، فمن الخرافات التي لا دليل عليها، وأبطل من ذلك زعمهم أن ذلك هو جبريل، وزعمهم أن كل ما يحصل في عالم العناصر من الصور الجسمانية وكمالاتها، فهو من فيضه وبسببه، فهو من أبطل الباطل‏.‏

ولكن إضافتهم ذلك إلى أمور روحانية صحيح في الجملة؛ فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يدبر أمر السموات والأرض بملائكته التي هي السفراء في أمره، ولفظ [‏الملك‏]‏ يدل على ذلك، وبذلك أخبرت الأنبياء، وقد شهد الكتاب والسنة من ذلك بما لا يتسع هذا الموضع لذكره، كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في ملائكة تخليق الجنين وغيره‏.‏

وأما تخصيص روح واحد متصل بفلك القمر، يكون هو رب هذا العالم، فهذا باطل، وليس هذا موضع استقصاء ذلك، ولكن لابد أن يُعْلم أن المبدأ في شعور النفس وحركتها هم الملائكة، أو الشياطين، فالملك يلقي التصديق بالحق والأمر بالخير، والشيطان يلقي التكذيب بالحق والأمر بالشر‏.‏ والتصديق والتكذيب مقرونان بنظر الإنسان، كما أن الأمر والنهي مقرونان بإرادته‏.‏

فإذا كان النظر في دليل هاد ـ كالقرآن ـ وسلم من معارضات الشيطان تضمن ذلك النظر العلم والهدي؛ ولهذا أمر العبد بالاستعاذة من الشيطان الرجيم عند القراءة‏.‏ وإذا كان النظر في دليل مضل والناظر يعتقد صحته، بأن تكون مقدمتاه أو إحداهما متضمنة للباطل، أو تكون المقدمات صحيحة لكن التأليف ليس بمستقيم، فإنه يصير في القلب بذلك اعتقاد فاسد، وهو غالب شبهات أهل الباطل المخالفين للكتاب والسنة من المتفلسفة والمتكلمين ونحوهم‏.‏

فإذا كان الناظر لابد له من منظور فيه، والنظر في نفس المتصور المطلوب حكمه لا يفيد علمًا، بل ربما خطر له بسبب ذلك النظر أنواع من الشبهات، يحسبها أدلة، لفرط تعطش القلب إلى معرفة حكم تلك المسألة وتصديق ذلك التصور‏.‏

وأما النظر المفيد للعلم، فهو ما كان في دليل هاد، والدليل الهادي ـ على العموم والإطلاق ـ هو ‏[‏كتاب الله]‏، و[‏سنة نبيه‏]‏ فإن الذي جاءت به الشريعة من نوعي النظر، هو ما يفيد وينفع ويحصل الهدى، وهو بذكر الله وما نزل من الحق‏.‏

فإذا أراد النظر والاعتبار في الأدلة المطلقة من غير تعيين مطلوب، فذلك النظر في كتاب الله وتدبره، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 15 ،16‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏53،52‏]‏‏.‏

وأما النظر في مسألة معينة وقضية معينة، لطلب حكمها والتصديق بالحق فيها، والعبد لا يعرف ما يدله على هذا أو هذا فمجرد هذا النظر لا يفيد بل قد يقع له تصديقات يحسبها حقًا وهي باطل، وذلك من إلقاء الشيطان، وقد يقع له تصديقات تكون حقًا، وذلك من إلقاء الملك ‏.‏

وكذلك إذا كان النظر في الدليل الهادي وهو القرآن، فقد يضع الكلم مواضعه ويفهم مقصود الدليل فيهتدى بالقرآن، وقد لا يفهمه، أو يحرف الكلم عن مواضعه فيضل به، ويكون ذلك من الشيطان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏82‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏26‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏124، 125‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏138‏]‏‏.‏

فالناظر في الدليل بمنزلة المترائى للهلال قد يراه، وقد لا يراه لعشى في بصره، وكذلك أعمى القلب‏.‏

وأما الناظر في المسألة، فهذا يحتاج إلى شيئين‏:‏ إلى أن يظفر بالدليل الهادي، وإلى أن يهتدي به وينتفع‏.‏ فأمره الشرع بما يوجب أن ينزل على قلبه الأسباب الهادية، ويصرف عنه الأسباب المعوقة، وهو ذكر الله ـ تعالى ـ والغفلة عنه، فإن الشيطان وسواس خناس، فإذا ذكر العبد ربه خنس، وإذا غفل عن ذكر الله وسوس‏.‏

وذكر الله يعطي الإيمان وهو أصل الإيمان‏.‏ والله ـ سبحانه ـ هو رب كل شىء ومليكه، وهو معلم كل علم وواهبه، فكما أن نفسه أصل لكل شىء موجود، فذكره، والعلم به أصل لكل علم، وذكره في القلب‏.‏

والقرآن يعطي العلم المفصل فيزيد الإيمان، كما قال جندب بن عبد الله البجلي وغيره من الصحابة‏:‏ تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيمانًا‏.‏ ولهذا كان أول ما أنزل الله على نبيه‏:‏‏}‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏1‏]‏، فأمره أن يقرأ باسم الله، فتضمن هذا الأمر بذكر الله، وما نزل من الحق، وقال‏:‏‏}‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1ـ 5 ‏]‏ ‏.‏

فذكر ـ سبحانه ـ أنه خلق أكرم الأعيان الموجودة ـ عمومًا وخصوصًا ـ وهو الإنسان، وأنه المعلم للعلم ـ عمومًا وخصوصًا ـ للإنسان، وذكر التعليم بالقلم الذي هو آخر المراتب؛ ليستلزم تعليم القول وتعليم العلم الذي في القلب‏.‏

وحقيقة الأمر‏:‏ أن العبد مفتقر إلى ما يسأله من العلم والهدى، طالب سائل، فبذكر الله والافتقار إليه يهديه الله ويدله، كما قال‏:‏ ‏(‏يا عبادي، كلكم ضَالٌّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم‏)‏ ، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم‏)‏‏.‏

ومما يوضح ذلك‏:‏ أن الطالب للعلم بالنظر والاستدلال، والتفكر والتدبر، لا يحصل له ذلك إن لم ينظر في دليل يفيده العلم بالمدلول عليه، ومتى كان العلم مستفادًا بالنظر، فلا بد أن يكون عنـد الناظر مـن العلـم المذكـور الثابـت في قلبه ما لا يحتاج حصوله إلى نظر، فيكون ذلك المعلوم أصلاً وسببًا للتفكر الذي يطلب به معلومًا آخر؛ ولهذا كان الذكر متعلقًا بالله؛ لأنه ـ سبحانه ـ هو الحق المعلوم، وكان التفكر في مخلوقاته، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏191‏]‏‏.‏

وقد جاء الأثر‏:‏ ‏(‏تفكَّروا في المخلوق ولا تتفكروا في الخالق‏)‏؛ لأن التفكير والتقدير يكون في الأمثال المضروبة، والمقاييس، وذلك يكون في الأمور المتشابهة، وهي المخلوقات ‏.‏

وأما الخالق ـ جل جلاله، سبحانه وتعالى ـ فليس له شبيه ولا نظير، فالتفكر الذي مبناه على القياس ممتنع في حقه، وإنما هو معلوم بالفطرة، فيذكره العبد‏.‏ وبالذكر، وبما أخبر به عن نفسه، يحصل للعبد من العلم به أمور عظيمة، لا تنال بمجرد التفكير والتقدير ـ أعني من العلم به نفسه، فإنه الذي لا تفكير فيه‏.‏

فأما العلم بمعاني ما أخبر به، ونحو ذلك، فيدخل فيها التفكير والتقدير كما جاء به الكتاب والسنة؛ ولهذا كان كثير من أرباب العبادة والتصوف يأمرون بملازمة الذكر، ويجعلون ذلك هو باب الوصول إلى الحق‏.‏ وهذا حسن، إذا ضموا إليه تدبر القرآن والسنة واتباع ذلك، وكثير من أرباب النظر والكلام يأمرون بالتفكر والنظر، ويجعلون ذلك هو الطريق إلى معرفة الحق‏.‏

والنظر صحيح إذا كان في حق ودليل ـ كما تقدم ـ فكل من الطريقين فيها حق، لكن يحتاج إلى الحق الذي في الأخرى، ويجب تنزيه كل منهما عما دخل فيها من الباطل، وذلك كله باتباع ما جاء به المرسلون، وقد بسطنا الكلام في هذا في غير هذا الموضع، وبينا طرق أهل العبادة والرياضة والذكر، وطريق أهل الكلام والنظر والاستدلال، وما في كل منهما من مقبول ومردود، وبينا ما جاءت به الرسالة من الطريق الكاملة الجامعة لكل حق، وليس هذا موضع بسط ذلك‏.‏

وإنما المقصود هنا أن الإنسان محس بأنه عالم، يجد ذلك ويعرفه بغير واسطة أحد،كما يحس بغير ذلك‏.‏

وحصول العلم في القلب كحصول الطعام في الجسم، فالجسم يحس بالطعام والشراب، وكذلك القلوب تحس بما يتنزل إليها من العلوم التي هي طعامها، وشرابها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته، وإن مأدبة الله هي القرآن‏)‏، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏17‏]‏، وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏(‏مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به‏)‏‏.‏

فضرب مثل الهدى والعلم الذي ينزل على القلوب بالماء الذي ينزل على الأرض‏.‏

وكما أن لله ملائكة موكلة بالسحاب والمطر، فله ملائكة موكلة بالهدى والعلم، هذا رزق القلوب وقوتها، وهذا رزق الأجساد وقوتها، قال الحسن البصري في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏3، الأنفال‏:‏3، الحج‏:‏35، القصص‏:‏54، السجدة‏:‏16، الشورى‏:‏38‏]‏، قال‏:‏ إن من أعظم النفقة نفقة العلم، أو نحو هذا الكلام‏.‏ وفي أثر آخر‏:‏ نعمت العطية، ونعمت الهدية، الكلمة من الخير يسمعها الرجل فيهديها إلى أخ له مسلم‏.‏ وفي أثر آخر عن أبي الدرداء‏:‏ ما تصدق عبد بصدقة أفضل من موعظة يعظ بها إخوانا له مؤمنين، فيتفرقون وقد نفعهم الله بها‏.‏ أو ما يشبه هذا الكلام‏.‏

وعن كعب بن عُجْرَة قال‏:‏ ألا أهدي لك هدية‏؟‏ فذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وروى ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏: ‏‏(‏ أفضل الصدقة أن يتعلم الرجل علمًا، ثم يعلمه أخاه المسلم‏)‏‏.‏ وقال معاذ بن جبل‏:‏ عليكم بالعلم، فإن طلبه عبادة، وتعلمه لله حسنة، وبذله لأهله قربة، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، والبحث عنه جهاد، ومذاكرته تسبيح‏.‏

ولهذا كان معلم الخير يستغفر له كل شىء، حتى الحيتان في البحر، والله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير، لما في ذلك من عموم النفع لكل شىء‏.‏ وعكسه كاتمو العلم، فإنهم يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، قال طائفة من السلف‏:‏ إذا كتم الناس العلم، فعمل بالمعاصي أحتبس القَطْرُ، فتقول البهائم‏:‏ اللهم عصاة بني آدم، فإنا منعنا القَطْر بسبب ذنوبهم‏.‏

وإذا كان علم الإنسان بكونه عالمًا مرجعه إلى وجوده ذلك، وإحساسه في نفسه بذلك وهذا أمر موجود بالضرورة ،لم يكن لهم أن يخبروا عما في نفوس الناس، بأنه ليس بعلم بغير حجة، فإن عدم وجودهم من نفوسهم ذلك لا يقتضي أن الناس لم يجدوا ذلك، لا سيما إذا كان المخبرون يخبرون عن اليقين الذي في أنفسهم، عمن لا يشكون في علمه وصدقه ومعرفته بما يقول‏.‏

وهذا حال أئمة المسلمين وسلف الأمة، وحملة الحجة، فإنهم يخبرون بما عندهم من اليقين والطمأنينة والعلم الضروري، كما في الحكاية المحفوظة عن [‏نجم الدين العُكْبَريِّ‏]‏ لما دخل عليه متكلمان‏:‏ أحدهما‏:‏ أبو عبد الله الرازي، والآخر‏:‏ من متكلمي المعتزلة، وقالا‏:‏ يا شيخ، بلغنا أنك تعلم علم اليقين، فقال‏:‏ نعم، أنا أعلم علم اليقين‏.‏ فقالا‏:‏ كيف يمكن ذلك، ونحن من أول النهار إلى الساعة نتناظر، فلم يقدر أحدنا أن يقيم على الآخر دليلاً‏؟‏ ـ وأظن الحكاية في تثبيت الإسلام ـ فقال‏:‏ ما أدري ما تقولان، ولكن أنا أعلم علم اليقين‏.‏ فقالا‏:‏ صف لنا علم اليقين، فقال‏:‏ علم اليقين ـ عندنا ـ واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها فجعلا يقولان‏:‏ واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها‏؟‏‏!‏ ويستحسنان هذا الجواب‏.‏

وذلك؛ لأن طريق أهل الكلام تقسيم العلوم إلى ضروري وكسبي، أو بديهي ونظري‏.‏

فالنظري الكسبي‏:‏ لابد أن يرد إلى مقدمات ضرورية أو بديهية، فتلك لا تحتاج إلى دليل، وإلا لزم الدور أو التسلسل‏.‏

والعلم الضروري‏:‏ هو الذي يلزم نفس المخلوق لزومًا لا يمكنه الانفكاك عنه، فالمرجع في كونه ضروريًا إلى أنه يعجز عن دفعه عن نفسه‏.‏

فأخبر الشيخ أن علومهم ضرورية، وأنها ترد على النفوس على وجه تعجز عن دفعه، فقالا له‏:‏ ما الطريق إلى ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ تتركان ما أنتما فيه، وتسلكان ما أمركما الله به من الذكر والعبادة‏.‏ فقال الرازي‏:‏ أنا مشغول عن هذا‏.‏ وقال المعتزلي‏:‏ أنا قد احترق قلبي بالشبهات، وأحب هذه الواردات، فلزم الشيخ مدة، ثم خرج من محل عبادته، وهو يقول‏:‏ والله يا سيدي، ما الحق إلا فيما يقوله هؤلاء المشبهة ـ يعني‏:‏ المثبتين للصفات، فإن المعتزلة يسمون الصفاتية مشبهة ـ وذلك أنه علم علمًا ضروريًا لا يمكنه دفعه عن قلبه أن رب العالم لابد أن يتميز عن العالم، وأن يكون بائنًا منه، له صفات تختص به، وأن هذا الرب الذي تصفه الجهمية إنما هو عدم محض‏.‏

وهذا موضع الحكاية المشهورة عن الشيخ العارف أبي جعفر الهمداني -‏[‏هو أبو الفضل جعفر بن علي بن هبة الله بن أبي الفتح الهمداني، والمالكي، ولد سنة 546هـ، وأقام بالقاهرة مدة ثم توجه إلى دمشق، وروى الكثير، وكان ثقة صالحًا من أهل القرآن، قيل‏:‏ إنه توفى سنة 636هـ بدمشق‏.]‏ -لأبي المعالي الجويني، لما أخذ يقول على المنبر‏:‏ كان الله ولا عرش، فقال‏:‏ يا أستاذ، دعنا من ذكر العرش ـ يعني‏:‏ لأن ذلك إنما جاء في السمع ـ أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط‏:[‏يا الله‏] ‏إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو، لا تلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا‏؟‏ قال‏:‏ فلطم أبو المعالي على رأسه، وقال‏:‏ حيرني الهمداني، حيرني الهمداني، ونزل‏.‏

وذلك لأن نفس استوائه على العرش ـ بعد أن خلق السموات والأرض في ستة أيام ـ علم بالسمع، الذي جاءت به الرسل، كما أخبر الله به في القرآن والتوراة‏.‏

وأما كونه عاليًا على مخلوقاته بائنا منهم، فهذا أمر معلوم بالفطرة الضرورية، التي يشترك فيها جميع بني آدم‏.‏

وكل من كان بالله أعرف، وله أعبد، ودعاؤه له أكثر، وقلبه له أذكر، كان علمه الضروري بذلك أقوى وأكمل، فالفطرة مكملة بالفطرة المنزلة، فإن الفطرة تعلم الأمر مجملًا، والشريعة تفصله وتبينه، وتشهد بما لا تستقل الفطرة به، فهذا هذا، والله أعلم‏.

فصــل

والحاصل أن كل من استحكم في بدعته يرى أن قياسه يطرد؛ لما فيه من التسوية بين المتماثلين عنده ـ وإن استلزم ذلك كثرة مخالفة النصوص ـ وهذا موجود في المسائل العلمية الخبرية، والمسائل العملية الإرادية تجد المتكلم قد يطرد قياسه طردًا مستمرًا فيكون في ظاهر الأمر أجود ممن نقضها، وتجد المستن الذي شاركه في ذلك القياس قد يقول ما يناقض ذلك القياس في مواضع، مع استشعار التناقض تارة، وبدون استشعاره تارة، وهو الأغلب‏.‏ وربما يخيل بفروق ضعيفة فهو في نقض علته والتفريق بين المتماثلين فيها، يظهر أنه دون الأول في العلم والخبرة وطرد القول، وليس كذلك، بل هو خير من الأول‏.‏ فإن ذلك القياس الذي اشتركا فيه كان فاسدًا في أصله؛ لمخالفة النص والقياس الصحيح، فالذي طرده أكثر فسادًا وتناقضًا من هذا الذي نقضه‏.‏ وهذا شأن كل من وافق غيره على قياس ليس هو في نفس الأمر بحق، وكان أحدهما من النصوص في مواضع ما يخالف ذلك القياس، وهذا يسميه الفقهاء في مواضع كثيرة‏:‏ الاستحسان‏.‏ فتجد القائلين بالاستحسان، الذي تركوا فيه القياس لنص خيرًا من الذين طردوا القياس وتركوا النص‏.‏

ولهذا يروى عن أبي حنيفة، أنه قال‏:‏ لا تأخذوا بمقاييس زُفَر، فإنكم إن أخذتم بمقاييسه حرمتم الحلال وحللتم الحرام، فإن زفر كان كثير الطرد، لما يظنه من القياس مع قلة علمه بالنصوص‏.‏

وكان أبو يوسف نظره بالعكس، كان أعلم بالحديث منه؛ ولهذا توجد المسائل التي يخالف فيها زفر أصحابه عامتها قياسية، ولا يكون إلا قياسًا ضعيفًا عند التأمل، وتوجد المسائل التي يخالف فيها أبو يوسف أبا حنيفة واتبعه محمد عليها، عامتها اتبع فيها النصوص والأقيسة الصحيحة؛ لأن أبا يوسف رحل بعد موت أبي حنيفة إلى الحجاز، واستفاد من علم السنن التي كانت عندهم ما لم تكن مشهورة بالكوفة، وكان يقول‏:‏ لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت؛ لعلمه بأن صاحبه ما كان يقصد إلا اتباع الشريعة، لكن قد يكون عند غيره من علم السنن ما لم يبلغه‏.‏

وهذا ـ أيضًا ـ حال كثير من الفقهاء ـ بعضهم مع بعض ـ فيما وافقوا عليه من قياس لم تثبت صحته بالأدلة المعتمدة، فإن الموافقة فيه توجب طرده، ثم أهل النصوص قد ينقضونه، والذين لا يعلمون النصوص يطردونه‏.‏

وكذلك هذه حال أكثر متكلمة أهل الإثبات مع متكلمة النفاة في مسائل الصفات والقدر وغير ذلك، قد يوافقونهم على قياس فيه نفي، ثم يطرده أولئك فينفون به ما أثبتته النصوص، والمثبتة لا تفعل ذلك، بل لابد من القول بموجب النص، فربما قالوا ببعض معناها، وربما فرقوا بفرق ضعيف‏.‏

وأصل ذلك‏:‏ موافقة أولئك على القياس الضعيف، وذلك في مثل مسائل الجسم والجوهر وغير ذلك‏.‏

وهكذا تجد هذا حال من أعان ظالمًا في الأفعال، فإن الأفعال لا تقع إلا عن إرادة، فالظالم يطرد إرادته فيصيب من أعانه، أو يصيب ظلمًا لا يختاره هذا، فيريد المعين أن ينقض الطرد، ويخص علته؛ ولهذا يقال‏:‏ من أعان ظالمًا بُلى به، وهذا عام في جميع الظلمة من أهل الأقوال والأعمال، وأهل البدع والفجور‏.‏ وكل من خالف الكتاب والسنة‏:‏ من خبر أو أمر أو عمل، فهو ظالم‏.‏

فإن الله أرسل رسله؛ ليقوم الناس بالقسط، ومحمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم، وقد بين الله ـ سبحانه ـ له من القسط ما لم يبينه لغيره، وأقدره على ما لم يقدر عليه غيره، فصار يفعل ويأمر بما لا يأمر به غيره ويفعله‏.‏

وذلك أن بني آدم في كثير من المواضع قد لا يعلمون حقيقة القسط ولا يقدرون على فعله، بل ما كان إليه أقرب وبه أشبه كان أمثل، وهي الطريقة المثلى‏.‏ وقد بسطنا هذا في مواضع، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 9‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏286‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏16‏]‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم‏)‏ ‏.‏

والمقصود أن ما عند عوام المؤمنين وعلمائهم ـ أهل السنة والجماعة ـ من المعرفة واليقين والطمأنينة، والجزم الحق والقول الثابت، والقطع بما هم عليه أمر لا ينازع فيه إلا من سلبه الله العقل والدين‏.‏

وهب أن المخالف لا يسلم ذلك، فلا ريب أنهم يخبرون عن أنفسهم بذلك، ويقولون‏:‏ إنهم يجدون ذلك، وهو وطائفته يخبرون بضد ذلك، ولا يجدون عندهم إلا الريب‏.‏ فأي الطائفتين أحق بأن يكون كلامها موصوفًا بالحشو‏؟‏ أو يكون أولى بالجهل والضلال، والإفك والمحال‏؟‏ وكلام المشائخ والأئمة من أهل السنة والفقه والمعرفة في هذا الباب أعظم من أن نطيل به الخطاب‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أنك تجد أهل الكلام أكثر الناس انتقالاً من قول إلى قول، وجزمًا بالقول في موضع، وجزمًا بنقيضه، وتكفير قائله في موضع آخر، وهذا دليل عدم اليقين، فإن الإيمان كما قال فيه‏[‏قيصر‏] ‏لما سأل أبا سفيان عمن أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل يرجع أحد منهم عن دينه سُخْطَة له، بعد أن يدخل فيه ‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب، لا يسخطه أحد، ولهذا قال بعض السلف ـ عمر بن عبد العزيز أو غيره ـ‏:‏ من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل‏.‏

وأما أهل السنة والحديث فما يعلم أحد من علمائهم، ولا صالح عامتهم، رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبرًا على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين، كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك ـ رحمه الله ـ يقول‏:‏ لا تغبطوا أحدًا لم يصبه في هذا الأمر بلاء‏.‏ يقول‏:‏ إن الله لابد أن يبتلي المؤمن، فإن صبر رفع درجته، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏1ـ3‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏24‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}‏ ‏[‏سورة العصر‏]‏‏.‏

ومن صبر من أهل الأهواء على قوله، فذاك لما فيه من الحق، إذ لابد في كل بدعة عليها طائفة كبيرة من الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوافق عليه أهل السنة والحديث، ما يوجب قبولها؛ إذ الباطل المحض لا يقبل بحال‏.‏

وبالجملة، فالثبات والاستقرار في أهل الحديث والسنة أضعاف أضعاف أضعاف ما هو عند أهل الكلام والفلسفة، بل المتفلسف أعظم اضطرابًا وحيرة في أمره من المتكلم؛ لأن عند المتكلم من الحق الذي تلقاه عن الأنبياء ما ليس عند المتفلسف؛ ولهذا تجد مثل‏:‏ أبي الحسين البصري وأمثاله أثبت من مثل‏:‏ ابن سينا وأمثاله‏.‏

وأيضا، تجد أهل الفلسفة والكلام أعظم الناس افتراقًا واختلافًا، مع دعوى كل منهم أن الذي يقوله حق مقطوع به قام عليه البرهان‏.‏ وأهل السنة والحديث أعظم الناس اتفاقا وائتلافًا، وكل من كان من الطوائف إليهم أقرب كان إلى الاتفاق والائتلاف أقرب، فالمعتزلة أكثر اتفاقًا وائتلافًا من المتفلسفة؛ إذ للفلاسفة في الإلهيات والمعاد والنبوات، بل وفي الطبيعيات والرياضيات، وصفات الأفلاك، من الأقوال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال‏.‏

وقد ذكر من جمع مقالات الأوائل، مثل أبي الحسن الأشعري في كتاب المقالات، ومثل القاضي أبي بكر في كتاب ‏[‏الدقائق‏] ‏من مقالاتهم، بقدر ما يذكره الفارابي، وابن سينا، وأمثالهما أضعافًا مضاعفة‏.‏

وأهل الإثبات من المتكلمين ـ مثل الكلابية والكرامية والأشعرية ـ أكثر اتفاقًا وائتلافًا من المعتزلة، فإن في المعتزلة من الاختلافات وتكفير بعضهم بعضًا، حتى ليكفر التلميذ أستاذه، من جنس ما بين الخوارج، وقد ذكر من صَنَّف في فضائح المعتزلة من ذلك ما يطول وصفه، ولست تجد اتفاقًا وائتلافًا إلا بسبب اتباع آثار الأنبياء من القرآن والحديث، وما يتبع ذلك، ولا تجد افتراقًا واختلافًا إلا عند من ترك ذلك وقدم غيره عليه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏118 ،119‏]‏، فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون وأهل الرحمة هم أتباع الأنبياء قولاً وفعلاً، وهم أهل القرآن والحديث من هذه الأمة، فمن خالفهم في شيء فاته من الرحمة بقدر ذلك‏.‏

ولهذا لما كانت الفلاسفة أبعد عن اتباع الأنبياء، كانوا أعظم اختلافًا، و الخوارج والمعتزلة والروافض لما كانوا ـ أيضًا ـ أبعد عن السنة والحديث، كانوا أعظم افتراقًا في هذه، لاسيما الرافضة، فإنه يقال‏:‏ إنهم أعظم الطوائف اختلافًا؛ وذلك لأنهم أبعد الطوائف عن السنة والجماعة، بخلاف المعتزلة فإنهم أقرب إلى ذلك منهم‏.‏

وأبو محمد بن قتيبة ـ في أول كتاب مختلف الحديث ـ لما ذكر أهل الحديث وأئمتهم، وأهل الكلام وأئمتهم، قفى بذكر أئمة هؤلاء ووصف أقوالهم وأعمالهم، ووصف أئمة هؤلاء، وأقوالهم وأفعالهم بما يبين لكل أحد أن أهل الحديث هم أهل الحق والهدى، وأن غيرهم أولى بالضلال والجهل والحشو والباطل ‏.‏

وأيضًا، المخالفون لأهل الحديث هم مظنة فساد الأعمال؛ إما عن سوء عقيدة ونفاق، وإما عن مرض في القلب وضعف إيمان، ففيهم من ترك الواجبات، واعتداء الحدود والاستخفاف بالحقوق وقسوة القلب، ما هو ظاهر لكل أحد، وعامة شيوخهم يرمون بالعظائم، وإن كان فيهم من هو معروف بزهد وعبادة، ففي زهد بعض العامة من أهل السنة وعبادته ما هو أرجح مما هو فيه‏.‏

ومن المعلوم أن العلم أصل العمل، وصحة الأصول توجب صحة الفروع، والرجل لا يصدر عنه فساد العمل إلا لشيئين؛ إما الحاجة، وإما الجهل، فأما العالم بقبح الشيء الغني عنه فلا يفعله، اللهم إلا من غلب هواه عقله واستولت عليه المعاصي، فذاك لون آخر وضرب ثان‏.‏

وأيضاً، فإنه لا يعرف من أهل الكلام أحد إلا وله في الإسلام مقالة يكفر قائلها عموم المسلمين حتى أصحابه، وفي التعميم ما يغني عن التعيين، فأي فريق أحق بالحشو والضلال من هؤلاء‏؟‏ وذلك يقتضي وجود الردة فيهم، كما يوجد النفاق فيهم كثيرًا‏.‏

وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال‏:‏ إنه فيها مخطئ ضال، لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي تعلم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين، بل اليهود والنصارى يعلمون أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث بها، وكفر مخالفها؛ مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين والشمس والقمر والكواكب والأصنام وغير ذلك، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل أمره بالصلوات الخمس، وإيجابه لها وتعظيم شأنها، ومثل معاداته لليهود والنصارى والمشركين والصابئين والمجوس، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك‏.‏

ثم تجد كثيرًا من رؤسائهم وقعوا في هذه الأمور، فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون إلى الإسلام، فقد حكى عن الجهم بن صفوان‏:‏ أنه ترك الصلاة أربعين يومًا لا يرى وجوبها، كرؤساء العشائر مثل الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن ونحوهم ممن ارتد عن الإسلام ودخل فيه، ففيهم من كان يتهم بالنفاق ومرض القلب، وفيهم من لم يكن كذلك‏.‏

أو يقال‏:‏ هم لما فيهم من العلم يشبهون بعبد الله بن أبي سرح، الذي كان كاتب الوحي، فارتد ولحق بالمشركين، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه عام الفتح، ثم أتى به عثمان إليه فبايعه على الإسلام‏.‏

فمن صنف في مذهب المشركين ونحوهم، أحسن أحواله‏:‏ أن يكون مسلمًا، فكثير من رؤوس هؤلاء هكذا، تجده تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة، وتارة يعود إليه مع مرض في قلبه ونفاق، وقد يكون له حال ثالثة يغلب الإيمان فيها النفاق، لكن قل أن يسلموا من نوع نفاق، والحكايات عنهم بذلك مشهورة، وقد ذكر ابن قتيبة من ذلك طرفًا في أول ‏[‏مختلف الحديث‏]‏، وقد حكى أهل المقالات لبعضهم عن بعض من ذلك طرفًا، كما يذكره أبو عيسى الوراق والنوبختي وأبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر بن الباقلاني، وأبوعبد الله الشهرستاني، وغيرهم، ممن يذكر مقالات أهل الكلام‏.‏

وأبلغ من ذلك أن منهم من يصنف في دين المشركين والردة عن الإسلام، كما صنف الرازي كتابه في عبادة الكواكب والأصنام، وأقام الأدلة على حسن ذلك ومنفعته ورغب فيه، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين، وإن كان قد يكون تاب منه وعاد إلى الإسلام‏.‏

ومن العجب، أن أهل الكلام يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد، ليسوا أهل نظر واستدلال، وأنهم ينكرون حجة العقل‏.‏ وربما حكي إنكار النظر عن بعض أئمة السنة، وهذا مما ينكرونه عليهم‏.‏

فيقال لهم‏:‏ ليس هذا بحق؛ فإن أهل السنة والحديث لا ينكرون ما جاء به القرآن، هذا أصل متفق عليه بينهم، والله قد أمر بالنظر والاعتبار والتفكر والتدبر في غير آية، ولا يعرف عن أحد من سلف الأمة ولا أئمة السنة وعلمائها أنه أنكر ذلك، بل كلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة، من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر وغير ذلك، ولكن وقع اشتراك في لفظ ‏[‏النظر والاستدلال‏]‏ ولفظ ‏[‏الكلام‏]‏، فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم، فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لإنكار جنس النظر والاستدلال‏.‏

وهذا كما أن طائفة من أهل الكلام يسمى ما وضعه ‏[‏أصول الدين‏]‏، وهذا اسم عظيم، والمسمى به فيه من فساد الدين ما الله به عليم‏.‏ فإذا أنكر أهل الحق والسنة ذلك، قال المبطل‏:‏ قد أنكروا أصول الدين‏.‏ وهم لم ينكروا ما يستحق أن يسمى أصول الدين، وإنما أنكروا ما سماه هذا أصول الدين، وهي أسماء سموها هم وآباؤهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، فالدين ما شرعه الله ورسوله، وقد بين أصوله وفروعه، ومن المحال أن يكون الرسول قد بين فروع الدين دون أصوله، كما قد بينا هذا في غير هذا الموضع، فهكذا لفظ النظر، والاعتبار، والاستدلال‏.‏

وعامة هذه الضلالات إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة،كما كان الزهري يقول‏:‏ كان علماؤنا يقولون‏:‏ الاعتصام بالسنة هو النجاة، وقال مالك‏:‏ السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق‏.‏

وذلك أن السنة والشريعة والمنهاج هو الصراط المستقيم، الذي يوصل العباد إلى الله‏.‏ والرسول هو الدليل الهادي الخِرِّيت-‏[‏الخِرِّيت‏:‏ الدليل الحاذق‏]‏- في هذا الصراط، كما قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏45 ،46‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏53،52‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏153‏]‏، وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا، وخط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال‏:‏ ‏(‏هذا سبيل الله، وهذه سُبُل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه‏)‏‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ‏}‏ ‏.‏

وإذا تأمل العاقل ـ الذي يرجو لقاء الله ـ هذا المثال، وتأمل سائر الطوائف من الخوارج، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، والرافضة، ومن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلام، مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم، وأن كلا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث، ويدعي أن سبيله هو الصواب، وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم ،الذي لا يتكلم عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى‏.‏

والعجب أن من هؤلاء من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث ـ لاسيما في أخبار الصفات ـ حمل الحديث على عقله وصرح بتقديمه على الحديث، وجعل عقله ميزانًا للحديث، فليت شعري هل عقله هذا كان مصرحًا بتقديمه في الشريعة المحمدية، فيكون من السبيل المأمور باتباعه، أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل ‏؟‏ فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

وهؤلاء الاتحادية وأمثالهم، إنما أتوا من قلة العلم والإيمان بصفات الله التي يتميز بها عن المخلوقات، وقلة اتباع السنة وطريقة السلف في ذلك، بل قد يعتقدون من التجهم ما ينافي السنة، تلقيًا لذلك عن متفلسف أو متكلم، فيكون ذلك الاعتقاد صادًا لهم عن سبيل الله، كلما أرادت قلوبهم أن تتقرب إلى ربها، وتسلك الصراط المستقيم إليه، وتعبده ـ كما فطروا عليه، وكما بلغتهم الرسل من علوه وعظمته ـ صرفتهم تلك العوائق المضلة عن ذلك، حتى تجد خلقًا من مقلدة الجهمية يوافقهم بلسانه، وأما قلبه فعلى الفطرة والسنة، وأكثرهم لا يفهمون ما النفي الذي يقولونه بألسنتهم، بل يجعلونه تنزيهًا مطلقًا مجملاً‏.‏

ومنهم من لا يفهم قول الجهمية‏.‏ بل يفهم من النفي معنى صحيحًا، ويعتقد أن المثبت يثبت نقيض ذلك، ويسمع من بعض الناس ذكر ذلك‏.‏

مثل أن يفهم من قولهم‏:‏ ليس في جهة، ولا له مكان، ولا هو في السماء، أنه ليس في جوف السموات، وهذا معنى صحيح، وإيمانه بذلك حق، ولكن يظن أن الذين قالوا هذا النفي اقتصروا على ذلك، وليس كذلك، بل مرادهم‏:‏ أنه ما فوق العرش شيء أصلاً، ولا فوق السموات إلا عدم محض، ليس هناك إله يعبد، ولا رب يدعى ويسأل، ولا خالق خلق الخلائق، ولا عُرج بالنبي إلى ربه أصلا، هذا مقصودهم‏.‏

وهذا هو الذي أوقع الاتحادية في قولهم‏:‏ هو نفس الموجودات؛ إذ لم تجد قلوبهم موجودًا إلا هذه الموجودات، إذا لم يكن فوقها شيء آخر، وهذا من المعارف الفطرية الشهودية الوجودية‏:‏ أنه ليس إلا هذا الوجود المخلوق، أو وجود آخر مباين له متميز عنه، لاسيما إذا علموا أن الأفلاك مستديرة وأن الأعلى هو المحيط؛ فإنهم يعلمون أنه ليس إلا هذا الوجود المخلوق، أو موجود فوقه‏.‏

فإذا اعتقدوا مع ذلك أنه ليس هناك وجود آخر ولا فوق العالم شيء، لزم أن يقولوا‏:‏ هو هذا الوجود المخلوق، كما قال الاتحادية‏.‏ وهذه بعينها هي حجة الاتحادية‏.‏ وهذا بعينه هو مشرب قدماء الجهمية وحدثائهم كما يقولون‏:‏ هو في كل مكان، وليس هو في مكان‏.‏ ولايختص بشيء، يجمعون دائمًا بين القولين المتناقضين؛ لأنهم يريدون إثبات موجود، وليس عندهم شيء فوق العالم، فتعين أن يكون هو العالم أو يكون فيه‏.‏ ثم يريدون إثبات شيء غير المخلوق، فيقولون‏:‏ ليس هو في العالم كما ليس خارجًا عنه، أو يقولون‏:‏ هو وجود المخلوقات دون أعيانها، أو يقولون‏:‏ هو الوجود المطلق فيثبتونه فيما يثبتون؛ إذ كانت قلوبهم متشابهة في النفي والتعطيل، وهو إنكار موجود حقيقي مباين للمخلوقات عالٍ عليها‏.‏ وإنما يفترقون فيما يثبتونه، ويكرهون فطرهم وعقولهم على قبول المحال المتناقض، فيقولون‏:‏ هو في العالم، وليس هو فيه، أو هو العالم وليس إياه، أو يغلبون الإثبات فيقولون‏:‏ بل هو نفس الوجود، أو النفي، فيقولون‏:‏ ليس في العالم ولا خارجًا عنه، أو يدينون بالإثبات في حال وبالنفي في حال، إذا غلب على أحدهم عقله غلب النفي، وهو أنه ليس في العالم، وإذا غلب عليه الوجْد والعبادة رجح الإثبات وهو أنه في هذا الوجود أو هو هو، لا تجد جهميًا إلا على أحد هذه الوجوه الأربعة، وإن تنوعوا فيما يثبتونه ـ كما ذكرته لك ـ فهم مشتركون في التعطيل ‏.‏

وقد رأيت منهم ومن كتبهم، وسمعت منهم وممن يخبر عنهم من ذلك ما شاء الله، وكلهم على هذه الأحوال ضالون عن معبودهم وإلههم وخالقهم‏.‏ ثم رأيت كلام السلف والأئمة كلهم يصفونهم بمثل ذلك‏.‏ فمَنَّ الله علينا باتباع سبيل المؤمنين وآمنا بالله وبرسوله، وكل هؤلاء يجد نفسه مضطربة في هذا الاعتقاد؛ لتناقضه في نفسه، وإنما يسكن بعض اضطرابه نوع تقليد لمعظم عنده، أو خوفه من مخالفة أصحابه، أو زعمه أن هذا من حكم الوهم والخيال دون العقل‏.‏

وهذا التناقض في إثبات هذا الموجود الذي ليس بخارج عن العالم ولا هو العالم، الذي ترده فطرهم وشهودهم وعقولهم، غير ما في الفطرة من الإقرار بصانع فوق العالم، فإن هذا إقرار الفطرة بالحق المعروف، وذاك إنكار الفطرة بالباطل المنكر‏.‏

ومن هذا الباب‏:‏ ما ذكره محمد بن طاهر المقدسي في حكايته المعروفة‏:‏ أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مرة، والأستاذ أبو المعالي يذكر على المنبر‏:‏ كان الله ولا عرش، ونفى الاستواء ـ على ما عرف من قوله، وإن كان في آخر عمره رجع عن هذه العقيدة، ومات على دين أمه وعجائز نيسابور ـ قال‏:‏ فقال الشيخ أبو جعفر‏:‏ يا أستاذ، دعنا من ذكر العرش ـ يعني‏:‏ لأن ذلك إنما جاء في السمع ـ أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا‏:‏ ما قال عارف قط‏:‏ يا ألله إلا وجد من قلبه معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا‏؟‏ فصرخ أبو المعالي، ووضع يده على رأسه، وقال‏:‏ حيرني الهمداني، أو كما قال، ونزل‏.‏

فهذا الشيخ تكلم بلسان جميع بني آدم، فأخبر أن العرش والعلم باستواء الله عليه، إنما أخذ من جهة الشرع وخبر الكتاب والسنة، بخلاف الإقرار بعلو الله على الخلق من غير تعيين عرش ولا استواء، فإن هذا أمر فطري ضروري نجده في قلوبنا نحن وجميع من يدعو الله ـ تعالى ـ فكيف ندفع هذه الضرورة عن قلوبنا ‏؟‏‏!‏

والجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أين الله‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ في السماء‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أعتقها فإنها مؤمنة‏)‏ ،جارية أعجمية، أرأيت من فقَّهها وأخبرها بما ذكرته‏؟‏ وإنما أخبرت عن الفطرة التي فطرها الله ـ تعالى ـ عليها، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وشهد لها بالإيمان‏.‏

فليتأمل العاقل ذلك يجده هاديًا له على معرفة ربه، والإقرار به كما ينبغي، لا ما أحدثه المتعمقون والمتشدقون ممن سول لهم الشيطان وأملى لهم‏.‏

ومن أمثلة ذلك‏:‏ أن الذين لبسوا الكلام بالفلسفة ـ من أكابر المتكلمين ـ تجدهم يعدون من الأسرار المصونة والعلوم المخزونة، ما إذا تدبره من له أدنى عقل ودين، وجد فيه من الجهل والضلال ما لم يكن يظن أنه يقع فيه هؤلاء، حتى قد يكذب بصدور ذلك عنهم، مثل تفسير حديث المعراج الذي ألفه ‏[‏أبوعبد الله الرازي‏]‏، الذي احتذى فيه حذو ابن سينا، و‏[‏عين القضاة الهمداني‏]‏، فإنه روى حديث المعراج بسياق طويل وأسماء عجيبة، وترتيب لا يوجد في شيء من كتب المسلمين، لا في الأحاديث الصحيحة ولا الحسنة، ولا الضعيفة المروية عند أهل العلم، وإنما وضعه بعض السؤال والطرقية، أو بعض شياطين الوعاظ أو بعض الزنادقة‏.‏

ثم إنه مع الجهل بحديث المعراج ـ الموجود في كتب الحديث والتفسير والسيرة، وعدوله عما يوجد في هذه الكتب إلى ما لم يسمع من عالم، ولا يوجد في أثارة من علم ـ فسره بتفسير الصابئة الضالة المنجمين، وجعل معراج الرسول ترقيه بفكره إلى الأفلاك، وأن الأنبياء الذين رآهم هم الكواكب، فآدم هو القمر، وإدريس هو الشمس، والأنهار الأربعة هي العناصر الأربعة، وأنه عرف الوجود الواجب المطلق، ثم إنه يعظم ذلك ويجعله من الأسرار والمعارف التي يجب صونها عن أفهام المؤمنين، وعلمائهم، حتى إن طائفة ممن كانوا يعظمونه لما رأوا ذلك تعجبوا منه غاية التعجب، وجعل بعض المتعصبين له يدفع ذلك، حتى أروه النسخة بخط بعض المشائخ المعروفين الخبيرين بحاله، وقد كتبها في ضمن كتابه الذي سماه‏:‏‏[‏المطالب العالية‏]‏، وجمع فيه عامة آراء الفلاسفة والمتكلمين‏.‏

وتجد أبا حامد الغزالي ـ مع أن له من العلم بالفقه والتصوف والكلام والأصول وغير ذلك، مع الزهد والعبادة وحسن القصد، وتبحره في العلوم الإسلامية أكثر من أولئك ـ يذكر في كتاب‏[‏الأربعين‏] ‏ونحوه، كتابه‏:‏‏[‏المضنون به على غير أهله]‏، فإذا طلبت ذلك الكتاب واعتقدت فيه أسرار الحقائق وغاية المطالب، وجدته قول الصابئة المتفلسفة بعينه، قد غيرت عباراتهم وترتيباتهم، ومن لم يعلم حقائق مقالات العباد ومقالات أهل الملل، يعتقد أن ذاك هو السر الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وأنه هو الذي يطلع عليه المكاشفون الذين أدركوا الحقائق بنور إلهي‏.‏

فإن أبا حامد كثيرًا ما يحيل في كتبه على ذلك النور الإلهي، وعلى ما يعتقد أنه يوجد للصوفية والعباد، برياضتهم وديانتهم من إدراك الحقائق وكشفها لهم، حتى يزنوا بذلك ما ورد به الشرع‏.‏

وسبب ذلك أنه كان قد علم بذكائه وصدق طلبه، ما في طريق المتكلمين والمتفلسفة من الاضطراب وآتاه الله إيمانًا مجملاً ـ كما أخبر به عن نفسه ـ وصار يتشوف إلى تفصيل الجملة، فيجد في كلام المشائخ والصوفية ما هو أقرب إلى الحق، وأولى بالتحقيق من كلام الفلاسفة والمتكلمين، والأمر كما وجده، لكن لم يبلغه من الميراث النبوي الذي عنـد خاصة الأمة من العلوم والأحوال، وما وصل إليه السابقون الأولون من العلم والعبادة، حتى نالوا من المكاشفات العلمية والمعاملات العبادية ما لم ينله أولئك‏.‏

فصار يعتقد أن تفصيل تلك الجملة يحصل بمجرد تلك الطريق، حيث لم يكن عنده طريق غيرها، لانسداد الطريقة الخاصة السنية النبوية عنه بما كان عنده من قلة العلم بها، ومن الشبهات التي تقلدها عن المتفلسفة والمتكلمين، حتى حالوا بها بينه وبين تلك الطريقة‏.‏

ولهذا كان كثير الذم لهذه الحوائل ولطريقة العلم، وإنما ذاك لعلمه الذي سلكه، والذي حجب به عن حقيقة المتابعة للرسالة، وليس هو بعلم، وإنما هو عقائد فلسفية وكلامية، كما قال السلف‏:‏ العلم بالكلام هو الجهل، وكما قال أبو يوسف‏:‏ من طلب العلم بالكلام تزندق‏.‏

ولهذا صار طائفة ممن يرى فضيلته وديانته يدفعون وجود هذه الكتب عنه، حتى كان الفقيه أبو محمد بن عبد السلام ـ فيما علقه عنه ـ ينكر أن يكون‏ [‏بداية الهداية‏] ‏من تصنيفه، ويقول‏:‏ إنما هو تقول عليه، مع أن هذه الكتب مقبولها أضعاف مردودها، والمردود منها أمور مجملة، وليس فيها عقائد، ولا أصول الدين‏.‏

وأما المضنون به على غير أهله، فقد كان طائفة أخرى من العلماء يكذبون ثبوته عنه، وأما أهل الخبرة به وبحاله، فيعلمون أن هذا كله كلامه، لعلمهم بمواد كلامه ومشابهة بعضه بعضًا، ولكن كان هو وأمثاله ـ كما قدمت ـ مضطربين لا يثبتون على قول ثابت؛ لأن عندهم من الذكاء والطلب ما يتشوفون به إلى طريقة خاصة الخلق، ولم يقدر لهم سلوك طريق خاصة هذه الأمة، الذين ورثوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم العلم والإيمان، وهم أهل حقائق الإيمان والقرآن ـ كما قدمناه ـ وأهل الفهم لكتاب الله والعلم والفهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباع هذا العلم بالأحوال والأعمال المناسبة لذلك، كما جاءت به الرسالة‏.

ولهذا كان الشيخ أبو عمرو بن الصلاح -[‏هو أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي الشهرزوري، المعروف بابن الصلاح، الفقيه الشافعي، ولد سنة 577هـ، صنف في علوم الحديث، وتوفي في سنة 643هـ بدمشق‏.]‏- يقول ـ فيما رأيته بخطه ـ‏:‏ أبو حامد كثر القول فيه ومنه‏.‏

فأما هذه الكتب ـ يعني المخالفة للحق ـ فلا يلتفت إليها، وأما الرجل فيسكت عنه، ويفوض أمره إلى الله ‏.‏

ومقصوده أنه لا يذكر بسوء؛ لأن عفو الله عن الناسى والمخطئ وتوبة المذنب تأتي على كل ذنب، وذلك من أقرب الأشياء إلى هذا وأمثاله، ولأن مغفرة الله بالحسنات منه ومن غيره، وتكفيره الذنوب بالمصائب تأتي على محقق الذنوب، فلا يقدم الإنسان على انتفاء ذلك في حق معين إلا ببصيرة، لاسيما مع كثرة الإحسان والعلم الصحيح، والعمل الصالح والقصد الحسن، وهو يميل إلى الفلسفة، لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية‏.‏

ولهذا، فقد رد عليه علماء المسلمين ،حتى أخص أصحابه أبو بكر بن العربي، فإنه قال‏:‏ شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر‏.‏

وقد حكى عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كتبه‏.‏ ورد عليه أبو عبد الله المازري في كتاب أفرده، ورد عليه أبو بكر الطرطوشي، ورد عليه أبو الحسن المرغيناني رفيقه، رد عليه كلامه في مشكاة الأنوار ونحوه، ورد عليه الشيخ أبو البيان، والشيخ أبو عمرو بن الصلاح، وحذر من كلامه في ذلك هو وأبو زكريا النواوي وغيرهما ،ورد عليه ابن عقيل، وابن الجوزي ،وأبو محمد المقدسي وغيرهم‏.‏

وهذا باب واسع، فإن الخارجين عن طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، لهم في كلام الرسول ثلاث طرق‏:‏ طريقة التخييل، وطريقة التأويل، وطريقة التخييل‏.‏

فأهل التخييل‏:‏ هم الفلاسفة والباطنية، الذين يقولون‏:‏ إنه خيل أشياء، لا حقيقة لها في الباطن، وخاصية النبوة عندهم التخييل‏.‏

وطريقة التأويل‏:‏ طريقة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم، يقولون‏:‏ إن ما قاله له تأويلات تخالف ما دل عليه اللفظ، وما يفهم منه، وهو ـ وإن كان لم يبين مراده ولا بين الحق الذي يجب اعتقاده ـ فكان مقصوده‏:‏ أن هذا يكون سببًا للبحث بالعقل، حتى يعلم الناس الحق بعقولهم، ويجتهدوا في تأويل ألفاظه إلى ما يوافق قولهم؛ ليثابوا على ذلك، فلم يكن قصده لهم البيان والهداية، والإرشاد والتعليم، بل قصده التعمية والتلبيس، ولم يعرفهم الحق حتى ينالوا الحق بعقلهم، ويعرفوا حينئذ أن كلامه لم يقصد به البيان، فيجعلوا حالهم في العلم مع عدمه خيرًا من حالهم مع وجوده‏.‏

وأولئك المتقدمون، كابن سينا وأمثاله، ينكرون على هؤلاء، ويقولون‏:‏ ألفاظه كثيرة، صريحة لا تقبل التأويل، لكن كان قصده التخييل، وأن يعتقد الناس الأمر على خلاف ما هو عليه‏.‏

وأما الصنف الثالث‏:‏ الذين يقولون‏:‏ إنهم أتباع السلف، فيقولون‏:‏ إنه لم يكن الرسول يعرف معنى ما أنزل عليه من هذه الآيات، ولا أصحابه يعلمون معنى ذلك، بل لازم قولهم‏:‏ أنه هو نفسه لم يكن يعرف معنى ما تكلم به من أحاديث الصفات، بل يتكلم بكلام لا يعرف معناه، والذين ينتحلون مذهب السلف يقولون‏:‏ إنهم لم يكونوا يعرفون معاني النصوص، بل يقولون ذلك في الرسول‏.‏ وهذا القول من أبطل الأقوال، ومما يعتمدون عليه من ذلك ما فهموه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏7]‏، ويظنون أن التأويل هو المعنى الذي يسمونه هم تأويلا، وهو مخالف للظاهر‏.‏

ثم هؤلاء قد يقولون‏:‏ تجري النصوص على ظاهرها، وتأويلها لا يعلمه إلا الله، ويريدون بالتأويل ما يخالف الظاهر، وهذا تناقض منهم‏.‏ وطائفة يريدون بالظاهر ألفاظ النصوص فقط، والطائفتان غالطتان في فهم الآية‏.‏

وذلك أن لفظ‏ [‏التأويل] ‏قد صار بسبب تعدد الاصطلاحات، له ثلاثة معان‏:‏

أحدها‏:‏ أن يراد بالتأويل حقيقة ما يؤول إليه الكلام، وإن وافق ظاهره‏.‏ وهذا هو المعنى الذي يراد بلفظ التأويل في الكتاب والسنة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏53‏]‏، ومنه قول عائشة‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده‏:‏ ‏(‏سبحانك اللهم ربنا ولك الحمد، اللهم اغفر لي‏)‏، يتأوَّلُ القرآن ‏.‏

والثاني‏:‏ يراد بلفظ التأويل ‏:‏التفسير، وهو اصطلاح كثير من المفسرين، ولهذا قال مجاهد ـ إمام أهل التفسير‏:‏ إن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، فإنه أراد بذلك تفسيره وبيان معانيه، وهذا مما يعلمه الراسخون‏.‏

والثالث‏:‏ أن يراد بلفظ‏ [‏التأويل‏]‏‏:‏ صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه ظاهره إلى ما يخالف ذلك؛ لدليل منفصل يوجب ذلك‏.‏ وهذا التأويل لا يكون إلا مخالفًا لما يدل عليه اللفظ ويبينه‏.‏ وتسمية هذا تأويلاً لم يكن في عرف السلف، وإنما سمى هذا وحده تأويلاً طائفة من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام، وظن هؤلاء أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏7‏]‏، يراد به هذا المعنى، ثم صاروا في هذا التأويل على طريقين‏:‏ قوم يقولون‏:‏ إنه لا يعلمه إلا الله‏.‏ وقوم يقولون‏:‏ إن الراسخين في العلم يعلمونه، وكلتا الطائفتين مخطئة‏.‏

فإن هذا التأويل في كثير من المواضع ـ أو أكثرها وعامتها ـ من باب تحريف الكلم عن مواضعه، من جنس تأويلات القرامطة والباطنية‏.‏ وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، ورموا في آثارهم بالشُّهُب‏.‏

وقد صنف الإمام أحمد كتابًا في الرد على هؤلاء، وسماه‏:‏‏ [‏الرد على الزنادقة والجهمية، فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله‏] ‏فعاب أحمد عليهم أنهم يفسرون القرآن بغير ما هو معناه، ولم يقل أحمد ولا أحد من الأئمة‏:‏ إن الرسول لم يكن يعرف معاني آيات الصفات وأحاديثها، ولا قالوا‏:‏ إن الصحابة والتابعين لهم بإحسان لم يعرفوا تفسير القرآن ومعانيه‏.‏

كيف وقد أمر الله بتدبر كتابه، فقال تعالى ‏:‏‏{‏كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏29‏]‏، ولم يقل‏:‏ بعض آياته‏؟‏ وقال‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏82، محمد‏:‏24‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏68‏]‏، وأمثال ذلك في النصوص التي تبين أن الله يحب أن يتدبر الناس القرآن كله، وأنه جعله نورًا وهدى لعباده، ومحال أن يكون ذلك مما لا يفهم معناه، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ـ عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود ـ أنهم قالوا‏:‏ كنا إذا تعلمنا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم نجاوزها، حتى نتعلم ما فيها من العلم والعمل، قالوا‏:‏ فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏

والمقصود هنا أن من يقول في الرسول وبيانه للناس مما هو من قول الملاحدة، فكيف يكون قوله في السلف‏؟‏ حتى يدعي اتباعه، وهو مخالف للرسول والسلف عند نفسه وعند طائفته، فإنه قد أظهر من قول النفاة ما كان الرسول يرى عدم إظهاره، لما فيه من فساد الناس‏.‏ وأما عند أهل العلم والإيمان فلا‏.‏

وقول النفاة باطل باطنًا وظاهرًا، والرسول صلى الله عليه وسلم ومتبعوه منزهون عن ذلك، بل مات صلى الله عليه وسلم وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وأخبرنا أن كل ما حدث بعده من محدثات الأمور فهو بدعة، وكل بدعة ضلالة ‏.‏

وربما أنشد بعض أهل الكلام بيت مجنون بني عامر‏:‏

وكل يدعي وصلا لليلى ** وليلى لا تقر لهم بذاكا

فمن قال‏:‏ من الشعر ما هو حكمة، أو تمثل ببيت من الشعر فيما تبين له أنه حق، كان قريبًا‏.‏ أما إثبات الدعوى بمجرد كلام منظوم من شعر أو غيره، فيقال لصاحبه‏:‏ ينبغي أن تبين أن السلف لا يقرون بمن انتحلتهم‏.‏ وهذا ظاهر فيما ذكره هو وغيره، ممن يقولون عن السلف ما لم يقولوه، ولم ينقله عنهم أحد له معرفة بحالهم، وعدل فيما نقل، فإن الناقل لابد أن يكون عالمًا عدلاً‏.‏

فإن فرض أن أحدًا نقل مذهب السلف كما يذكره، فإما أن يكون قليل المعرفة بآثار السلف، كأبي المعالي، وأبي حامد الغزالي، وابن الخطيب وأمثالهم، ممن لم يكن لهم من المعرفة بالحديث ما يعدون به من عوام أهل الصناعة، فضلاً عن خواصها، ولم يكن الواحد من هؤلاء يعرف البخاري ومسلمًا وأحاديثهما، إلا بالسماع، كما يذكر ذلك العامة، ولا يميزون بين الحديث الصحيح المتواتر عند أهل العلم بالحديث، وبين الحديث المفترى المكذوب، وكتبهم أصدق شاهد بذلك ففيها عجائب‏.‏

وتجد عامة هؤلاء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك، إما عند الموت وإما قبل الموت، والحكايات في هذا كثيرة معروفة‏.‏

هذا أبو الحسن الأشعري، نشأ في الاعتزال أربعين عامًا يناظر عليه، ثم رجع عن ذلك وصرح بتضليل المعتزلة، وبالغ في الرد عليهم‏.‏

وهذا أبو حامد الغزالي ـ مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلام والفلسفة، وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف ـ ينتهي في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة، ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث، وصنف ‏[‏إلجام العوام عن علم الكلام‏]‏‏.‏

وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات‏:‏ لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات‏:‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، واقرأ في النفي‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏، ‏{‏وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏، ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏65‏]‏، ثم قال‏:‏ ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، وكان يتمثل كثيرًا‏:‏

نهاية إقـــــدام العقــول عقـــال ** وأكـثر سعي العالمين ضـــلال

وأرواحنــا فـي وحشة مـن جسومــنا ** وحاصـل دنيـانا أذى ووبـــال

ولـم نستفد مــن بحثنا طول عمـرنــا ** سوى أن جمـعنا فيـه قيـل وقالـوا

وهذا إمام الحرمين، ترك ما كان ينتحله ويقرره، واختار مذهب السلف‏.‏ وكان يقول‏:‏ يا أصحابنا، لا تشتغلوا بالكلام ‏!‏ فلو أنى عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به، وقال عند موته‏:‏ لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت فيما نهوني عنه‏.‏ والآن‏:‏ إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنذا أموت على عقيدة أمي ـ أو قال‏:‏ عقيدة عجائز نيسابور‏.‏

وكذلك قال أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني‏ [‏-هو شيخ أهل الكلام والحكمة، برع في الفقه، وكان قوي الفهم، مليح الوعظ، صنف كتاب، نهاية الإقدام و كتاب الملل والنحل، وتوفي سنة 645-‏]‏‏:‏ أخبر أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، وكان ينشد‏:‏

لعمري لقد طفت المعاهد كلـها ** وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعًا كف حائــر ** على ذقن، أو قارعـًا سن نادم

وابن الفارض ـ من متأخري الاتحادية، صاحب القصيدة التائية المعروفة بـ ‏[‏نظم السلوك]‏، وقد نظم فيها الاتحاد نظمًا رائق اللفظ، فهو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب‏.‏ وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك‏!‏ الله أعلم بها وبما اشتملت عليه وقد نفقت كثيرًا، وبالغ أهل العصر في تحسينها والاعتداد بما فيها من الاتحاد ـ لما حضرته الوفاة أنشد‏:‏

إن كان منزلتي في الحب عندكم ** ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي

أمنية ظفرت نفسي بها زمــنًا ** واليوم أحسبها أضغاث أحـلام

ولقد كان من أصول الإيمان‏:‏ أن يثبت الله العبد بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، كما قال تعالى‏:‏‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏24ـ27‏]‏‏.‏

والكلمة أصل العقيدة؛ فإن الاعتقاد هو الكلمة التي يعتقدها المرء، وأطيب الكلام والعقائد كلمة التوحيد واعتقاد أن لا إله إلا الله، وأخبث الكلام والعقائد كلمة الشرك، وهو اتخاذ إله مع الله، فإن ذلك باطل لا حقيقة له؛ ولهذا قال سبحانه‏:‏‏{‏مّا لّهّا مٌن قّرّارُ‏}‏؛ ولهذا كان كلما بحث الباحث وعمل العامل على هذه الكلمات والعقائد الخبيثة لا يزداد إلا ضلالاً وبعدًا عن الحق وعلمًا ببطلانها، كما قال تعالى ‏:‏‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏39، 40‏]‏‏.‏

فذكر ـ سبحانه ـ مثلين ‏:‏

أحدهما‏:‏ مثل الكفر والجهل المركب الذي يحسبه صاحبه موجودًا، وفي الواقع يكون خيالاً معدومًا كالسراب، وأن القلب عطشان إلى الحق كعطش الجسد إلى الماء‏.‏ فإذا طلب ما ظنه ماءًا وجده سرابًا، ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب وهكذا تجد عامة هؤلاء الخارجين عن السنة والجماعة‏.‏

والمثل الثاني‏:‏ مثل الكفر والجهل البسيط الذي لا يتبين فيه صاحبه حقًا ولا يرى فيه هدى، والكفر المركب مستلزم للبسيط، وكل كفر فلابد فيه من جهل مركب‏.‏

فضرب الله ـ سبحانه ـ المثلين بذلك ليبين حال الاعتقاد الفاسد، ويبين حال عدم معرفة الحق ـ وهو يشبه حال المغضوب عليهم والضالين ـ حال المصمم على الباطل حتى يحل به العذاب، وحال الضال الذي لا يرى طريق الهدى‏.‏

فنسأل الله العظيم أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يرزقنا الاعتصام بالكتاب والسنة‏.‏

ومن أمثلة ما ينسبه كثير من أتباع المشائخ والصوفية إلى المشائخ الصادقين من الكذب والمحال، أو يكون من كلامهم المتشابه الذي تأولوه على غير تأويله، أو يكون من غلطات بعض الشيوخ وزلاتهم، أو من ذنوب بعضهم وخطئهم مثل‏:‏ كثير من البدع والفجور الذي يفعله بعضهم بتأويل سائغ أو بوجه غير سائغ، فيعفى عنه أو يتوب منه أو يكون له حسنات يغفر له بها، أو مصائب يكفر عنه بها، أو يكون من كلام المتشبهين بأولياء الله من ذوي الزهادات والعبادات والمقامات، وليس هو من أولياء الله المتقين، بل من الجاهلين الظالمين المعتدين، أو المنافقين أو الكافرين‏.‏

وهذا كثير ملأ العالم، تجد كل قوم يدعون من الاختصاص بالأسرار والحقائق ما لا يدعى المرسلون، وأن ذلك عند خواصهم، وأن ذلك لا ينبغي أن يقابل إلا بالتسليم، ويحتجون لذلك بأحاديث موضوعة، وتفسيرات باطلة‏.‏ مثل قولهم عن عمر‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث هو وأبو بكر بحديث، وكنت كالزنجي بينهما،فيجعلون عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم وصديقه كالزنجي‏.‏ وهو حاضر يسمع الكلام، ثم يدعي أحدهم أنه علم ذلك بما قذف في قلبه، ويدعي كل منهم أن ذلك هو ما يقوله من الزور والباطل، ولو ذكرت ما في هذا الباب من أصناف الدعاوي الباطلة لطال‏.‏

فمنهم من يجعل للشيخ قصائد يسميها ‏[‏جنيب القرآن‏]‏، ويكون وجده بها وفرحه بمضمونها أعظم من القرآن، و يكون فيها من الكذب والضلال أمور‏.‏

ومنهم من يجعل له قصائد في الاتحاد، وأنه خالق جميع الخلق، وأنه خلق السموات والأرض، وأنه يسجد له ويعبد‏.‏

ومنهم من يصف ربه في قصائده بما نقل في الموضوعات من أصناف التمثيل والتكييف والتجسيم، التي هي كذب مفترى وكفر صريح مثل‏:‏ مواكلته ومشاربته، ومماشاته ومعانقته، ونزوله إلى الأرض وقعوده في بعض رياض الأرض، ونحو ذلك، ويجعل كل منهم ذلك من الأسرار المخزونة والعلوم المصونة التي تكون لخواص أولياء الله المتقين‏.‏

ومن أمثلة ذلك‏:‏ أنك تجد عند الرافضة والمتشيعة، ومن أخذ عنهم مِنْ دعوى علوم الأسرار، والحقائق، التي يدعون أخذها عن أهل البيت، إما من العلوم الدينية، وإما من علم الحوادث الكائنة، ما هو عندهم من أجل الأمور التي يجب التواصي بكتمانها، والإيمان بما لا يعلم حقيقته من ذلك، وجميعها كذب مختلق وإفك مفترى‏.‏

فإن هذه الطائفة ‏[‏الرافضة‏] من أكثر الطوائف كذبًا وادعاء للعلم المكتوم؛ ولهذا انتسبت إليهم الباطنية والقرامطة‏.‏

وهؤلاء خرج أولهم في زمن أمير المؤمنين على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وصاروا يدعون أنه خص بأسرار من العلوم والوصية، حتى كان يسأله عن ذلك خواص أصحابه، فيخبرهم بانتفاء ذلك، ولما بلغه أن ذلك قد قيل، كان يخطب الناس وينفي ذلك عن نفسه‏.‏

وقد خرَّجَ أصحاب الصحيح كلام عليٍّ هذا من غير وجه، مثل ما في الصحيح عن أبي جُحَيْفَة قال‏:‏ سألت عليا‏:‏ هل عندكم شيء ليس في القرآن‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا، والذي فلق الحبة وبَرَأ النَّسَمَة، ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهما يعطيه الله الرجل في كتابه وما في هذه الصحيفة‏.‏ قلت‏:‏وما في الصحيفة‏؟‏ قال‏:‏ العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر‏.‏ ولفظ البخارى‏:‏ هل عندكم شيء من الوحي غير ما في كتاب الله ‏؟‏ قال‏:‏ لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن‏)‏‏.‏

وفـي الصحيحـين عن إبراهيم التيمي عن أبيه ـ وهذا من أصح إسناد على وجه الأرض ـ عن علي قال‏:‏ ما عندنا شيء إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المدينة حرام ما بين عير إلى ثور‏)‏، وفي رواية لمسلم‏:‏ خطبنا على بن أبي طالب فقال‏:‏ من زعم أن عندنا كتابًا نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة ـ قال‏:‏ وصحيفته معلقة في قراب سيفه ـ فقد كذب، فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات، وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المدينة حرام‏)‏ الحديث‏.‏

وأما الكذب والأسرار التي يدعونها عن جعفر الصادق، فمن أكبر الأشياء كذبًا حتى يقال‏:‏ ما كذب على أحد ما كذب على جعفر ـ رضي الله عنه‏.‏

ومن هذه الأمور المضافة‏:‏ كتاب ‏[‏الجَفْر‏]‏، الذي يدعون أنه كتب فيه الحوادث‏.‏ والجفر‏:‏ ولد الماعز، يزعمون أنه كتب ذلك في جلده، وكذلك كتاب ‏[‏البطاقة] ‏الذي يدعيه ابن الحِلِّيّ ونحوه من المغاربة، ومثل كتاب‏:‏ ‏[‏الجدول] ‏في الهلال، و‏[‏الهفت] ‏عن جعفر وكثير من تفسير القرآن وغيره‏.‏

ومثل كتاب ‏[‏رسائل إخوان الصفا‏] ‏الذي صنفه جماعة في دولة بني بويه ببغداد، وكانوا من الصابئة المتفلسفة المتحنفة، جمعوا بزعمهم بين دين الصابئة المبدلين وبين الحنيفية وأتوا بكلام المتفلسفة، وبأشياء من الشريعة، وفيه من الكفر والجهل شيء كثير، ومع هذا فإن طائفة من الناس ـ من بعض أكابر قضاة النواحي ـ يزعم أنه من كلام جعفر الصادق‏.‏ وهذا قول زنديق وتشنيع جاهل‏.‏

ومثل ما يذكره بعض العامة من ملاحم ‏[‏ابن غنضب‏]‏، ويزعمون أنه كان معلمًا للحسن والحسين‏.‏ وهذا شيء لم يكن في الوجود باتفاق أهل العلم، وملاحم ‏[‏ابن غنضب‏]‏ إنما صنفها بعض الجهال في دولة نور الدين ونحوها، وهو شعر فاسد يدل على أن ناظمه جاهل‏.‏

وكذلك عامة هذه الملاحم المروية بالنظم ونحوه، عامتها من الأكاذيب، وقد أحدث في زماننا من القضاة والمشائخ غير واحدة منها، وقد قررت بعض هؤلاء على ذلك، بعد أن ادعى قدمها، وقلت له‏:‏ بل أنت صنفتها، ولبستها على بعض ملوك المسلمين لما كان المسلمون محاصرين عَكَّة، وكذلك غيره من القضاة وغيرهم لبسوا على غير هذا الملك‏.‏

وباب الكذب في الحوادث الكونية أكثر منه في الأمور الدينية؛ لأن تشوف الذين يغلبون الدنيا على الدين إلى ذلك أكثر وإن كان لأهل الدين إلى ذلك تشوف، لكن تشوفهم إلى الدين أقوى وأولئك ليس لهم من الفرقان بين الحق والباطل من النور ما لأهل الدين‏.‏فلهذا كثر الكذابون في ذلك ونفق منه شيء كثير، وأكلت به أموال عظيمة بالباطل، وقتلت به نفوس كثيرة من المتشوفة إلى الملك ونحوها‏.‏

ولهذا ينوِّعون طرق الكذب في ذلك ويتعمدون الكذب فيه، تارة بالإحالة على الحركات والأشكال الجسمانية الإلهية من حركات الأفلاك والكواكب، والشهب والرعود، والبروق والرياح، وغير ذلك، وتارة بما يحدثونه هم من الحركات والأشكال، كالضرب بالرمل والحصى والشعير، والقرعة باليد ونحو ذلك، مما هو من جنس الاستقسام بالأزلام، فإنهم يطلبون علم الحوادث بما يفعلونه من هذا الاستقسام بها، سواء كانت قداحًا أو حصًى، أو غير ذلك مما ذكره أهل العلم بالتفسير‏.‏

فكل ما يحدثه الإنسان بحركة من تغيير شيء من الأجسام؛ ليستخرج به علم ما يستقبله فهو من هذا الجنس، بخلاف الفأل الشرعي، وهو الذي كان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يخرج متوكلاً على الله فيسمع الكلمة الطيبة‏:‏ ‏(‏وكان يعجبه الفأل، ويكره الطيرة‏)‏ لأن الفأل تقوية لما فعله بإذن الله والتوكل عليه، والطيرة معارضة لذلك، فيكره للإنسان أن يتطير، وإنما تضر الطيرة من تطير؛ لأنه أضر نفسه، فأما المتوكل على الله فلا‏.‏

وليس المقصود ذكر هذه الأمور وسبب إصابتها تارة وخطئها تارات‏.‏ وإنما الغرض أنهم يتعمدون فيها كذبًا كثيرًا، من غير أن تكون قد دلت على ذلك دلالة، كما يتعمد خلق كثير الكذب في الرؤيا، التي منها الرؤيا الصالحة، وهي جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، وكما كانت الجن تخلط بالكلمة تسمعها من السماء مائة كذبة، ثم تلقيها إلى الكهان‏.‏

ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالاً يأتون الكهان‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فلا تأتهم‏)‏‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ ومنا رجال يتطيرون‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ذاك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يصدهم‏)‏‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ ومنا رجال يخطون‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك‏)‏‏.‏

فإذا كان ما هو من أجزاء النبوة ومن أخبار الملائكة ما قد يتعمد فيه الكذب الكثير، فكيف بما هو في نفسه مضطرب لا يستقر على أصل‏؟‏ فلهذا تجد عامة من في دينه فساد يدخل في الأكاذيب الكونية، مثل أهل الاتحاد، فإن ابن عربي ـ في كتاب ‏[‏عنقاء مغرب] ‏وغيره ـ أخبر بمستقبلات كثيرة، عامتها كذب، وكذلك ابن سبعين، وكذلك الذين استخرجوا مدة بقاء هذه الأمة من حساب الجمل من حروف المعجم الذي ورثوه من اليهود، ومن حركات الكواكب الذي ورثوه من الصابئة، كما فعل أبو نصر الكندي، وغيره من الفلاسفة، وكما فعل بعض من تكلم في تفسير القرآن من أصحاب الرازي، ومن تكلم في تأويل وقائع النساك من المائلين إلى التشيع‏.‏

وقد رأيت من أتباع هؤلاء طوائف يدعون أن هذه الأمور من الأسرار المخزونة والعلوم المصونة، وخاطبت في ذلك طوائف منهم، وكنت أحلف لهم أن هذا كذب مفترى، وأنه لا يجري من هذه الأمور شيء، وطلبت مباهلة بعضهم؛ لأن ذلك كان متعلقًا بأصول الدين، وكانوا من الاتحادية الذين يطول وصف دعاويهم‏.‏

فإن شيخهم الذي هو عارف وقته وزاهده عندهم، كانوا يزعمون أنه هو المسيح الذي ينزل، وأن معنى ذلك نزول روحانية عيسى ـ عليه السلام ـ وأن أمه اسمها مريم، وأنه يقوم بجمع الملل الثلاث، وأنه يظهر مظهرًا أكمل من مظهر محمد وغيره من المرسلين‏.‏ ولهم مقالات من أعظم المنكرات يطول ذكرها ووصفها‏.‏

ثم إن من عجيب الأمر، أن هؤلاء المتكلمين المدعين لحقائق الأمور العلمية والدينية المخالفين للسنة والجماعة يحتج كل منهم بما يقع له من حديث موضوع، أو مجمل لا يفهم معناه، وكلما وجد أثرًا فيه إجمال نزله على رأيه، فيحتج بعضهم بالمكذوب، مثل المكذوب المنسوب إلى عمر‏:‏ كنت كالزنجي، ومثل ما يروونه من [‏سر المعراج‏]‏، وما يروونه من أن أهل الصُّفَّة -‏[‏أهل الصُّفَّة‏:‏ هم فقراء المهاجرين، ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه، فكانوا يأوون إلى موضع مُظَلَّل في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم يسكنونه‏.‏-‏] ‏سمعوا المناجاة من حيث لا يشعر الرسول، فلما نزل الرسول أخبروه، فقال‏:‏ ‏(‏من أين سمعتم‏؟‏‏)‏ فقالوا‏:‏ كنا نسمع الخطاب‏.‏

حتى إني لما بينت لطائفة ـ تمشيخوا وصاروا قدوة للناس ـ أن هذا كذب ما خلقه الله قط‏.‏ قلت‏:‏ ويبين لك ذلك أن المعراج كان بمكة بنص القرآن وبإجماع المسلمين، والصُّفَّة إنما كانت بالمدينة، فمن أين كان بمكة أهل صُفَّة‏؟‏

وكذلك احتجاجهم بأن أهل الصُفَّة قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع المشركين لما انتصروا، وزعموا أنهم مع الله؛ ليحتجوا بذلك على متابعة الواقع، سواء كان طاعة لله أو معصية؛ وليجعلوا حكم دينه هو ما كان، كما قال الذين أشركوا‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ من الآية148‏]‏ ‏[‏الأنعام ‏:‏148‏]‏، وأمثال هذه الموضوعات كثيرة‏.‏

وأما المجملات، فمثل احتجاجهم بنهي بعض الصحابة عن ذكر بعض خفي العلم، كقول على ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يُكَذَّب الله ورسوله ‏؟‏ وقول عبد الله بن مسعود‏:‏ ما من رجل يحدث قومًا بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم، وقول عبد الله بن عباس في تفسير الآيات‏:‏ ما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها كفرت، وكفرك بها تكذيبك بها‏.‏

وهذه الآثار حق، لكن ينزل كل منهم ذاك الذي لم يحدث به على ما يدعيه هو من الأسرار والحقائق، التي إذا كشفت وجدت من الباطل والكفر والنفاق، حتى إن أبا حامد الغزالي في ‏[‏منهاج القاصدين] ‏وغيره، هو وأمثاله تمثل بما يروى عن علي بن الحسين أنه قال‏:‏

فإذا كانت هذه طرق هؤلاء الذين يدعون من التحقيق وعلوم الأسرار ما خرجوا به عن السنة والجماعة، وزعموا أن تلك العلوم الدينية أو الكونية مختصة بهم، فآمنوا بمجملها ومتشابهها، وأنهم منحوا من حقائق العبادات وخالص الديانات ما لم يمنح الصدر الأول حفاظ الإسلام وبدور الملة، ولم يتجرؤوا عليها برد وتكذيب ـ مع ظهور الباطل فيها تارة، وخفائه أخرى ـ فمن المعلوم أن العقل والدين يقتضيان أن جانب النبوة والرسالة أحق بكل تحقيق وعلم ومعرفة، وإحاطة بأسرار الأمور وبواطنها‏.‏

هذا لا ينازع فيه مؤمن، ونحن الآن في مخاطبة من في قلبه إيمان‏.‏

وإذا كان الأمر كذلك فأعلم الناس بذلك أخصهم بالرسول، وأعلمهم بأقواله، وأفعاله، وحركاته، وسكناته، ومدخله، ومخرجه، وباطنه، وظاهره، وأعلمهم بأصحابه وسيرته وأيامه، وأعظمهم بحثًا عن ذلك وعن نقلته، وأعظمهم تدينا به واتباعًا له واقتداء به، وهؤلاء هم أهل السنة والحديث؛ حفظاً له، ومعرفة بصحيحه وسقيمه، وفقها فيه وفهما يؤتيه الله إياه في معانيه، وإيمانًا وتصديقًا، وطاعة وانقياداً واقتداء واتباعًا، مع ما يقترن بذلك من قوة عقلهم وقياسهم وتمييزهم، وعظيم مكاشفاتهم ومخاطباتهم، فإنهم أسَدُّ الناس نظرًا وقياسًا ورأيًا، وأصدق الناس رؤيا وكشفًا ‏.‏

أفلا يعلم من له أدنى عقل ودين، أن هؤلاء أحق بالصدق والعلم والإيمان والتحقيق ممن يخالفهم‏؟‏ وأن عندهم من العلوم ما ينكرها الجاهل والمبتدع‏؟‏ وأن الذي عندهم هو الحق المبين‏؟‏ وأن الجاهل بأمرهم والمخالف لهم هو الذي معه من الحشو ما معه، ومن الضلال كذلك‏؟‏ وهذا باب يطول شرحه، فإن النفوس لها من الأقوال والأفعال ما لا يحصره إلا ذو الجلال‏.‏

والأقوال إخبارات، وإنشاءات؛ كالأمر، والنهي، فأحسن الحديث وأصدقه كتاب الله، خبره أصدق الخبر، وبيانه أوضح البيان، وأمره أحكم الأمر‏:‏ ‏{‏فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏6‏]‏، وكل من اتبع كلامًا أو حديثًا ـ مما يقال‏:‏ إنه يلهمه صاحبه، ويوحى إليه، أو إنه ينشئه ويحدثه مما يعارض به القرآن ـ فهو من أعظم الظالمين ظلمًا‏.‏

ولهذا لما ذكر الله ـ سبحانه ـ قول الذين ما قدروا الله حق قدره، حيث أنكروا الإنزال على البشر، ذكر المتشبهين به المدعين لمماثلته من الأقسام الثلاثة، فإن المماثل له إما أن يقول‏:‏ إن الله أوحى إلى، أو يقول‏:‏ أوحي إلى، وألقى إلى، وقيل لي، ولا يسمى القائل أو يضيف ذلك إلى نفسه، ويذكر أنه هو المنشئ له‏.‏

ووجه الحصر‏:‏ أنه إما أن يحذف الفاعل أو يذكره، وإذا ذكره فإما أن يجعله من قول الله، أو من قول نفسه‏.‏ فإنه إذا جعله من كلام الشياطين لم يقبل منه، وما جعله من كلام الملائكة فهو داخل فيما يضيفه إلى الله، وفيما حذف فاعله، فقال تعالى‏:‏‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏93‏]‏

وتدبر كيف جعل الأولين في حيز الذي جعله وحيًا من الله ولم يسم الموحي، فإنهما من جنس واحد في ادعاء جنس الإنباء، وجعل الآخر في حيز الذي ادعى أن يأتي بمثله؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً‏}‏ ‏{‏الأنعام‏:‏ من الآية144‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ‏}‏، فالمفترى للكذب والقائل‏:‏‏{‏أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ‏}‏ من جملة الاسم الأول، وقد قرن به الاسم الآخر، فهؤلاء الثلاثة المدعون لشبه النبوة‏.‏ وقد تقدم قبلهم المكذب للنبوة‏.‏ فهذا يعم جميع أصول الكفر التي هي تكذيب الرسل أو مضاهاتهم، كمسيلمة الكذاب وأمثاله‏.‏

وهذه هي أصول البدع التي نردها نحن في هذا المقام؛ لأن المخالف للسنة يرد بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يعارض قول الرسول بما يجعله نظيرًا له، من رأى أو كشف أو نحو ذلك‏.‏

فقد تبين أن الذين يسمون هؤلاء وأئمتهم حشوية،هم أحق بكل وصف مذموم يذكرونه، وأئمة هؤلاء أحق بكل علم نافع وتحقيق، وكشف حقائق واختصاص بعلوم لم يقف عليها هؤلاء الجهال، المنكرون عليهم، المكذبون لله ورسوله‏.‏

فإنَّ نَبْزَهُم [‏النَّبْز‏:‏ اللَّقَب‏] ‏بالحشوية‏:‏ إن كان لأنهم يروون الأحاديث بلا تمييز، فالمخالفون لهم أعظم الناس قولاً لحشو الآراء والكلام الذي لا تعرف صحته، بل يعلم بطلانه، وإن كان لأن فيهم عامة لا يميزون، فما من فرقة من تلك الفرق إلا ومن أتباعها من أجهل الخلق وأكفرهم، وعوام هؤلاء هم عُمَّار المساجد بالصلوات، وأهل الذكر والدعوات، وحجاج البيت العتيق، والمجاهدون في سبيل الله، وأهل الصدق والأمانة، وكل خير في العالم‏.‏ فقد تبين لك أنهم أحق بوجوه الذم، وأن هؤلاء أبعد عنها، وأن الواجب على الخلق أن يرجعوا إليهم، فيما اختصهم الله به من الوراثة النبوية التي لا توجد إلا عندهم‏.‏

وأيضًا، فينبغي النظر في الموسومين بهذا الاسم وفي الواسمين لهم به‏:‏ أيهما أحق‏؟‏ وقد علم أن هذا الاسم مما اشتهر عن النفاة ممن هم مظنة الزندقة، كما ذكر العلماء ـ كأبي حاتم وغيره ـ أن علامة الزنادقة تسميتهم لأهل الحديث حشوية‏.‏

ونحن نتكلم بالأسماء التي لا نزاع فيها، مثل‏:‏ لفظ ‏[‏الإثبات، والنفي‏] ‏فنقول‏:‏

من المعلوم أن هذا من تلقيب بعض الناس لأهل الحديث الذين يقرونه على ظاهره، فكل من كان عنه أبعد كان أعظم ذمًا بذلك؛ كالقرامطة، ثم الفلاسفة، ثم المعتزلة، وهم يذمون بذلك المتكلمة الصفاتية من الكلابية والكرامية، والأشعرية، والفقهاء، والصوفية وغيرهم، فكل من اتبع النصوص وأقرها سموه بذلك، ومن قال بالصفات العقلية مثل‏:‏ العلم والقدرة، دون الخبرية، ونحو ذلك، سمى مثبتة الصفات الخبرية حشوية، كما يفعل أبو المعالي الجويني، وأبو حامد الغزالي ونحوهما‏.‏

ولطريقة أبي المعالي كان أبو محمد يتبعه في فقهه وكلامه، لكن أبو محمد كان أعلم بالحديث وأتبع له من أبي المعالي وبمذاهب الفقهاء‏.‏ وأبو المعالي أكثر اتباعًا للكلام، وهما في العربية متقاربان‏.‏

وهؤلاء يعيبون منازعهم، إما لجمعه حشو الحديث من غير تمييز بين صحيحه وضعيفه، أو لكون اتباع الحديث في مسائل الأصول من مذهب الحشو؛ لأنها مسائل علمية، والحديث لا يفيد ذلك، لأن اتباع النصوص مطلقًا في المباحث الأصولية الكلامية حشو؛ لأن النصوص لا تفي بذلك؛ فالأمر راجع إلى أحد أمرين‏:‏ إما ريب في الإسناد أو في المتن، إما لأنهم يضيفون إلى الرسول ما لم يعلم أنه قاله؛ كأخبار الآحاد، ويجعلون مقتضاها العلم، وإما لأنهم يجعلون ما فهموه من اللفظ معلومًا وليس هو بمعلوم، لما في الأدلة اللفظية من الاحتمال‏.‏

ولا ريب أن هذا عمدة كل زنديق ومنافق، يبطل العلم بما بعث الله به رسوله، تارة يقول‏:‏ لا نعلم أنهم قالوا ذلك، وتارة يقول‏:‏ لا نعلم ما أرادوا بهذا القول‏.‏ ومتى انتفى العلم بقولهم أو بمعناه، لم يستفد من جهتهم علم، فيتمكن بعد ذلك أن يقول ما يقول من المقالات، وقد أمن على نفسه أن يعارض بآثار الأنبياء؛ لأنه قد وكل ثغرها بذينك الدامحين الدافعين لجنود الرسول عنه، الطاعنين لمن احتج بها‏.‏

وهذا القدر بعينه هو عين الطعن في نفس النبوة، وإن كان يقر بتعظيمهم وكمالهم إقرار من لا يتلقى من جهتهم علمًا، فيكون الرسول عنده بمنزلة خليفة يعطي السِّكَّة‏ [‏السِّكَّة‏:‏ حديدة منقوشة يضرب عليها الدراهم‏] ‏والخطبة رسمًا ولفظًا، كتابة وقولاً، من غير أن يكون له أمر أو نهي مطاع‏.‏ فله صورة الإمامة بما جعل له من السكة والخطبة، وليس له حقيقتها‏.‏

وهذا القدر ـ وإن استجازه كثير من الملوك ـ لعجز بعض الخلفاء عن القيام بواجبات الإمارة من الجهاد والسياسة، كما يفعل ذلك كثير من نواب الولاة لضعف مستنيبه وعجزه فيتركب من تقدم ذي المنصب والبيت وقوة نائبه صلاح الأمر، أو فعل ذلك لهوى ورغبة في الرئاسة ولطائفته، دون من هو أحق بذلك منه، وسلك مسلك المتغلبين بالعدوان ـ فمن المعلوم أن المؤمن بالله ورسوله لا يستجيز أن يقول في الرسالة‏:‏ إنها عاجزة عن تحقيق العلم وبيانه، حتى يكون الإقرار بها مع تحقيق العلم الإلهي من غيرها موجبًا لصلاح الدين، ولا يستجيز أن يتعدى عليها بالتقدم بين يدي الله ورسوله، ويقدم علمه وقوله على علم الرسول وقوله، ولا يستجيز أن يسلط عليها التأويلات العقلية، ويدعى أن ذلك من كمال الدين، وأن الدين لا يكون كاملاً إلا بذلك‏.‏

وأحسن أحواله‏:‏ أن يدعي أن الرسول كان عالمًا بأن ما أخبر به له تأويلات وتبيان، غير ما يدل عليه ظاهر قوله ومفهومه، وأنه ما ترك ذلك إلا لأنه ما كان يمكنه البيان بين أولئك الأعراب ونحوهم، وأنه وكل ذلك إلى عقول المتأخرين، وهذا هو الواقع منهم‏.‏

فإن المتفلسفة تقول‏:‏ إن الرسل لم يتمكنوا من بيان الحقائق لأن إظهارها يفسد الناس، ولا تحتمل عقولهم ذلك، ثم قد يقولون‏:‏ إنهم عرفوها‏.‏ وقد يقول بعضهم‏:‏ لم يعرفوها، أو أنا أعرف بها منهم، ثم يبينونها هم بالطرق القياسية الموجودة عندهم‏.‏ ولم يعقلوا أنه إن كان العلم بها ممكنا فهو ممكن لهم، كما يدعون أنه ممكن لهم، وإلا فلا سبيل لهم إلى معرفتها بإقرارهم، وكذلك التعبير وبيان العلم بالخطاب والكتاب إن لم يكن ممكنًا فلا يمكنكم ذلك وأنتم تتكلمون وتكتبون علمكم في الكتب‏.‏ وإن كان ذلك ممكنًا فلا يصح قولكم‏:‏ لم يمكن الرسل ذلك‏.‏

وإن قلتم‏:‏ يمكن الخطاب بها مع خاصة الناس دون عامتهم ـ وهذا قـولهم ـ فمن المعلوم أن علم الرسل يكون عند خاصتهم كما يكون علمكم عند خاصتكم‏.‏ ومن المعلوم أن كل من كان بكلام المتبوع وأحواله وبواطن أموره وظواهرها أعلم، وهو بذلك أقوم، كان أحق بالاختصاص به‏.‏ ولا ريب أن أهل الحديث أعلم الأمة وأخصها بعلم الرسول، وعلم خاصته مثل‏:‏ الخلفاء الراشدين وسائر العشرة، ومثل‏:‏ أبي بن كعب، وعبد الله ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، ومثل‏:‏ سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، وعباد بن بشر، وسالم مولي أبي حذيفة، وغير هؤلاء ممن كان أخص الناس بالرسول، وأعلمهم بباطن أموره وأتبعهم لذلك‏.‏

فعلماء الحديث أعلم الناس بهؤلاء وببواطن أمورهم، وأتبعهم لذلك، فيكون عندهم العلم‏:‏ علم خاصة الرسول وبطانته، كما أن خواص الفلاسفة يعلمون علم أئمتهم، وخواص المتكلمين يعلمون علم أئمتهم، وخواص القرامطة والباطنية يعلمون علم أئمتهم، وكذلك أئمة الإسلام مثل أئمة العلماء‏.‏ فإن خاصة كل إمام أعلم بباطن أموره، مثل‏:‏ مالك بن أنس، فإن ابن القاسم لما كان أخص الناس به وأعلمهم بباطن أمره اعتمد أتباعه على روايته، حتى إنه تؤخذ عنه مسائل السر التي رواها ابن أبي الغَمْر، وإن طعن بعض الناس فيها، وكذلك أبو حنيفة، فأبو يوسف، ومحمد ، وزُفَر أعلم الناس به، وكذلك غيرهما‏.‏

وقد يكتب العالم كتابًا أو يقول قولاً، فيكون بعض من لم يشافهه به أعلم بمقصوده من بعض من شافهه به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فرُبَّ مُبَلَّغ أوْعَى من سامِع‏)‏، لكن بكل حال لابد أن يكون المبلغ من الخاصة العالمين بحال المبلغ عنه، كما يكون في أتباع الأئمة من هو أفهم لنصوصهم من بعض أصحابهم‏.‏

ومن المستقر في أذهان المسلمين‏:‏ أن ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء هم الذين قاموا بالدين علمًا وعملاً ودعوة إلى الله والرسول، فهؤلاء أتباع الرسول حقًا وهم بمنزلة الطائفة الطيبة من الأرض التي زكت، فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعُشْب الكثير، فزكت في نفسها وزكى الناس بها‏.‏ وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة؛ ولذلك كانوا ورثة الأنبياء الذين قال الله تعالى فيهم ‏:‏‏{‏وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏45‏]‏، فالأيدي‏:‏ القوةُ في أمر الله، والأبصار‏:‏ البصائرُ في دين الله، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه‏.‏

فهذه الطبقة كان لها قوة الحفظ والفهم والفقه في الدين والبصر والتأويل، ففجَّرت من النصوص أنهار العلوم، واستنبطت منها كنوزها، ورزقت فيها فهماً خاصًا، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وقد سئل‏:‏ هل خصكم رسول اللهصلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس‏؟‏ فقال‏:‏ لا والذي فلق الحبة وبَرَأ النَّسَمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدًا في كتابه‏.‏

فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الذي أنبتته الأرض الطيبة‏.‏ وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الطبقة الثانية، وهي التي حفظت النصوص، فكان همها حفظها وضبطها، فوردها الناس وتلقوها بالقبول، واستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها واتجروا فيها، وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات، ورووها كل بحسبه‏:‏‏}‏قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ‏}‏‏.‏

وهؤلاء الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نَضَّر الله امرأ سمع مقالتي فوَعَاها، ثم أداها كما سمعها، فرُبَّ حامل فقه وليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه‏)‏‏.‏

وهذا عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ حبر الأمة، وترجمان القرآن، مقدار ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغ نحو العشرين حديثًا الذي /يقول فيه‏:‏ سمعت ورأيت، وسمع الكثير من الصحابة، وبورك له في فهمه والاستنباط منه، حتى ملأ الدنيا علمًا وفقهًا، قال أبو محمد ابن حزم‏:‏ وجمعت فتواه في سبعة أسفار كبار، وهي بحسب ما بلغ جامعها، وإلا فعلم ابن عباس كالبحر، وفقهه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس، وقد سمعوا ما سمع، وحفظوا القرآن كما حفظه، ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي وأقبلها للزرع، فبذر فيها النصوص، فأنبتت من كل زوج كريم، و‏{‏ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وأين تقع فتاوى ابن عباس، وتفسيره، واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره‏؟‏ وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويَدْرُسُه بالليل دَرْسًا، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه، والاستنباط، وتفجير النصوص، وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها‏.‏

وهكذا ورثتهم من بعدهم، اعتمدوا في دينهم على استنباط النصوص، لا على خيال فلسفي، ولا رأي قياسي، ولا غير ذلك من الآراء المبتدعات، لا جرم كانت الدائرة والثناء الصدق، والجزاء العاجل والآجل لورثة الأنبياء التابعين لهم في الدنيا والآخرة؛ فإن المرء على دين خليله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏31‏]‏

/ وبكل حال، فهم أعلم الأمة بحديث الرسول، وسيرته ومقاصده وأحواله‏.‏

ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه، أو كتابته أو روايته، بل نعني بهم‏:‏ كل من كان أحق بحفظه، ومعرفته وفهمه ظاهرًا وباطنًا، واتباعه باطنًا وظاهرًا، وكذلك أهل القرآن‏.‏

وأدنى خصلة في هؤلاء محبةُ القرآن والحديث، والبحث عنهما وعن معانيهما، والعمل بما علموه من موجبهما‏.‏ ففقهاء الحديث أخْبَرُ بالرسول من فقهاء غيرهم، وصوفيتهم أتبع للرسول من صوفية غيرهم، وأمراؤهم أحق بالسياسة النبوية من غيرهم، وعامتهم أحق بموالاة الرسول من غيرهم‏.‏

ومن المعلوم أن المعظمين للفلسفة والكلام، المعتقدين لمضمونهما، هم أبعد عن معرفة الحديث، وأبعد عن اتباعه من هؤلاء‏.‏ هذا أمر محسوس، بل إذا كشفت أحوالهم وجدتهم من أجهل الناس بأقواله صلى الله عليه وسلم وأحواله، وبواطن أموره وظواهرها، حتى لتجد كثيرًا من العامة أعلم بذلك منهم، ولتجدهم لا يميزون بين ما قاله الرسول وما لم يقله، بل قد لا يفرقون بين حديث متواتر عنه، وحديث مكذوب موضوع عليه‏.‏

وإنما يعتمدون في موافقته على ما يوافق قولهم، سواء كان موضوعًا أو غير موضوع، فيعدلون إلى أحاديث يعلم خاصة الرسول بالضرورة اليقينية أنها مكذبة عليه، عن أحاديث يعلم خاصته بالضرورة اليقينية أنها قوله، وهم / لا يعلمون مراده، بل غالب هؤلاء لا يعلمون معاني القرآن، فضلاً عن الحديث، بل كثير منهم لا يحفظون القرآن أصلا‏.‏ فمن لا يحفظ القرآن، ولا يعرف معانيه، و لا يعرف الحديث ولا معانيه، من أين يكون عارفًا بالحقائق المأخوذة عن الرسول‏؟‏‏!‏

وإذا تدبر العاقل، وجد الطوائف كلها، كلما كانت الطائفة إلى الله ورسوله أقرب كانت بالقرآن والحديث أعرف وأعظم عناية، وإذا كانت عن الله وعن رسوله أبعد، كانت عنهما أنأى، حتى تجد في أئمة علماء هؤلاء من لا يميز بين القرآن وغيره، بل ربما ذكرت عنده آية، فقال‏:‏ لا نسلم صحة الحديث ‏!‏ وربما قال‏:‏ لقوله عليه السلام كذا، وتكون آية من كتاب الله‏.‏ وقد بلغنا من ذلك عجائب، وما لم يبلغنا أكثر‏.‏

وحدثني ثقة‏:‏ أنه تولى مدرسة مشهد الحسين بمصر بعض أئمة المتكلمين، رجلٌ يسمى [‏شمس الدين الأصبهاني] ‏شيخ الأيكي، فأعطوه جزءًا من الربعة فقرأ‏:‏ ‏(‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْمَصْ ‏)‏ حتى قيل له‏:‏ ألف لام ميم صاد‏.‏

فتأمل هذه الحكومة العادلة‏!‏ ليتبين لك أن الذين يعيبون أهل الحديث، ويعدلون عن مذهبهم، جهلة زنادقة منافقون بلا ريب؛ ولهذا لما بلغ الإمام أحمد عن ‏[‏ابن أبي قتيلة‏]‏ أنه ذكر عنده أهل الحديث بمكة، فقال‏:‏ قوم سوء‏.‏ فقام الإمام أحمد، وهو ينفض ثوبه، ويقول‏:‏ زنديق، زنديق، زنديق‏.‏ ودخل بيته، فإنه عرف مغزاه‏.‏

/ وعيب المنافقين للعلماء بما جاء به الرسول قديم، من زمن المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما أهل العلم فكانوا يقولون‏:‏ هم [‏الأبدال‏] لأنهم أبدال الأنبياء وقائمون مقامهم حقيقة، ليسوا من المعدمين الذين لا يعرف لهم حقيقة، كل منهم يقوم مقام الأنبياء في القدر الذي ناب عنهم فيه، هذا في العلم والمقال، وهذا في العبادة والحال، وهذا في الأمرين جميعًا‏.‏ وكانوا يقولون‏:‏ هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، الظاهرون على الحق؛ لأن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسله معهم، وهو الذي وعد الله بظهوره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا‏.

فصــل

وتلخيص النكتة‏:‏ أن الرسل إما أنهم علموا الحقائق الخبرية والطلبية، أو لم يعلموها، وإذا علموها، فإما أنه كان يمكنهم بيانها بالكلام والكتاب، أو لا يمكنهم ذلك، وإذا أمكنهم ذلك البيان، فإما أن يمكن للعامة وللخاصة، أو للخاصة فقط‏.‏

فإن قال‏:‏ إنهم لم يعلموها، وإن الفلاسفة والمتكلمين أعلم بها منهم، وأحسن بيانًا لها منهم، فلاريب أن هذا قول الزنادقة المنافقين‏.‏ وسنتكلم معهم بعد هذا ؛إذ الخطاب هنا لبيان أن هذا قول الزنادقة، وأنه لا يقوله إلا منافق أو جاهل‏.‏

وإن قال‏:‏ إن الرسل مقصدهم صلاح عموم الخلق، وعموم الخلق لا يمكنهم فهم هذه الحقائق الباطنة، فخاطبوهم بضرب الأمثال؛ لينتفعوا بذلك، وأظهروا الحقائق العقلية في القوالب الحسية، فتضمن خطابهم عن الله وعن اليوم الآخر، من التخييل والتمثيل للمعقول بصورة المحسوس ما ينتفع به عموم الناس في أمر الإيمان بالله وبالمعاد‏.‏ وذلك يقرر في النفوس من عظمة الله وعظمة اليوم الآخر ما يحض النفوس على عبادة الله، وعلى الرجاء والخوف؛ فينتفعون / بذلك، وينالون السعادة بحسب إمكانهم واستعدادهم؛ إذ هذا الذي فعلته الرسل هو غاية الإمكان في كشف الحقائق لعموم النوع البشرى، ومقصود الرسل حفظ النوع البشري، وإقامة مصلحة معاشه ومعاده‏.‏

فمعلوم أن هذا قول حُذَّاق الفلاسفة، مثل‏:‏ الفارابي، وابن سينا وغيرهما، وهو قول كل حاذق وفاضل من المتكلمين في القدر الذي يخالف فيه أهل الحديث‏.‏

فالفارابي يقول‏:‏ إن خاصة النبوة جودة تخييل الأمور المعقولة في الصور المحسوسة أو نحو هذه العبارة‏.‏

وابن سينا يذكر هذا المعنى في مواضع، ويقول‏:‏ ما كان يمكن موسى بن عمران مع أولئك العبرانيين، ولا يمكن محمد مع أولئك العرب الجفاة، أن يبينا لهم الحقائق على ما هي عليه، فإنهم كانوا يعجزون عن فهم ذلك، وإن فهموه على ما هو عليه انحلت عزماتهم عن اتباعه؛ لأنهم لايرون فيه من العلم ما يقتضي العمل‏.‏

وهذا المعنى يوجد في كلام أبي حامد الغزالي وأمثاله، ومن بعده طائفة منه في الإحياء وغير الإحياء، وكذلك في كلام الرازي‏.‏

وأما الاتحادية ونحوهم من المتكلمين، فعليه مدارهم، ومبنى كلام الباطنية والقرامطة عليه، لكن هؤلاء ينكرون ظواهر الأمور العملية / والعلمية جميعًا، وأما غير هؤلاء فلا ينكرون العمليات الظاهرة المتواترة، لكن قد يجعلونها لعموم الناس لا لخصوصهم، كما يقولون مثل ذلك في الأمور الخبرية‏.‏

ومدار كلامهم على أن الرسالة متضمنة لمصلحة العموم علماً وعملاً، وأما الخاصة فلا‏.‏ وعلى هذا يدور كلام أصحاب [‏رسائل إخوان الصفا‏]‏ وسائر فضلاء المتفلسفة‏.‏

ثم منهم من يوجب اتباع الأمور العملية من الأمور الشرعية، وهؤلاء كثيرون في متفقهتهم ومتصوفتهم وعقلاء فلاسفتهم‏.‏ وإلى هنا كان ينتهي علم ابن سينا؛ إذ تاب والتزم القيام بالواجبات الناموسية، فإن قدماء الفلاسفة كانوا يوجبون اتباع النواميس التي وضعها أكابر حكماء البلاد، فلأن يوجبوا اتباع نواميس الرسل أولى‏.‏ فإنهم ـ كماقال ابن سينا‏:‏ اتفق فلاسفة العالم على أنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من هذا الناموس المحمدي‏.‏

وكل عقلاء الفلاسفة متفقون على أنه أكمل وأفضل النوع البشري، وأن جنس الرسل أفضل من جنس الفلاسفة المشاهير، ثم قد يزعمون أن الرسل والأنبياء حكماء كبار، وأن الفلاسفة الحكماء أنبياء صغار، وقد يجعلونهم صنفين‏.‏ وليس هذا موضع شرح ذلك، فقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع‏.‏

وإنما الغرض أن هؤلاء الأساطين من الفلاسفة والمتكلمين، غاية /ما يقولون هذا القول، ونحن ذكرنا الأمر على وجه التقسيم العقلي الحاصر لئلا يخرج عنه قسم؛ ليتبين أن المخالف لعلماء الحديث علما وعملاً، إما جاهل، وإما منافق، والمنافق جاهل وزيادة، كما سنبينه ـ إن شاء الله ـ والجاهل هنا فيه شعبة نفاق، وإن كان لا يعلم بها فالمنكر لذلك جاهل منافق‏.‏

فقلنا‏:‏ إن من زعم أنه وكبار طائفته أعلم من الرسل بالحقائق، وأحسن بيانًا لها، فهذا زنديق منافق إذا أظهر الإيمان بهم باتفاق المؤمنين، وسيجىء الكلام معه‏.‏

وإن قال‏:‏ إن الرسل كانوا أعظم علمًا وبيانًا، لكن هذه الحقائق لا يمكن علمها، أو لا يمكن بيانها مطلقًا، أو يمكن الأمران للخاصة‏.‏

قلنا‏:‏ فحينئذ لا يمكنكم أنتم ما عجزت عنه الرسل من العلم والبيان‏.‏

إن قلتم‏:‏ لا يمكن علمها‏.‏

قلنا‏:‏ فأنتم وأكابركم لايمكنكم علمها بطريق الأولى‏.‏

وإن قلتم‏:‏ لا يمكنهم بيانها‏.‏

قلنا‏:‏ فأنتم وأكابركم لا يمكنكم بيانها‏.‏

وإن قلتم‏:‏ يمكن ذلك للخاصة دون العامة‏.‏

قلنا‏:‏ فيمكن ذلك من الرسل للخاصة دون العامة‏.‏

/ فإن ادعوا أنه لم يكن في خاصة أصحاب الرسل من يمكنهم فهم ذلك، جعلوا السابقين الأولين دون المتأخرين في العلم والإيمان‏.‏ وهذا من مقالات الزنادقة؛ لأنه قد جعل بعض الأمم الأوائل من اليونان والهند ونحوهم أكمل عقلاً وتحقيقًا للأمور الإلهية وللعبادية من هذه الأمة، فهذا من مقالات المنافقين الزنادقة؛ إذ المسلمون متفقون على أن هذه الأمة خير الأمم وأكملهم، وأن أكمل هذه الأمة وأفضلها هم سابقوها‏.‏

وإذا سلم ذلك، فأعلم الناس بالسابقين وأتبعهم لهم هم‏:‏ أهل الحديث وأهل السنة؛ ولهذا قال الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك‏:‏ أصول السنة عندنا‏:‏ التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة ضلالة، والسنة عندنا‏:‏ آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسنة تفسر القرآن، وهي دلائل القرآن، أي‏:‏ دلالات على معناه‏.‏

ولهذا ذكر العلماء أن الرفض أساس الزندقة، وأن أول من ابتدع الرفض إنما كان منافقًا زنديقًا، وهو عبد الله بن سَبَأ؛ فإنه إذا قدح في السابقين الأولين فقد قدح في نقل الرسالة، أو في فهمها، أو في اتباعها‏.‏ فالرافضة تقدح تارة في علمهم بها، وتارة في اتباعهم لها ـ وتحيل ذلك على أهل البيت وعلى المعصوم الذي ليس له وجود في الوجود‏.‏

والزنادقة من الفلاسفة والنصيرية وغيرهم، يقدحون تارة في النقل، وهو / قول جهالهم، وتارة يقدحون في فهم الرسالة، وهو قول حُذَّاقهم، كما يذهب إليه أكابر الفلاسفة والاتحادية ونحوهم، حتى كان التلمساني مرة مريضًا، فدخل عليه شخص ومعه بعض طلبة الحديث، فأخذ يتكلم على قاعدته في الفكر أنه حجاب، وأن الأمر مداره على الكشف، وغرضه كشف الوجود المطلق، فقال ذلك الطالب‏:‏ فما معنى قول أم الدرداء‏:‏ أفضل عمل أبي الدرداء التفكر‏؟‏ فتبرم بدخول مثل هذا عليه، وقال للذي جاء به‏:‏ كيف يدخل عليَّ مثل هذا‏؟‏ ثم قال‏:‏ أتدري يا بني ما مثل أبي الدرداء وأمثاله‏؟‏ مثلهم مثل أقوام سمعوا كلامًا وحفظوه لنا، حتى نكون نحن الذين نفهمه ونعرف مراد صاحبه، ومثل بريد حمل كتابًا من السلطان إلى نائبه، أو نحو ذلك، فقد طال عهدي بالحكاية، حدثني بها الذي دخل عليه وهو ثقة يعرف ما يقول في هذا‏.‏ وكان له في هذه الفنون جَوَلانٌ كثير‏.‏

وكذلك ابن سينا، وغيره، يذكر من التنقص بالصحابة ما ورثه من أبيه وشيعته القرامطة، حتى تجدهم إذا ذكروا في آخر الفلسفة حاجة النوع الإنساني إلى الإمامة، عرضوا بقول الرافضة الضلال، لكن أولئك يصرحون من السب بأكثر مما يصرح به هؤلاء‏.‏

ولهذا تجد بين ‏[‏الرافضة‏]‏ و[‏القرامطة‏]‏ و‏[‏الاتحادية‏]‏ اقترانًا واشتباهًا‏.‏ يجمعهم أمور‏:‏

منها‏:‏ الطعن في خيار هذه الأمة، وفيما عليه أهل السنة والجماعة، وفيما / استقر من أصول الملة وقواعد الدين، ويدعون باطنا امتازوا به واختصوا به عمن سواهم، ثم هم مع ذلك متلاعنون، متباغضون مختلفون، كما رأيت وسمعت من ذلك ما لا يحصى، كما قال الله عن النصارى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏14‏]‏، وقال عن اليهود‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏64‏]‏‏.‏

وكذلك المتكلمون المخلطون الذين يكونون تارة مع المسلمين ـ وإن كانوا مبتدعين، وتارة مع الفلاسفة الصابئين، وتارة مع الكفار المشركين، وتارة يقابلون بين الطوائف وينتظرون لمن تكون الدائرة، وتارة يتحيرون بين الطوائف، وهذه الطائفة الأخيرة قد كثرت في كثير ممن انتسب إلى الإسلام من العلماء والأمراء وغيرهم، لاسيما لما ظهر المشركون من الترك على أرض الإسلام بالمشرق في أثناء المائة السابعة‏.‏ وكان كثير ممن ينتسب إلى الإسلام فيه من النفاق والردة ما أوجب تسليط المشركين وأهل الكتاب على بلاد المسلمين‏.‏

فتجد أبا عبد الله الرازي يطعن في دلالة الأدلة اللفظية على اليقين، وفي إفادة الأخبار للعلم، وهذان هما مقدمتا الزندقة ـ كما قدمناه ـ ثم يعتمد فيما أقر به من أمور الإسلام على ما علم بالاضطرار من دين الإسلام، مثل العبادات والمحرمات الظاهرة، وكذلك الإقرار بمعاد الأجساد ـ بعد الاطلاع على التفاسير والأحاديث ـ يجعل العلم بذلك مستفادًا من أمور كثيرة، فلا يعطل تعطيل/ الفلاسفة الصابئين، ولا يقر إقرار الحنفاء العلماء المؤمنين‏.‏ وكذلك‏[‏الصحابة]‏، وإن كان يقول بعدالتهم فيما نقلوه وبعلمهم في الجملة لكن يزعم في مواضع‏:‏ أنهم لم يعلموا شبهات الفلاسفة وما خاضوا فيه؛ إذ لم يجد مأثورًا عنهم التكلم بلغة الفلاسفة، ويجعل هذا حجة له في الرد على من زعم‏.‏ ‏.‏ ‏.‏[‏بياض‏]‏‏.‏

وكذلك هذه المقالات لا تجدها إلا عند أجهل المتكلمين في العلم، وأظلمهم من هؤلاء المتكلمة والمتفلسفة والمتشيعة والاتحادية في الصحابة، مثل قول كثير من العلماء والمتأمرة‏:‏ أنا أشجع منهم، وإنهم لم يقاتلوا مثل العدو الذي قاتلناه، ولا باشروا الحروب مباشرتنا، ولا ساسوا سياستنا، وهذا لا تجده إلا في أجهل الملوك وأظلمهم‏.‏

فإنه إن أراد أن نفس ألفاظهم، وما يتوصلون به إلى بيان مرادهم من المعاني لم يعلموه، فهذا لا يضرهم؛ إذ العلم بلغات الأمم ليس مما يجب على الرسل وأصحابهم، بل يجب منه ما لا يتم التبليغ إلا به، فالمتوسطون بينهم من التراجمة يعلمون لفظ كل منهما ومعناه‏.‏ فإن كان المعنيان واحدًا كالشمس والقمر، وإلا علموا ما بين المعنيين من الاجتماع والافتراق، فينقل لكل منهما مراد صاحبه، كما يصور المعاني ويبين ما بين المعنيين من التماثل، والتشابه، والتقارب‏.‏

/فالصحابة كانوا يعلمون ما جاء به الرسول، وفيما جاء به بيان الحجة على بطلان كفر كل كافر، وبيان ذلك بقياس صحيح أحق وأحسن بيانًا من مقاييس أولئك الكفار؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 33‏]‏، أخبر ـ سبحانه ـ أن الكفار لا يأتونه بقياس عقلي لباطلهم إلا جاءه الله بالحق، وجاءه من البيان والدليل، وضرب المثل بما هو أحسن تفسيرًا وكشفًا وإيضاحًا للحق من قياسهم‏.‏

وجميع ما تقوله الصابئة والمتفلسفة وغيرهم من الكفار ـ من حكم أو دليل ـ يندرج فيما علمه الصحابة‏.‏

وهذه الآية ذكرها الله تعالى بعد قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏30، 31‏]‏، فبين أن من هجر القرآن فهو من أعداء الرسول، وأن هذه العداوة أمر لابد منه، ولا مفر عنه، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏27-29‏]‏‏.‏

والله ـ تعالى ـ قد أرسل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى جميع العالمين، وضرب الأمثال فيما أرسله به لجميعهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏27‏]‏، فأخبر أنه ضرب لجميع الناس في هذا القرآن من كل مثل‏.‏

/ ولا ريب أن الألفاظ في المخاطبات تكون بحسب الحاجات، كالسلاح في المحاربات‏.‏ فإذا كان عدو المسلمين ـ في تحصنهم وتسلحهم ـ على صفة غير الصفة التي كانت عليها فارس والروم، كان جهادهم بحسب ما توجبه الشريعة التي مبناها على تحري ما هو لله أطوع وللعبد أنفع، وهو الأصلح في الدنيا والآخرة‏.‏

وقد يكون الخبير بحروبهم أقدر على حربهم ممن ليس كذلك، لا لفضل قوته وشجاعته، ولكن لمجانسته لهم، كما يكون الأعجمي المتشبه بالعرب ـ وهم خيار العجم ـ أعلم بمخاطبة قومه الأعاجم من العربي، وكما يكون العربي المتشبه بالعجم ـ وهم أدنى العرب ـ أعلم بمخاطبة العرب من العجمي‏.‏

فقد جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏خيار عجمكم المتشبهون بعربكم، وشرار عربكم المتشبهون بعجمكم‏)‏‏.‏

ولهذا لما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم [‏الطائف]‏ رماهم بالمنجنيق، وقاتلهم قتالاً لم يقاتل غيرهم مثله في المزاحفة كيوم بدر وغيره، وكذلك لما حوصر المسلمون عام‏ [‏الخندق‏] ‏اتخذوا من الخندق ما لم يحتاجوا إليه في غير الحصار‏.‏ وقيل‏:‏ إن سلمان أشار عليهم بذلك، فسلموا ذلك له ؛ لأنه طريق إلى فعل ما أمر الله به ورسوله‏.‏

وقد قررنا في قاعدة [‏السنة والبدعة‏]‏‏:‏ أن البدعة في الدين هي ما لم يشرعه / الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله، وإن تنازع أولو الأمر في بعض ذلك‏.‏ وسواء كان هذا مفعولاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن، فما فعل بعده بأمره ـ من قتال المرتدين، والخوارج المارقين، وفارس والروم والترك، وإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وغير ذلك ـ هو من سنته‏.‏

ولهذا كان عمر بن عبد العزيز يقول‏:‏ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سننًا، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله‏.‏ ليس لأحد تغييرها ولا النظر في رأي من خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا‏.‏

فسنة خلفائه الراشدين هي‏:‏ مما أمر الله به ورسوله، وعليه أدلة شرعية مفصلة ليس هذا موضعها‏.‏

فكما أن الله بين في كتابه مخاطبة أهل الكتاب، وإقامة الحجة عليهم بما بينه من أعلام رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبما في كتبهم من ذلك، وما حرفوه وبدلوه من دينهم، وصدق بما جاءت به الرسل قبله، حتى إذا سمع ذلك الكتابي العالم المنصف وجد ذلك كله من أبين الحجة وأقوم البرهان‏.‏

/والمناظرة والمحاجة لا تنفع إلا مع العدل والإنصاف، وإلا فالظالم يجحد الحق الذي يعلمه، وهو المسفسط والمقرمط، أو يمتنع عن الاستماع والنظر في طريق العلم، وهو المعرض عن النظر والاستدلال‏.‏ فكما أن الإحساس الظاهر لا يحصل للمعرض ولا يقوم للجاحد، فكذلك الشهود الباطن لا يحصل للمعرض عن النظر والبحث، بل طالب العلم يجتهد في طلبه من طرقه؛ ولهذا سمى مجتهدًا، كما يسمى المجتهد في العبادة وغيرها مجتهدًا، كما قال بعض السلف‏:‏ ما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيهم، وقال أبي ابن كعب وابن مسعود‏:‏ اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏)‏، وقال معاذ بن جبل، ويروى مرفوعًا، وهو محفوظ عن معاذ‏:‏ عليكم بالعلم، فإن تعليمه حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة‏.‏ فجعل الباحث عن العلم مجاهدًا في سبيل الله‏.‏

ولما كانت المحاجة لا تنفع إلا مع العدل، قال تعالى‏:‏‏{‏وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏46‏]‏، فالظالم ليس علينا أن نجادله بالتي هي أحسن‏.‏

وإذا حصل من مسلمة أهل الكتاب، الذين علموا ما عندهم بلغتهم، وترجموا لنا بالعربية، انتفع بذلك في مناظرتهم ومخاطبتهم، كما كان عبد الله بن سلام، / وسلمان الفارسي، وكعب الأحبار، وغيرهم، يحدثون بما عندهم من العلم، وحينئذ يستشهد بما عندهم على موافقة ما جاء به الرسول، ويكون حجة عليهم من وجه، وعلى غيرهم من وجه آخر، كما بيناه في موضعه‏.‏

والألفاظ العبرية تقارب العربية بعض المقاربة، كما تتقارب الأسماء في الاشتقاق الأكبر‏.‏ وقد سمعت ألفاظ التوراة بالعبرية من مسلمة أهل الكتاب، فوجدت اللغتين متقاربتين غاية التقارب، حتى صرت أفهم كثيرًا من كلامهم العبري بمجرد المعرفة بالعربية‏.‏

والمعاني الصحيحة، إما مقاربة لمعاني القرآن، أو مثلها، أو بعينها، وإن كان في القرآن من الألفاظ والمعاني خصائص عظيمة‏.‏

فإذا أراد المجادل منهم أن يذكر ما يطعن في القرآن بنقل أوعقل، مثل أن ينقل عما في كتبهم عن الأنبياء ما يخالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، أو خلاف ما ذكره الله في كتبهم، كزعمهم للنبي صلى الله عليه وسلم أن الله أمرهم بتحميم [‏أي‏:‏ جعل وجهه أسود‏.‏ يقال‏:‏ حَمَمْتُ وجهه تحميمًا‏:‏ إذا سودته بالفحم‏]‏ الزاني دون رجمه، أمكن للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يطلبوا التوراة ومن يقرؤها بالعربية ويترجمها من ثقات التراجمة، كعبد الله ابن سلام ونحوه، لما قال لحبرهم‏:‏ ارفع يدك عن آية الرجم، فإذا هي تلوح، ورجم النبي صلى الله عليه وسلم الزانيين منهما، بعد أن قام عليهم الحجة من كتابهم، وذلك أنه موافق لما أنزل الله عليه من الرجم، وقال‏:‏ ‏(‏اللهم إني / أول من أحيا أمرك إذ أماتوه‏)‏، ولهذا قال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏، قال ـ‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، من النبيين الذين أسلموا، وهو لم يحكم إلا بما أنزل الله عليه، كما قال‏:‏ ‏{‏وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 49‏]‏‏.‏

وكذلك يمكن أن يقرأ من نسخة مترجمة بالعربية، قد ترجمها الثقات بالخط واللفظ العربيين يعلم بهما ما عندهم بواسطة المترجمين الثقات من المسلمين، أو ممن يعلم خطهم منا، كزيد بن ثابت، ونحوه، لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعلم ذلك، والحديث معروف في السنن، وقد احتج به البخاري في‏]‏باب ترجمة الحاكم، وهل يجوز ترجمان‏؟‏‏[‏، قال‏:‏ وقال خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت‏:‏ أن النبي أمره أن يتعلم كتاب اليهود، حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه‏.‏

والمكاتبة بخطهم والمخاطبة بلغتهم من جنس واحد، وإن كانا قد يجتمعان وقد ينفرد أحدهما عن الآخر، مثل كتابة اللفظ العربي بالخط العبري وغيره من خطوط الأعاجم، وكتابة اللفظ العجمي بالخط العربي، وقيل‏:‏ يكتفي بذلك؛ ولهذا قال سبحانه‏:‏ ‏{‏كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 93‏]

فأمرنا أن نطلب منهم إحضار التوراة وتلاوتها، إن كانوا صادقين في نقل / ما يخالف ذلك، فإنهم كانوا‏:‏ ‏{‏يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏78‏]‏، و‏{‏فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏79‏]‏، ويكذبون في كلامهم وكتابهم؛ فلهذا لا تقبل الترجمة إلا من ثقة‏.‏

فإذا احتج أحدهم على خلاف القرآن برواية عن الرسل المتقدمين، مثل الذي يروى عن موسى أنه قال‏:‏ ‏(‏تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض‏)‏ أمكننا أن نقول لهم‏:‏ في أي كتاب هذا ‏؟‏ أحضروه ـ وقد علمنا أن هذا ليس في كتبهم وإنما هو مفترى مكذوب وعندهم النبوات التي هي مائتان وعشرون، و‏[‏كتاب المثنوي‏]‏ الذي معناه المثناة، وهي التي جعلها عبد الله بن عمرو فينا من أشراط الساعة، فقال‏:‏ لا تقوم الساعة حتي يقرأ فيهم بالمثناة، ليس أحد يغيرها، قيل‏:‏ وما المثناة ‏؟‏ قال‏:‏ ما استكتب من غير كتاب الله‏.‏

وكذلك إذا سئلوا عما في الكتاب من ذكر أسماء الله وصفاته لتقام الحجة عليهم وعلى غيرهم، بموافقة الأنبياء المتقدمين لمحمد صلى الله عليه وسلم، فحرفوا الكلم عن مواضعه، أمكن معرفة ذلك، كما تقدم‏.‏

وإن ذكروا حجة عقلية فهمت ـ أيضًا ـ مما في القرآن بردها إليه، مثل إنكارهم للنسخ بالعقل، حتى قالوا‏:‏ لا ينسخ ما حرمه، ولا ينهي عما أمر به، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏142‏]‏‏.‏ / قال البراء بن عازب ـ كما في الصحيحين‏:‏ هم اليهود ؛ فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏142‏]‏‏.‏

فذكر ما في النسخ من تعليق الأمر بالمشيئة الإلهية، ومن كون الأمر الثاني قد يكون أصلح وأنفع، فقوله‏:‏ ‏{‏يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ بيان للأصلح الأنفع، وقوله‏:‏ ‏{‏مَن يَشَاء‏}‏ رد للأمر إلى المشيئة‏.‏

وعلى بعض ما في الآية اعتماد جميع المتكلمين حيث قالوا‏:‏ التكليف إما تابع لمحض المشيئة، كما يقوله قوم، أو تابع للمصلحة، كما يقوله قوم، وعلى التقديرين فهو جائز‏.‏

ثم إنه ـ سبحانه ـ بَيَّنَ وقوع النسخ بتحريم الحلال في التوراة، بأنه أحل لإسرائيل أشياء ثم حرمها في التوراة، وأن هذا كان تحليلاً شرعيًا بخطاب، لم يكونوا استباحوه بمجرد البقاء على الأصل، حتى لا يكون رفعه نسخًا، كما يدعيه قوم منهم، وأمر بطلب التوراة في ذلك‏.‏ وهكذا وجدناه فيها، كما حدثنا بذلك مسلمة أهل الكتاب في غير موضع‏.‏

وهكذا مناظرة الصابئة الفلاسفة، والمشركين، ونحوهم، فإن الصابئ الفيلسوف إذا ذكر ما عند قدماء الصابئة الفلاسفة من الكلام ـ الذي عُرِّب وتُرْجم بالعربية وذكره ـ إما صرفًا، وإما على الوجه الذي تَصَّرف فيه متأخروهم بزيادة أو نقصان، وبَسْطٍ واختصار، ورد بعضه وإتيان بمعان / أخر، ليست فيه ونحو ذلك ـ فإن ذكْر ما لا يتعلق بالدين، مثل مسائل[‏الطب‏] ‏و[‏الحساب‏] ‏المحض التي يذكرون فيها ذلك، وكتب من أخذ عنهم، مثل محمد بن زكريا الرازي، وابن سينا ونحوهما من الزنادقة الأطباء ما غايته، انتفاع بآثار الكفار والمنافقين في أمور الدنيا، فهذا جائز‏.‏ كما يجوز السكنى في ديارهم، ولبس ثيابهم وسلاحهم، وكما تجوز معاملتهم على الأرض، كما عامل النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر، وكما استأجر النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر ـ لما خرجا من مكة مهاجِرَيْن ـ [‏ابن أُريْقط‏]‏ رجلاً من بني الديِّل هاديًا خِرِّيتًا، والخريت‏:‏ الماهر بالهداية، وائتمناه على أنفسهما ودوابهما، ووعداه غار ثور صبح ثالثة، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمهم وكافرهم، وكان يقبل نصحهم، وكل هذا في الصحيحين، وكان أبو طالب ينصر النبي صلى الله عليه وسلم ويَذُبُّ عنه مع شركه، و هذا كثير‏.‏

فإن المشركين وأهل الكتاب فيهم المؤتمن، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏75‏]‏، ولهذا جاز ائتمان أحدهم على المال، وجاز أن يستطب المسلمُ الكافرَ إذا كان ثقة، نص على ذلك الأئمة، كأحمد وغيره؛ إذ ذلك من قبول خبرهم فيما يعلمونه من أمر الدنيا وائتمان لهم على ذلك، وهو جائز إذا لم يكن فيه مفسدة راجحة، مثل ولايته على المسلمين، وعلوه عليهم ونحو ذلك‏.‏

فأخذ علم الطب من كتبهم مثل الاستدلال بالكافر على الطريق واستطبابه، / بل هذا أحسن؛ لأن كتبهم لم يكتبوها لمعين من المسلمين حتى تدخل فيها الخيانة، وليس هناك حاجة إلى أحد منهم بالخيانة، بل هي مجرد انتفاع بآثارهم، كالملابس والمساكن والمزارع والسلاح ونحو ذلك‏.‏

وإن ذكروا ما يتعلق بالدين، فإن نقلوه عن الأنبياء كانوا فيه كأهل الكتاب وأسوأ حالا، وإن أحالوا معرفته على القياس العقلي، فإن وافق ما في القرآن فهو حق، وإن خالفه ففي القرآن بيان بطلانه بالأمثال المضروبة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 33‏]‏، ففي القرآن الحق، والقياس البين الذي يبين بطلان ما جاؤوا به من القياس، وإن كان ما يذكرونه مجملاً فيه الحق ـ وهو الغالب على الصابئة المبدلين، مثل‏[‏أرسطو] ‏وأتباعه، وعلى من اتبعهم من الآخرين ـ قبل الحق ورد الباطل، والحق من ذلك لا يكون بيان صفة الحق فيه كبيان صفة الحق في القرآن‏.‏ فالأمر في هذا موقوف على معرفة القرآن ومعانيه وتفسيره وترجمته‏.‏

والترجمة والتفسير ثلاث طبقات‏:‏

أحدها‏:‏ ترجمة مجرد اللفظ، مثل نقل اللفظ بلفظ مرادف، ففي هذه الترجمة تريد أن تعرف أن الذي يعني بهذا اللفظ عند هؤلاء هو بعينه الذي يعنى باللفظ عند هؤلاء، فهذا علم نافع؛ إذ كثير من الناس يقيد المعنى باللفظ، فلا يجرده عن اللفظين جميعًا‏.‏

/ والثاني‏:‏ ترجمة المعنى وبيانه، بأن يصور المعنى للمخاطب، فتصوير المعنى له وتفهيمه إياه قدر زائد على ترجمة اللفظ، كما يشرح للعربي كتابًا عربيًا قد سمع ألفاظه العربية، لكنه لم يتصور معانيه ولا فهمها، وتصوير المعني يكون بذكر عينه أو نظيره؛ إذ هو تركيب صفات من مفردات يفهمها المخاطب يكون ذلك المركب صور ذلك المعنى، إما تحديدًا وإما تقريبًا‏.‏

الدرجة الثالثة‏:‏ بيان صحة ذلك وتحقيقه، بذكر الدليل والقياس الذي يحقق ذلك المعنى، إما بدليل مجرد وإما بدليل يبين علة وجوده‏.‏

وهنا قد يحتاج إلى ضرب أمثلة ومقاييس تفيده التصديق بذلك المعنى، كما يحتاج في‏ [‏الدرجة الثانية‏] ‏إلى أمثلة تصور له ذلك المعنى‏.‏ وقد يكون نفس تصوره مفيدًا للعلم بصدقه، وإذا كفى تصور معناه في التصديق به لم يحتج إلى قياس، ومثل، ودليل آخر‏.‏

فإذا عرف القرآن هذه المعرفة، فالكلام الذي يوافقه أو يخالفه ـ من كلام أهل الكتاب والصابئين والمشركين ـ لابد فيه من الترجمة للفظ والمعنى أيضًا، وحينئذ فالقرآن فيه تفصيل كل شيء كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 111‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 89‏]‏‏.‏

ومعلوم أن الأمة مأمورة بتبليغ القرآن ؛ لفظه ومعناه، كما أمر بذلك / الرسول، ولا يكون تبليغ رسالة الله إلا كذلك، وأن تبليغه إلى العَجَم قد يحتاج إلى ترجمة لهم، فيترجم لهم بحسب الإمكان، والترجمة قد تحتاج إلى ضرب أمثال لتصوير المعاني، فيكون ذلك من تمام الترجمة‏.‏

وإذا كان من المعلوم أن أكثر المسلمين، بل أكثر المنتسبين منهم إلى العلم، لا يقومون بترجمة القرآن وتفسيره وبيانه، فلأن يعجز غيرهم عن ترجمة ما عنده وبيانه أولى بذلك؛ لأن عقل المسلمين أكمل، وكتابهم أقوم قيلا، وأحسن حديثًا، ولغتهم أوسع، لاسيما إذا كانت تلك المعاني غير محققة، بل فيها باطل كثير؛ فإن ترجمة المعاني الباطلة وتصويرها صعب؛ لأنه ليس لها نظير من الحق من كل وجه‏.‏

فإذا سئلنا عن كلام يقولونه‏:‏ هل هو حق أو باطل، ومن أين يتبين الحق فيه والباطل قلنا ـ من القول‏:‏ بالحجة والدليل، كما كان المشركون وأهل الكتاب يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسائل، أو يناظرونه، وكما كانت الأمم تجادل رسلها؛ إذ كثير من الناس يدعي موافقة الشريعة للفلسفة‏.‏

مثال ذلك‏:‏ إذا ذكروا [‏العقول العشرة‏]‏، و‏[‏النفوس التسعة‏]‏ وقالوا‏:‏ إن العقل الأول هو الصادر الأول عن الواجب بذاته، وإنه من لوازم ذاته ومعلول له، وكذلك الثاني عن الأول، وإنَّ لكل فلك عقلاً ونفسًا‏.‏

/ قيل‏:‏ قولكم‏:‏‏[‏عقل، ونفس]‏ لغة لكم، فلابد من ترجمتها، وإن كان اللفظ عربيًا فلابد من ترجمة المعنى‏.‏

فيقولون‏:‏ [‏العقل‏] هو الروح المجردة عن المادة ـ وهي الجسد وعلائقها ـ سموه عقلاً ويسمونه مفارقًا، ويسمون تلك المفارقات للمواد؛ لأنها مفارقة للأجساد، كما أن روح الإنسان إذا فارقت جسده كانت مفارقة للمادة التي هي الجسد و[‏النفس‏]‏‏:‏ هي الروح المدبرة للجسم، مثل نفس الإنسان إذا كانت في جسمه، فمتى كانت في الجسم كانت محركة له، فإذا فارقته صارت عقلاً محضًا، أي‏:‏ يعقل العلوم من غير تحريك بشيء من الأجسام، فهذه العقول والنفوس‏.‏

وهذا الذي ذكرناه من أحسن الترجمة عن معنى العقل والنفس، وأكثرهم لا يحصلون ذلك‏.‏

قالوا‏:‏ وأثبتنا لكل فلك نفسًا؛ لأن الحركة اختيارية، فلا تكون إلا لنفس، ولكل نفس عقلاً؛ لأن العقل كامل لا يحتاج إلى حركة، والمتحرك يطلب الكمال فلابد أن يكون فوقه ما يشبه به، وما يكون علة له، ولهذا كانت حركة أنفسنا للتشبه بما فوقنا من العقول، وكل ذلك تشبه بواجب الوجود بحسب الإمكان‏.‏

والأول لا يصدر عنه إلا عقل ؛ لأن النفس تقتضي جسمًا، والجسم فيه / كثرة، والصادر عنه لا يكون إلا واحدًا‏.‏ ولهم في الصدور اختلاف كثير ليس هذا موضعه‏.‏

قيل لهم‏:‏ أما إثباتكم أن في السماء أرواحًا، فهذا يشبه ما في القرآن وغيره من كتب الله، ولكن ليست هي [‏الملائكة‏]‏، كما يقول الذين يزعمون منكم أنهم آمنوا بما أنزل على الرسول، وما أنزل من قبله، ويقولون‏:‏ ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق بين الشريعة والفلسفة، فإنهم قالوا‏:‏ العقول والنفوس عند الفلاسفة هي الملائكة عند الأنبياء، وليس كذلك، لكن تشبهها من بعض الوجوه‏.‏

فإن اسم الملائكة والملك يتضمن أنهم رسل الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 1‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 1‏]‏، فالملائكة رسل الله في تنفيذ أمره الكوني الذي يدبر به السموات والأرض، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏61‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏80‏]‏، وأمره الديني الذي تنزل به الملائكة، فإنه قال‏:‏ ‏{‏يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 2‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏51‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏75‏]‏‏.‏

وملائكة الله لا يحصى عددهم إلا الله، كما قال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏31‏]‏‏.‏

وقيل لهم‏:‏ الذي في الكتاب والسنة، من ذكر الملائكة وكثرتهم، أمر لا يحصر، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا ملك قائم أو قاعد، أو راكع، أو ساجد‏)‏، ‏[‏الأطيط‏:‏ صوت الأقتاب، وأطيط الإبل‏:‏ أصواتها وحنينها، أي‏:‏ أن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت‏.‏ وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثم أطيط، وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله تعالى] ‏وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏‏.‏

فمن جعلهم عشرة، أو تسعة عشر، أو زعم أن التسعة عشر الذين على سَقَر هم العقول والنفوس، فهذا من جهله بما جاء عن الله ورسوله، وضلاله في ذلك بين؛ إذ لم تتفق الأسماء في صفة المسمى ولا في قدره، كما تكون الألفاظ المترادفة، وإنما اتفق المسميان في كون كل منهما روحًا متعلقًا بالسموات‏.‏

وهذا من بعض صفات ملائكة السموات، فالذي أثبتوه هو بعض / الصفات لبعض الملائكة، وهو بالنسبة إلى الملائكة وصفاتهم وأقدارهم وأعدادهم في غاية القلة، أقل مما يؤمن به السامرة من الأنبياء بالنسبة إلى الأنبياء؛ إذ هم لا يؤمنون بنبي بعد موسى ويُوشَع‏.‏

كيف وهم لم يثبتوا للملائكة من الصفة إلا مجرد ما علموه من نفوسهم مجرد العلم للعقول، والحركة الإرادية للنفوس‏؟‏

ومن المعلوم أن الملائكة لهم من العلوم، والأحوال، والإرادات، والأعمال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال، ووصفهم في القرآن بالتسبيح والعبادة لله أكثر من أن يذكر هنا، كما ذكر ـ تعالى ـ في خطابه للملائكة، وأمره لهم بالسجود لآدم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 38‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 206‏]‏،

وقوله تعالى‏:‏ {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏:‏ 29‏]‏،

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏75‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏285‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏124 ،125‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏12‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏26‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏50‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏32‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏30‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏61‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 11‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 13‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 10‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 80‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{‏مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏18‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{‏وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 1-3‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏149-166‏]‏‏.‏

وفي الصحيحين عـن جابر بن سَمُْرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏ (‏ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها‏؟‏ قالوا وكيف تصف الملائكة عند ربها‏؟‏ قال‏:‏ يتمون الصف الأول، ويتراصون في الصف‏)‏، وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس عن مالك بن صعْصَعَة في حديث المعراج عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ لما ذكر صعوده إلى السماء السابعة ـ قال‏:‏ ‏(‏فرفع لي البيت المعمور؛ فسألت جبريل، فقال‏:‏ هذا البيت المعمور، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا آخر ما عليهم‏)‏‏.‏

وقال البخاري‏:‏ وقال همَّام عن قتادة عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏ (‏إذا أمَّنَ القارئ فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏، وفي الرواية الأخرى في الصحيحين إذا قال‏:‏‏ (‏آمين، فإن الملائكة في السماء تقول‏:‏ آمين‏)‏‏.‏

وفي الصحيح أيضًا عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏ (‏إذا قال الإمام‏:‏ سمع الله لمن حمده، فقولوا‏:‏ اللهم ربنا ولك الحمد، فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏‏.‏ وفي / الصحيح عن عروة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الملائكة تنزل في العَنَان ـ وهو السحاب ـ فتذكر الأمر قضى في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتسمعه، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم‏)‏‏.‏

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن لله ملائكة سيارة فضلاء، يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر قعدوا معهم، وحَفَّ بعضهم بعضًا بأجنحتهم، حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، فيسألهم الله ـ وهو أعلم ـ من أين جئتم‏؟‏ فيقولون‏:‏ جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك، ويهللونك ويحمدونك، ويسألونك‏.‏ قال‏:‏ وما يسألوني‏؟‏ قالوا‏:‏ يسألونك جنتك‏.‏ قال‏:‏ وهل رأوا جنتي‏؟‏ قالوا‏:‏ لا أي رب، قال‏:‏ فكيف لو رأوا جنتي‏؟‏ قالوا‏:‏ ويستجيرونك‏.‏ قال‏:‏ ومم يستجيرونني‏؟‏ قالوا‏:‏ من نارك‏.‏ قال‏:‏ وهل رأوا ناري‏؟‏ قالوا ‏:‏يا رب لا‏.‏ قال‏:‏ فكيف لو رأوا ناري‏؟‏ قالوا‏:‏ ويستغفرونك‏.‏ قال‏:‏ فيقول‏:‏ قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا، وأجَرْتُهم مما استجاروا، قال‏:‏ يقولون‏:‏ رب، فيهم فلان عبد خطاء، إنما مر فجلس معهم‏.‏ قال‏:‏ فيقول‏:‏ وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم‏)‏‏.‏

/ وفي الصحيحين عن ُعرْوَة ،عن عائشة حدثته؛ أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العَقَبَة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقَرْن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال‏:‏ إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم على، ثم قال‏:‏ يا محمد، فقال‏:‏ ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأَخْشَبَيْن‏[‏الأخشبان‏:‏ هما الجبلان المطيفان بمكة، وهما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان‏.‏ والأخشب كل جبل خشن غليظ الحجارة‏] ‏فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا‏)‏‏.‏

وأمثال هذه الأحاديث الصحاح مما فيها ذكر الملائكة الذين في السموات وملائكة الهواء والجبال، وغير ذلك كثيرة‏.‏

وكذلك الملائكة المتصرفون في أمور بني آدم، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه ـ حديث الصادق المصدوق ـ إذ يقول‏:‏ ‏(‏ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال‏:‏ اكتب رزقه، وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح‏)‏ وفي الصحيح حديث البراء ابن عازب قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان‏:‏‏(‏اهجهم ـ أو هاجهم ـ وجبريل معك‏)‏، وفي الصحيح أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ ‏(‏أجب عني، اللّهم أيده /بروح القُدُس‏)‏، وفي الصحيح عن أنس قال‏:‏ ‏(‏كأني أنظر إلى غبار ساطع في سكة بني غنم موكب جبريل‏)‏، وفي الصحيحين عن عائشة‏:‏ أن الحارث بن هشام قال‏:‏ يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أحيانًا يأتيني مثل صَلْصَلَة الجرس، وهو أشده علي، فَيُفْصِم عني وقد وَعَيْتُ ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً، فيكلمني، فأعي ما يقول‏)‏ [‏وقوله‏:‏ فيُفْصِم‏:‏ أي فيقْلِع‏]‏‏.‏

وإتيان جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم تارة في صورة أعرابي، وتارة في صورة دحْيَة الكلبي، ومخاطبته وإقراؤه إياه كثيرًا، أعظم من أن يذكر هنا‏.‏

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر والعصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم ـ وهو أعلم بهم ـ كيف تركتم عبادي ‏؟‏ فيقولون‏:‏ تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون‏)‏‏.‏

وفي الصحيحين عن عائشة قالت‏:‏ حشوت للنبي صلى الله عليه وسلم وسادة فيها تماثيل، كأنها نمرقة فجاء فقام، وجعل يتغير وجهه، فقلت‏:‏ما لنا يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما بال هذه الوسادة‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ وسادة جعلتها لك لتضطجع عليها، قال‏:‏ ‏(‏أما علمت أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، إن من صنع الصور يعذب يوم القيامة يقال‏:‏ أحيوا ما خلقتم‏)‏، وفي الصحيحين /عن ابن عباس قال‏:‏ سمعت أبا طلحة يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لاتدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولاصورة تماثيل‏)‏‏.‏

وكذلك في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ ‏(‏وعد النبي صلى الله عليه وسلم جبريل، فقال‏:‏ إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة‏)‏، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مُصَلاَّه الذي صلى فيه‏:‏ اللّهم اغفر له، اللّهم ارحمه، ما لم يحدث‏)‏‏.‏

وأمثال هذه النصوص، التي يذكر فيها من أصناف الملائكة وأوصافهم وأفعالهم، ما يمنع أن تكون على ما يذكرونه من‏ [‏العقول، والنفوس‏]‏ أو أن يكون جبريل هو ‏[‏العقل الفعال] ‏وتكون ملائكة الآدميين هي القوى الصالحة، والشياطين هي القوى الفاسدة، كما يزعم هؤلاء‏.‏

وأيضًا، فزعمهم أن العقول والنفوس ـ التي جعلوها الملائكة، وزعموا أنها معلولة عن الله صادرة عن ذاته صدور المعلول عن علته ـ هو قول بتولدها عن الله، وأن الله ولد الملائكة، وهذا مما رده الله ونزه نفسه عنه، وكذب قائله، وبين كذبه بقوله ‏:‏‏{‏لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ

وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏3، 4‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏151 - 157‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏{وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 100‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏26- 28‏]‏، وقال تعالى ‏:‏‏{‏لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 172‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏88 -95‏]‏ ‏.‏

فأخبر أنهم معبدون، أي‏:‏ مذللون مصرفون، مدينون مقهورون، ليسوا كالمعلول المتولد تولدًا لازمًا لا يتصور أن يتغير عن ذلك‏.‏ وأخبر أنهم عباد لله، لا يشبهون به كما يشبه المعلول بالعلة، والولد بالوالد، كما يزعمه هؤلاء الصابئون، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏116، 117‏]‏، فأخبر أنه يقتضي كل شيء بقوله‏: [‏كن] ‏لا بتولد المعلول عنه‏.‏

وكذلك قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 100، 101‏]‏

/ فأخبر أن التولد لا يكون إلا عن أصلين،كما تكون النتيجة عن مقدمتين، وكذلك سائر المعلولات المعلومة لا يحدث المعلول إلا باقتران ما تتم به العلة، فأما الشيء الواحد وحده فلا يكون علة ولا والدًا قط، لا يكون شيء في هذا العالم إلا عن أصلين، ولو أنهما الفاعل والقابل، كالنار والحطب، والشمس والأرض، فأما الواحد وحده فلا يصدر عنه شيء ولا يتولد‏.‏

فبين القرآن أنهم أخطؤوا طريق القياس في العلة والتولد، حيث جعلوا العالم يصدر عنه بالتعليل والتولد، وكذلك قال‏:‏ ‏{‏وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏49‏]‏ خلاف قولهم‏:‏ إن الصادر عنه واحد‏.‏ وهذا وفاء بما ذكره الله ـ تعالى ـ من قوله وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏33‏]‏

إذ قد تكفل بذلك في حق كل من خرج عن اتباع الرسول، فقال تعالى ‏:‏‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏1‏]‏، ‏[‏فذكر]‏ الوحدانية والرسالة إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏27 ـ 29‏]‏، فكل من خرج عن اتباع الرسول فهو ظالم بحسب ذلك‏.‏ والمبتدع ظالم بقدر ما خالف من سنته‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏30-33‏]‏‏.‏

وهؤلاء الصابئة قد أتوا بمثل، وهو قولهم‏:‏ الواحد لا يصدر عنه ويتولد عنه إلا واحد، والرب واحد فلا يصدر عنه إلا واحد يتولد عنه‏.‏ فأتى الله بالحق وأحسن تفسيرًا، وبين أن الواحد لا يصدر عنه شيء ولا يتولد عنه شيء أصلا، وأنه لم يتولد عنه شيء، ولم يصدر عنه شيء، ولكن خلق كل شيء خلقًا، وأنه خلق من كل شيء زوجين اثنين‏.‏ ولهذا قال مجاهد ـ وذكره البخاري في صحيحه ـ في الشفع والوتر‏:‏ ‏(‏إن الشفع هو الخلق، فكل مخلوق له نظير، والوتر هو الله الذي لا شبيه له‏)‏، فقال‏:‏‏{‏أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏101‏]‏‏.‏

وذلك أن الآثار الصادرة عن العلل والمتولدات في الموجودات لابد فيها من شيئين أحدهما‏:‏ يكون كالأب، والآخر‏:‏ يكون كالأم القابلة‏.‏ وقد يسمون ذلك الفاعل والقابل كالشمس مع الأرض، والنار مع الحطب، فأما صدور شيء واحد عن شيء واحد،فهذا لا وجود له في الوجود أصلا‏.‏

وأما تشبيههم ذلك بالشعاع مع الشمس،وبالصوت ـ كالطنين ـ مع الحركة والنقر، فهو أيضًا حجة لله ورسوله والمؤمنين عليهم‏.‏ وذلك أن الشعاع إن / أريد به نفس ما يقوم بالشمس، فذلك صفة من صفاتها، وصفات الخالق ليست مخلوقة، ولا هي من العالم الذي فيه الكلام‏.‏

وإن أريد بالشعاع ما ينعكس على الأرض، فذلك لابد فيه من شيئين، وهما الشمس التي تجري مجرى الأب الفاعل، والأرض التي تجري مجرى الأم القابلة، وهي الصاحبة للشمس‏.‏

وكذلك الصوت لا يتولد إلا عن جسمين يقرع أحدهما الآخر، أو يقلع عنه، فيتولد الصوت الموجود في أجسام العالم عن أصلين يقرع أحدهما الآخر، أو يقلع عنه‏.‏

فمهما احتجوا به من القياس، فالذي جاء الله به هو الحق وأحسن تفسيرًا، وأحسن بيانًا وإيضاحًا للحق وكشفًا له‏.‏

وأيضًا، فجعلها علة تامة لما تحتها، ومؤكدة له، وموجبة له حتى يجعلوها مبادئنا، ويجعلوها لنا كالآباء والأمهات، وربما جعلوا العقل هو الأب، والنفس هي الأم، وربما قال بعضهم ‏:‏‏]‏الوالدان‏[‏‏:‏ العقل والطبيعة، كما قال صاحب الفصوص في قول نوح ‏{‏رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏28‏]‏، أي‏:‏ من كنت نتيجة عنهما،وهما العقل والطبيعة‏.‏ وحتى يسمونها الأرباب والآلهة الصغرى، ويعبدونها‏.‏ وهو كفر مخالف لما جاءت به الرسل‏.‏

/ وبهذا وصف بعض السلف الصابئة بأنهم يعبدون الملائكة، وكذلك في الكتب المعربة عن قدمائهم، أنهم كانوا يسمونها الآلهة والأرباب الصغرى، كما كانوا يعبدون الكواكب أيضًا‏.‏

والقرآن ينفي أن تكون أربابًا، أو أن تكون آلهة، ويكون لها غير ما للرسول الذي لا يفعل إلا بعد أمُرِ مُرْسِلِه، و لا يشفع إلا بعد أن يؤذن له في الشفاعة، وقد رد الله ذلك على من زعمه من العرب والروم وغيرهم من الأمم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏‏؟‏ ‏[‏آل عمران‏:‏80‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏{‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏62، 72‏]‏، وقال تعالى ‏:‏‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ‏}‏ ‏[‏سبأ ‏:‏22، 32‏]‏‏.‏

وقد تقدم بعض الأحاديث في صعق الملائكة إذا قضى الله بالأمر الكوني أو بالوحي الديني‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏62‏]‏ ، وقال تعالى ‏:‏‏{‏بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ‏}‏ الآية‏[‏الأنبياء‏:‏26‏]‏، /وقال تعالى ‏:‏‏{‏وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏64‏]‏، وقال تعالى ‏:‏‏{‏قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56، 57‏]‏، نزلت الآية في الذين يدعون الملائكة والنبيين‏.‏

واستقصاء القول في ذلك ليس هذا موضعه‏.‏

فإن الله ـ سبحانه ـ بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم‏.‏ فالكلم التي في القرآن جامعة محيطة، كلية عامة لما كان متفرقًا منتشرًا في كلام غيره، ثم إنه يسمى كل شيء بما يدل على صفته المناسبة للحكم المذكور المبين، وما يبين وجه دلالته‏.‏

فإن تنزيهه نفسه عن الولد والولادة واتخاذ الولد، أعم وأقوم من نفيه بلفظ العلة؛ فإن العلة أصلها التغيير، كالمرض الذي يحيل البدن عن صحته، والعليل ضد الصحيح‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه لا يقال‏:‏‏[‏معلول] ‏إلا في الشرب، يقال‏:‏ شرب الماء علا بعد نَهَل، وعللته‏:‏ إذا سقيته مرة ثانية‏.‏

وأما استعمال اسم ‏[‏العلة] ‏في الموجب للشيء أو المقتضى له، فهو من عرف أهل الكلام، وهي ـ وإن كان بينهما وبين العلة اللغوية مناسبة من جهة التغير ـ فالمناسبة في لفظ ‏[‏التولد] ‏أظهر؛ ولهذا كان في الخطاب أشهر‏.‏ يقول الناس‏:‏ /هذا الأمر يتولد عنه كذا، وهذا يولد كذا، وقد تولد عن ذلك الأمر كيت وكيت، لكل سبب اقتضى مسببًا من الأقوال والأعمال، حتى أهل الطبائع يقولون‏:‏ ‏[‏الأركان والمولدات‏]‏، يريدون ما يتولد عن الأصول الأربعة ـ التراب، والماء، والهواء، والنار ـ من معدن، ونبات، وحيوان‏.‏

فنفيه ـ سبحانه ـ عن نفسه أن يلد شيئًا اقتضى ألا يتولد عنه شيء، ونفيه أن يتخذ ولدًا يقتضى أنه لم يفعل ذلك بشيء من خلقه على سبيل التكريم، وأن العباد لا يصلح أن يتخذ شيئًا منهم بمنزلة الولد‏.‏ وهذا يبطل دعوى من يدعي مثل ذلك في المسيح وغيره، ومن يقول‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏18‏]‏، ومن يقول‏:‏ الفلسفة هي التشبه بالإله، فإن الولد يكون من جنس والده ويكون نظيرًا له، وإن كان فرعًا له، ولهذا كان هؤلاء القائلون بهذه المعاني من أعظم الخلق قولاً بالتشبيه والتمثيل، وجعل الأنداد له والعدل والتسوية؛ ولهذا كانت الفلاسفة الذين يقولون بصدور العقول والنفوس عنه على وجه التولد والتعليل يجعلونها له أندادًا، ويتخذونها آلهة وأربابًا، بل قد لا يعبدون إلا إياها، ولا يدعون سواها، ويجعلونها هي المبدعة لما سواها مما تحتها‏.‏

فالحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك، و‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏1، 2‏]‏

‏[‏بهامش الأصل هنا متروك محل خمسة أسطر‏.‏ قال في المسودة‏:‏ يتلوه الوريقة، ولم نجدها‏]

فإن هؤلاء جعلوا لله شركاء الجن وخلقهم، وخرقوا له بنين وبنات بغير علم، و‏[‏الجن‏] ‏قد قيل‏:‏ إنه يعم الملائكة، كما قيل في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏158‏]‏، وإن كان قد قيل في سبب ذلك‏:‏ زعم بعض مشركي العرب أن الله صاهر إلى الجن فولدت الملائكة، فقد كانوا يعبدون الملائكة أيضًا، كما عبدتها الصابئة الفلاسفة، كما قال تعالى ‏:‏‏{‏وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏19‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏40 ،41‏]‏ ، يعني‏:‏ أن الملائكة لم تأمرهم بذلك؛ وإنما أمرتهم بذلك الجن؛ ليكونوا عابدين للشياطين التي تتمثل لهم ، كما يكون للأصنام شياطين‏.‏

وكما تنزل الشياطين على بعض من يعبد الكواكب ويرصدها، حتى تنزل عليه صورة فتخاطبه، وهو شيطان من الشياطين‏.‏

ولهذا قال تعالى ‏:‏‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏60-62‏]‏،

وقال ‏:‏‏{‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏50‏]‏، فهم وإن لم يقصدوا عبادة الشيطان وموالاته، ولكنهم في الحقيقة يعبدونه ويوالونه‏.‏

فقد تبين أن هؤلاء الفلاسفة الصابئة المبتدعة مؤمنون بقليل مما جاءت به الرسل في أمر الملائكة، في صفتهم وأقدارهم‏.‏

وذلك، أن هؤلاء القوم إنما سلكوا سبيل الاستدلال بالحركات الفلكية والقياس على نفوسهم، مع ما جحدوه وجهلوه من خلق الله وإبداعه‏.‏

وسبب ذلك‏:‏ ما ذكره طائفة ممن جمع أخبارهم‏:‏ أن أساطينهم الأوائل، كفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون، كانوا يهاجرون إلى أرض الأنبياء بالشام، ويتلقون عن لقمان الحكيم، ومن بعده من أصحاب داود وسليمان، وأن أرسطو لم يسافر إلى أرض الأنبياء، ولم يكن عنده من العلم بأثارة الأنبياء ما عند سلفه‏.‏ وكان عنده قدر يسير من الصابئية الصحيحة، فابتدع لهم هذه التعاليم القياسية، وصارت قانونًا مشى عليه أتباعه، واتفق أنه قد يتكلم في طبائع الأجسام، أو في صورة المنطق أحيانًا بكلام صحيح‏.‏

وأما الأولون، فلم يوجد لهم مذهب تام مبتدع بمنزلة مبتدعة المتكلمين في المسلمين، مثل‏:‏ أبي الهذيل، وهشام بن الحكم، ونحوهما، ممن وضع مذهبًا / في ‏[‏أبواب أصول الدين‏]‏ فاتبعه على ذلك طائفة؛ إذ كان أئمة المسلمين ـ مثل مالك، وحماد بن زيد، والثوري، ونحوهم ـ إنما تكلموا بما جاءت به الرسالة وفيه الهدى والشفاء، فمن لم يكن له علم بطريق المسلمين، يعتاض عنه بما عند هؤلاء، وهذا سبب ظهور البدع في كل أمة، وهو خفاء سنن المرسلين فيهم، وبذلك يقع الهلاك‏.‏

ولهذا كانوا يقولون‏:‏ الاعتصام بالسنة نجاة، قال مالك ـ رحمه الله‏:‏ السنة مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك‏.‏ وهذا حق‏.‏ فإن سفينة نوح إنما ركبها من صدق المرسلين واتبعهم، وأن من لم يركبها فقد كذب المرسلين‏.‏ واتباع السنة هو اتباع الرسالة التي جاءت من عند الله، فتابعها بمنزلة من ركب مع نوح السفينة باطنًا وظاهرًا‏.‏ والمتخلف عن اتباع الرسالة بمنزلة المتخلف عن اتباع نوح ـ عليه السلام ـ وركوب السفينة معه‏.‏

وهكذا إذا تدبر المؤمن العليم سائر مقالات الفلاسفة وغيرهم من الأمم التي فيها ضلال وكفر، وجد القرآن والسنة كاشفين لأحوالهم، مبينين لحقهم، مميزين بين حق ذلك وباطله‏.‏ والصحابة كانوا أعلم الخلق بذلك، كما كانوا أقوم الخلق بجهاد الكفار والمنافقين، كما قال فيهم عبد الله بن مسعود‏:‏ من كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد ،كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله / لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم

فأخبر عنهم بكمال بر القلوب، مع كمال عمق العلم، وهذا قليل في المتأخرين، كما يقال‏:‏ من العجائب فقيه صوفي، وعالم زاهد ونحو ذلك‏.‏ فإن أهل برّ القلوب وحسن الإرادة وصلاح المقاصد يحمدون على سلامة قلوبهم من الإرادات المذمومة، ويقترن بهم كثيرًا عدم المعرفة، وإدراك حقائق أحوال الخلق التي توجب الذم للشر والنهي عنه، والجهاد في سبيل الله، وأهل التعمق في العلوم قد يدركون من معرفة الشرور والشبهات ما يوقعهم في أنواع الغى والضلالات، وأصحاب محمد كانوا أبر الخلق قلوبًا وأعمقهم علماً‏.‏

ثم إن أكثر المتعمقين في العلم من المتأخرين يقترن بتعمقهم التكلف المذموم من المتكلمين والمتعبدين، وهو القول والعمل بلا علم، وطلب ما لا يدرك‏.‏ وأصحاب محمد كانوا ـ مع أنهم أكمل الناس علمًا نافعًا وعملاً صالحًا ـ أقل الناس تكلفًا، يصدر عن أحدهم الكلمة والكلمتان من الحكمة أو من المعارف، ما يهدي الله بها أمة، وهذا من منن الله على هذه الأمة‏.‏ وتجد غيرهم يحشون الأوراق من التكلفات والشطحات، ما هو من أعظم الفضول المبتدعة، والآراء المخترعة، لم يكن لهم في ذلك سلف إلا رعونات النفوس المتلقاة ممن ساء قصده في الدين‏.‏

/ويروى أن الله ـ سبحانه ـ قال للمسيح‏:‏ إني سأخلق أمة أفضلها على كل أمة، وليس لها علم ولا حلم، فقال المسيح‏:‏ أي رب، كيف تفضلهم على جميع الأمم، وليس لهم علم ولا حلم‏؟‏ قال‏:‏ أهبهم من علمي وحلمي، وهذا من خواص متابعة الرسول‏.‏ فأيهم كان له أتبع كان في ذلك أكمل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏28 ،29‏[‏‏.‏

وكذلك في الصحيحين من حديث أبي موسى وعبد الله بن عمر‏:‏ ‏(‏مثلنا ومثل الأمم قبلنا، كالذي استأجر أجراء، فقال‏:‏ من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط‏؟‏ فعملت اليهود‏.‏ ثم قال‏:‏ من يعمل لي إلى صلاة العصر على قيراط قيراط‏؟‏ فعملت النصارى‏.‏ ثم قال‏:‏ من يعمل لي إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين‏؟‏ فعملت المسلمون، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا نحن أكثر عملاً وأقل أجرًا‏.‏ قال‏:‏ فهل ظلمتكم من حقكم شيئًا‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فهو فضلي أوتيه من أشاء‏)‏‏.‏

فدل الكتاب والسنة على أن الله يؤتي أتباع هذا الرسول من فضله ما لم يؤته لأهل الكتابين قبلهم، فكيف بمن هو دونهم من الصابئة‏؟‏ دع مبتدعة الصابئة من المتفلسفة ونحوهم‏.‏

/ ومن المعلوم أن أهل الحديث والسنة أخص بالرسول وأتباعه، فلهم من فضل الله وتخصيصه إياهم بالعلم والحلم وتضعيف الأجر ما ليس لغيرهم، كما قال بعض السلف أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل‏.‏

فهذا الكلام تنبيه على ما يظنه أهل الجهالة والضلالة من نقص الصحابة في العلم والبيان، أو اليد والسِّنَان‏[السِّنان‏:‏ الرُّمْح]‏، وبسط هذا لا يتحمله هذا المقام‏.‏

والمقصود التنبيه على أن كل من زعم بلسان حاله أو مقاله‏:‏ أن طائفة غير أهل الحديث أدركوا من حقائق الأمور الباطنة الغيبية في أمر الخلق والبعث والمبدأ والمعاد، وأمر الإيمان بالله واليوم الآخر، وتعرف واجب الوجود والنفس الناطقة والعلوم، والأخلاق التي تزكو بها النفوس وتصلح وتكمل دون أهل الحديث، فهو ـ إن كان من المؤمنين بالرسل ـ فهو جاهل، فيه شعبة قوية من شعب النفاق، وإلا فهو منافق خالص من الذين ‏:‏‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏13‏]‏ وقد يكون من ‏:‏‏{‏الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏35‏]‏، ومن ‏{‏وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏16‏]‏‏.‏

وقد يبين ذلك بالقياس العقلي الصحيح الذي لا ريب فيه ـ وإن كان ذلك ظاهرًا بالفطرة لكل سليم الفطرة ـ فإنه متى كان الرسول أكمل الخلق وأعلمهم / بالحقائق وأقومهم قولاً وحالاً، لزم أن يكون أعلم الناس به أعلم الخلق بذلك، وأن يكون أعظمهم موافقة له واقتداء به أفضل الخلق‏.‏

ولايقال‏:‏ هذه الفطرة يغيرها ما يوجد في المنتسبين إلى السنة والحديث من تفريط وعدوان، لأنه يقال‏:‏ إن ذلك في غيرهم أكثر والواجب مقابلة الجملة بالجملة في المحمود والمذموم، هذه هي المقابلة العادلة‏.‏

وإنما غيَّر الفطرة قلة المعرفة بالحديث والسنة واتباع ذلك،مع ما يوجد في المخالفين لها من نوع تحقيق لبعض العلم، وإحسان لبعض العمل، فيكون ذلك شبهة في قبول غيره، وترجيح صاحبه، ولا غرض لنا في ذكر الأشخاص، وقد ذكر أبو محمد ابن قتيبة في أول كتاب [‏مختلف الحديث‏]‏ وغيره من العلماء في هذا الباب ما لا يحصى من الأمور المبينة لما ذكرناه‏.‏

وإنما المقصود ذكر نفس الطريقة العلمية والعملية، التي تعرف بحقائق الأمور الخبرية النظرية، و توصل إلى حقائق الأمور الإرادية العملية، فمتى كان غير الرسول قادرًا على علم بذلك أو بيان له أو محبة لإفادة ذلك، فالرسول أعلم بذلك وأحرص على الهدى، وأقدر على بيانه منه، وكذلك أصحابه من بعده وأتباعهم‏.‏

وهذه صفات الكمال والعلم والإرادة والإحسان والقدرة عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستخارة‏:‏

/ (‏اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب‏)‏‏.‏

فعلمنا صلى الله عليه وسلم أن نستخير الله بعلمه، فيعلّمنا من علمه ما نعلم به الخير، ونستقدره بقدرته، فيجعلنا قادرين؛ إذ الاستفعال هو طلب الفعل، كما قال في الحديث الصحيح‏:‏

يقول الله تعالى‏:‏ ‏(‏يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، كلكم ضالُّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم‏)‏‏.‏

فاستهداء الله طلب أن يهدينا، واستطعامه طلب أن يطعمنا، هذا قوت القلوب، وهذا قوت الأجسام، وكذلك استخارته بعلمه واستقداره بقدرته‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏وأسألك من فضلك العظيم‏)‏، فهذا السؤال من جوده ومَنِّه، وعطائه وإحسانه الذي يكون بمشيئته ورحمته وحنانه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏(‏فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم‏)‏ ولم يقل‏:‏ إني لا أرحم نفسي؛ لأنه في مقام الاستخارة يريد الخير لنفسه ويطلب ذلك، لكنه لا يعلمه ولا يقدر عليه، إن لم يعلّمه الله إياه ويقدره عليه‏.‏

فإذا كان الرسول أعلم الخلق بالحقائق الخبرية والطلبية، وأحب الخلق للتعليم والهداية والإفادة، وأقدر الخلق على البيان والعبارة، امتنع أن يكون من هو دونه أفاد خواصه معرفة الحقائق أعظم مما أفادها الرسول لخواصه،/فامتنع أن يكون عند أحد من الطوائف من معرفة الحقائق ما ليس عند علماء الحديث‏.‏

وإذا لم يكن في الطوائف من هو أعلم بالحقائق وأبين لها منه، وجب أن يكون كل ما يذمون به من جهل بعضهم هو في طائفة المخالف الذام لهم أكثر، فيكون الذام لهم جاهلا ظالمًا، فيه شعبة نفاق، إذا كان مؤمنًا‏.‏ وهذا هو المقصود‏.‏

ثم إن هذا الذي بيناه مشهود بالقلب، أعلم ذلك في كل أحد ممن أعرف مفصلاً‏.‏

وهذه جملة يمكن تفصيلها من وجوه كثيرة، لكن ليس هذا موضعه‏.

فصــل

وأما قول من قال‏:‏ إن الحشوية على ضربين، أحدهما‏:‏ لا يتحاشى من الحشو والتشبيه والتجسيم، والآخر‏:‏ تستر بمذهب السلف‏.‏ ومذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه، دون التشبيه والتجسيم، وكذا جميع المبتدعة يزعمون هذا فيهم كما قال القائل‏:‏

وكل يدعي وصلاً لليلى ** وليلى لا تقر لهم بذاكا

فهذا الكلام فيه حق وباطل ‏.‏

فمن الحق الذي فيه‏:‏ ذم من يمثل الله بمخلوقاته، ويجعل صفاته من جنس صفاتهم، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏، وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏}‏

‏[‏الإخلاص‏:‏4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏65‏]

وقد بسطنا القول في ذلك، وذكرنا الدلالات العقلية التي دل عليها كتاب الله في نفي ذلك، وبينا منه ما لم يذكره النفاة الذين يتسمون بالتنزيه، ولا يوجد في كتبهم، ولا يسمع من أئمتهم، بل عامة حججهم التي يذكرونها حجج ضعيفة؛ لأنهم يقصدون إثبات حق وباطل، فلا يقوم على ذلك حجة مطردة /سليمة عن الفساد، بخلاف من اقتصد في قوله وتحرى القول السديد؛ فإن الله يصلح عمله، كما قال تعالى ‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏70، 71‏]‏‏.‏

وفيه من الحق الإشارة إلى الرد على من انتحل مذهب السلف مع الجهل بمقالهم، أو المخالفة لهم بزيادة أو نقصان‏.‏ فتمثيل الله بخلقه والكذب على السلف من الأمور المنكرة، سواء سمى ذلك حشوًا أو لم يسم، وهذا يتناول كثيرًا من غالية المثبتة الذين يروون أحاديث موضوعة في الصفات مثل حديث‏[‏عَرَق الخيل]‏ و‏[‏نزوله عشية عَرَفَة على الجمل الأورق حتى يصافح المشاة ويعانق الركبان‏]‏، و‏[‏تجلّيه لنبيه في الأرض‏]، أو‏[‏رؤيته له على كرسي بين السماء والأرض‏]‏، أو[‏رؤيته إياه في الطواف‏] أو‏ [‏في بعض سكك المدينة‏]‏، إلى غير ذلك من الأحاديث الموضوعة‏.‏

فقد رأيت من ذلك أمورًا من أعظم المنكرات والكفران، وأحضر لي غير واحد من الناس من الأجزاء والكتب ما فيه من ذلك ما هو من الافتراء على الله وعلى رسوله‏.‏ وقد وضع لتلك الأحاديث أسانيد، حتى إن منهم من عمد إلى كتاب صنفه الشيخ أبو الفرج المقدسي، فيما يمتحن به السُّنِّي من البدعي‏.‏ فجعل ذلك الكتاب مما أوحاه الله إلى نبيه ليلة المعراج، وأمره أن يمتحن به الناس، فمن أقرَّ به فهو سني، ومن لم يقر به فهو بدعي، وزادوا فيه على الشيخ أبي الفرج أشياء لم يقلها هو ولا عاقل، والناس المشهورون قد يقول أحدهم من المسائل / والدلائل ما هو حق أو فيه شبهة حق، فإذا أخذ الجهال ذلك فغيروه صار فيه من الضلال ما هو من أعظم الإفك والمحال‏.‏

والمقصود أن كلامه فيه حق وفيه من الباطل أمور‏:‏

أحدها‏:‏ قوله‏:‏ لا يتحاشى من الحشو والتجسيم ذم للناس بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، والذي مدحه زين وذمه شين هو الله‏.‏ والأسماء التي يتعلق بها المدح والذم من الدين، لا تكون إلا من الأسماء التي أنزل الله بها سلطانه، ودل عليها الكتاب والسنة أو الإجماع، كالمؤمن، والكافر والعالم، والجاهل، والمقتصد، والملحد‏.‏

فأما هذه الألفاظ الثلاثة فليست في كتاب الله، ولا في حديث عن رسول الله، ولا نطق بها أحد من سلف الأمة وأئمتها لا نفيًا ولا إثباتًا‏.‏

وأول من ابتدع الذم بها‏[‏المعتزلة‏] ‏الذين فارقوا جماعة المسلمين، فاتباع سبيل المعتزلة دون سبيل سلف الأمة ترك للقول السديد الواجب في الدين، واتباع لسبيل المبتدعة الضالين، وليس فيها ما يوجد عن بعض السلف ذمه إلا لفظ ‏[‏التشبيه]‏، فلو اقتصر عليه لكان له قدوة من السلف الصالح، ولو ذكر الأسماء التي نفاها الله في القرآن ـ مثل لفظ‏ [‏الكفء، والند، والسمى‏] ‏وقال‏:‏ منهم من لا يتحاشى من التمثيل ونحوه ـ لكان قد ذم بقول نفاه الله في كتابه، ودل القرآن على ذم قائله ثم ينظر‏:‏ هل قائله موصوف بما وصفه به من الذم أم لا‏؟‏

/فأما الأسماء التي لم يدل الشرع على ذم أهلها ولا مدحهم، فيحتاج فيها إلى مقامين‏:‏

أحدهما‏:‏ بيان المراد بها‏.‏ والثاني‏:‏ بيان أن أولئك مذمومون في الشريعة‏.‏

والمعترض عليه له أن يمنع المقامين، فيقول‏:‏ لا نسلم أن الذين عنيتهم داخلون في هذه الأسماء التي ذممتها، ولم يقم دليل شرعي على ذمها، وإن دخلوا فيها، فلا نسلم أن كل من دخل في هذه الأسماء فهو مذموم في الشرع‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن هذا الضرب الذي قلت‏:‏‏ [‏إنه لا يتحاشى من الحشو والتشبيه والتجسيم] ‏إما أن تدخل فيه مثبتة الصفات الخبرية التي دل عليها الكتاب والسنة، أو لا تدخلهم، فإن أدخلتهم كنت ذامًا لكل من أثبت الصفات الخبرية، ومعلوم أن هذا مذهب عامة السلف، ومذهب أئمة الدين‏.‏

بل أئمة المتكلمين يثبتون الصفات الخبرية في الجملة، وإن كان لهم فيها طرق كأبي سعيد بن كلاب، وأبي الحسن الأشعري، وأئمة أصحابه،؛ كأبي عبد الله بن مجاهد، وأبي الحسن الباهلي، والقاضي أبي بكر ابن الباقلاني، وأبي إسحاق الإسفرائيني‏ [‏هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهْران الإسفرائيني، الأصولي الشافعي، الملقب ركن الدين، صاحب المصنفات الباهرة، له الجامع في أصول الدين و أدب الجدل و مسائل الدرر وغيرها، توفى بنيسابور سنة 814هـ]‏، وأبي بكر ابن فُورَك، وأبي محمد بن اللبان، وأبي علي ابن شاذان، وأبي القاسم القشيري، وأبي بكر البيهقي، وغير هؤلاء‏.‏ فما من هؤلاء إلا من / يثبت من الصفات الخبرية ما شاء الله ـ تعالى ـ وعماد المذهب عنهم‏:‏ إثبات كل صفة في القرآن، وأما الصفات التي في الحديث، فمنهم من يثبتها ومنهم من لا يثبتها‏.‏

فإذا كنت تذم جميع أهل الإثبات من سلفك وغيرهم، لم يبق معك إلا الجهمية ـ من المعتزلة ـ ومن وافقهم على نفي الصفات الخبرية ـ من متأخري الأشعرية ونحوهم ـ ولم تذكر حجة تعتمد‏.‏

فأي ذم لقوم في أنهم لا يتحاشون مما عليه سلف الأمة وأئمتها وأئمة الذام لهم‏؟‏

وإن لم تدخل في اسم الحشوية من يثبت الصفات الخبرية، لم ينفعك هذا الكلام، بل قد ذكرت أنت في غير هذا الموضع هذا القول‏.‏

وإذا كان الكلام لا يخرج به الإنسان عن أن يذم نفسه، أو يذم سلفه ـ الذين يقر هو بإمامتهم، وأنهم أفضل ممن اتبعهم ـ كان هو المذموم بهذا الذم على التقديرين، وكان له نصيب من الخوارج الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم لأولهم‏:‏ ‏(‏لقد خبت وخسرت، إن لم أعدل‏)‏ يقول‏:‏ إذا كنت مقرًا بأني رسول الله، وأنت تزعم أني أظلم، فأنت خائب خاسر‏.‏ وهكذا من ذم من يقر بأنهم خيار الأمة وأفضلها، وأن طائفته إنما تلقت العلم والإيمان منهم، هوخائب خاسر في هذا الذم، وهذه حال الرافضة في ذم الصحابة‏.‏

/الوجه الثالث‏:‏ قوله‏:‏‏ [‏والآخر يتستر بمذهب السلف]‏، إن أردت بالتستر الاستخفاء بمذهب السلف، فيقال‏:‏ ليس مذهب السلف مما يتستر به إلا في بلاد أهل البدع، مثل بلاد الرافضة والخوارج ،فإن المؤمن المستضعف هناك قد يكتم إيمانه واستنانه، كما كتم مؤمن آل فرعون إيمانه، وكما كان كثير من المؤمنين يكتم إيمانه حين كانوا في دار الحرب‏.‏

فإن كان هؤلاء في بلد أنت لك فيه سلطان ـ وقد تستروا بمذهب السلف ـ فقد ذممت نفسك، حيث كنت من طائفة يستر مذهب السلف عندهم، وإن كنت من المستضعفين المستترين بمذهب السلف فلا معنى لذم نفسك، وإن لم تكن منهم ولا من الملأ، فلا وجه لذم قوم بلفظ التستر‏.‏

وإن أردت بالتستر‏:‏ أنهم يجتنون به، ويتقون به غيرهم، ويتظاهرون به، حتى إذا خوطب أحدهم قال‏:‏ أنا على مذهب السلف ـ وهذا الذي أراده، والله أعلم ـ فيقال له‏:‏ لا عيب على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق؛ فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقًا، فإن كان موافقًا له باطنًا وظاهرًا، فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطنًا وظاهرًا، وإن كان موافقًا له في الظاهر فقط دون الباطن، فهو بمنزلة المنافق فتقبل منه علانيته وتُوكَل سريرته إلى الله، فإنا لم نؤمر أن نُنَقِّب عن قلوب الناس ولا نشق بطونهم‏.‏

/ وأما قوله ‏:‏ مذهب السلف إنما هو التوحيد والتنزيه دون التجسيم والتشبيه‏.‏

فيقال له‏:‏ لفظ التوحيد، والتنزيه، والتشبيه، والتجسيم ألفاظ قد دخلها الاشتراك، بسبب اختلاف اصطلاحات المتكلمين وغيرهم، وكل طائفة تعني بهذه الأسماء ما لا يعنيه غيرهم‏.‏

فالجهمية من المعتزلة وغيرهم يريدون بالتوحيد والتنزيه‏:‏ نفى جميع الصفات، وبالتجسيم والتشبيه‏:‏ إثبات شيء منها، حتى إن من قال‏: [‏إن الله يرى‏]‏، أو ‏[‏إن له علمًا‏]‏، فهو عندهم مشبه مجسم‏.‏

وكثير من المتكلمة الصفاتية يريدون بالتوحيد والتنزيه‏:‏ نفي الصفات الخبرية أو بعضها، وبالتجسيم والتشبيه إثباتها أو بعضها‏.‏

والفلاسفة تعني بالتوحيد ما تعنيه المعتزلة وزيادة، حتى يقولون‏:‏ ليس له إلا صفة سلبية أو إضافية، أو مركبة منهما‏.‏

والاتحادية تعني بالتوحيد‏:‏ أنه هو الوجود المطلق، ولغير هؤلاء فيه اصطلاحات أخرى‏.‏

وأما التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب، فليس هو متضمنًا شيئًا من هذه الاصطلاحات، بل أمر الله عباده أن يعبدوه وحده، لا يشركوا /به شيئًا، فلا يكون لغيره نصيب فيما يختص به من العبادة وتوابعها ـ هذا في العمل‏.‏ وفي القول‏:‏ هو الإيمان بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله‏.‏

فإن كنت تعني أن مذهب السلف هو التوحيد بالمعنى الذي جاء به الكتاب والسنة، فهذا حق، وأهل الصفات الخبرية لا يخالفون هذا‏.‏

وإن عنيت أن مذهب السلف هو التوحيد والتنزيه الذي يعنيه بعض الطوائف، فهذا يعلم بطلانه كل من تأمل أقوال السلف الثابتة عنهم، الموجودة في كتب آثارهم، فليس في كلام أحد من السلف كلمة توافق ما تختص به هذه الطوائف، ولا كلمة تنفي الصفات الخبرية‏.‏

ومن المعلوم أن مذهب السلف إن كان يعرف بالنقل عنهم، فليرجع في ذلك إلى الآثار المنقولة عنهم، وإن كان إنما يعرف بالاستدلال المحض بأن يكون كل من رأى قولاً عنده هو الصواب قال‏:‏ هذا قول السلف؛ لأن السلف لا يقولون إلا الصواب، وهذا هو الصواب، فهذا هو الذي يجرئ المبتدعة على أن يزعم كل منهم أنه على مذهب السلف، فقائل هذا القول قد عاب نفسه بنفسه حيث انتحل مذهب السلف بلا نقل عنهم، بل بدعواه‏:‏ أن قوله هو الحق‏.‏

وأما أهل الحديث، فإنما يذكرون مذهب السلف بالنقول المتواترة،/يذكرون من نقل مذهبهم من علماء الإسلام، وتارة يروون نفس قولهم في هذا الباب، كما سلكناه في جواب الاستفتاء‏.‏

فإنا لما أردنا أن نبين مذهب السلف ذكرنا طريقين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنا ذكرنا ما تيسر من ذكر ألفاظهم، ومن روى ذلك من أهل العلم بالأسانيد المعتبرة‏.‏

والثاني‏:‏ أنا ذكرنا من نقل مذهب السلف من جميع طوائف المسلمين من طوائف الفقهاء الأربعة، ومن أهل الحديث والتصوف، وأهل الكلام، كالأشعري وغيره‏.‏

فصار مذهب السلف منقولاً بإجماع الطوائف وبالتواتر، لم نثبته بمجرد دعوى الإصابة لنا والخطأ لمخالفنا، كما يفعل أهل البدع‏.‏

ثم لفظ[‏التجسيم]‏لا يوجد في كلام أحد من السلف ـ لا نفيًا ولا إثباتًا ـ فكيف يحل أن يقال‏:‏ مذهب السلف نفي التجسيم أو إثباته، بلا ذكر لذلك اللفظ ولا لمعناه عنهم‏؟‏‏!‏‏.‏

وكذلك لفظ ‏[‏التوحيد‏]‏ـ بمعنى‏:‏ نفي شيء من الصفات ـ لايوجد في كلام أحد من السلف‏.‏

وكذلك لفظ التنزيه ـ بمعني نفي شيء من الصفات الخبرية ـ لا يوجد في كلام أحد من السلف‏.‏

/ نعم، لفظ ‏[‏التشبيه] ‏موجود في كلام بعضهم وتفسيره معه، كما قد كتبناه عنهم، وأنهم أرادوا بالتشبيه‏:‏ تمثيل الله بخلقه، دون نفي الصفات التي في القرآن والحديث‏.‏

وأيضًا، فهذا الكلام لو كان حقًا في نفسه لم يكن مذكورًا بحجة تتبع، وإنما هو مجرد دعوى على وجه الخصومة التي لا يعجز عنها من يستجيز ويستحسن أن يتكلم بلا علم ولا عدل‏.‏

ثم إنه يدل على قلة الخبرة بمقالات الناس من أهل السنة والبدعة؛ فإنه قال‏: [‏وكذا جميع المبتدعة يزعمون أنهم على مذهب السلف‏]‏، فليس الأمر كذلك، بل الطوائف المشهورة بالبدعة ـ كالخوارج والروافض ـ لا يدعون أنهم على مذهب السلف، بل هؤلاء يكفرون جمهور السلف‏.‏ فالرافضة تطعن في أبي بكر، وعمر، وعامة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وسائر أئمة الإسلام، فكيف يزعمون أنهم على مذهب السلف‏؟‏ ولكن ينتحلون مذهب أهل البيت كذبًا وافتراء‏.‏

وكذلك الخوارج، قد كَفَّروا عثمان، وعليًا، وجمهور المسلمين من الصحابة والتابعين، فكيف يزعمون أنهم على مذهب السلف‏؟‏

الوجه الرابع‏:‏ أن هذا الاسم ليس له ذكر في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين، ولا من أئمة المسلمين، ولا شيخ أو عالم /مقبول عند عموم الأمة‏.‏ فإذا لم يكن ذلك لم يكن في الذم به لا نص ولا إجماع، ولا ما يصلح تقليده للعامة، فإذا كان الذم بلا مستند للمجتهد ولا للمقلدين عمومًا كان في غاية الفساد والظلم؛ إذ لو ذم به بعض من يصلح لبعض العامة تقليده لم يكن له أن يحتج به؛ إذ المقلد الآخر لمن يصلح له تقليده لا يذم به‏.‏

ثم مثل أبى محمد وأمثاله لم يكن يستحل أن يتكلم في كثير من فروع الفقه بالتقليد، فكيف يجوز له التكلم في أصول الدين بالتقليد‏؟‏

والنكتة‏:‏ أن الذام به إما مجتهد، وإما مقلد‏.‏ أما المجتهد، فلا بد له من نص أو إجماع، أو دليل يستنبط من ذلك، فإن الذم والحمد من الأحكام الشرعية، وقد قدمنا بيان ذلك، وذكرنا أن الحمد والذم، والحب والبغض، والوعد والوعيد، والموالاة والمعاداة، ونحو ذلك من أحكام الدين، لا يصلح إلا بالأسماء التي أنزل الله بها سلطانه، فأما تعليق ذلك بأسماء مبتدعة فلا يجوز، بل ذلك من باب شرع دين لم يأذن به الله، وأنه لابد من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله‏.‏

والمعتزلة ـ أيضًا ـ تفسق من الصحابة والتابعين طوائف، وتطعن في كثير منهم وفيما رَوَوْه من الأحاديث التي تخالف آراءهم وأهواءهم، بل تكفر ـ أيضًا ـ من يخالف أصولهم التي انتحلوها من السلف والخلف، فلهم من الطعن في علماء / السلف وفي علمهم ما ليس لأهل السنة والجماعة، وليس انتحال مذهب السلف من شعائرهم ـ وإن كانوا يقررون خلافة الخلفاء الأربعة، ويعظمون من أئمة الإسلام وجمهورهم ما لا يعظمه أولئك ـ فلهم من القدح في كثير منهم ما ليس هذا موضعه و‏[‏للنظَّام] ‏من القدح في الصحابة ما ليس هذا موضعه‏.‏

وإن كان من أسباب انتقاص هؤلاء المبتدعة للسلف ما حصل في المنتسبين إليهم من نوع تقصير وعدوان، وما كان من بعضهم من أمور اجتهادية الصواب في خلافها ـ فإن ما حصل من ذلك صار فتنة للمخالف لهم ضل به ضلالاً كبيرًا‏.‏

فالمقصود هنا أن المشهورين من الطوائف ـ بين أهل السنة والجماعة ـ العامة بالبدعة ليسوا منتحلين للسلف، بل أشهر الطوائف بالبدعة‏:‏ الرافضة، حتى إن العامة لا تعرف من شعائر البدع إلا الرفض‏.‏ والسني في اصطلاحهم‏:‏ من لا يكون رافضيًا؛ وذلك لأنهم أكثر مخالفة للأحاديث النبوية ولمعاني القرآن، وأكثر قدحًا في سلف الأمة وأئمتها، وطعنًا في جمهور الأمة من جميع الطوائف، فلما كانوا أبعد عن متابعة السلف كانوا أشهر بالبدعة‏.‏

فَعُلِمَ أن شعار أهل البدع هو ترك انتحال اتباع السلف؛ ولهذا قال الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك‏ [‏هو أبو محمد عبدوس بن عبد الله بن محمد بن مالك، الحافظ الكبير، سمع من قتيبة بن سعيد وإسحاق ابن راهويه وغيرهما، وتوفي سنة 282هـ وقيل‏:‏ سنة 283هـ ]‏‏: ‏أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

/ وأما متكلمة أهل الإثبات من الكُلاَّبية، والكُرَّامية، والأشعرية، مع الفقهاء والصوفية، وأهل الحديث، فهؤلاء في الجملة لا يطعنون في السلف، بل قد يوافقونهم في أكثر جمل مقالاتهم، لكن كل من كان بالحديث من هؤلاء أعلم، كان بمذهب السلف أعلم وله أَتْبَع‏.‏ وإنما يوجد تعظيم السلف عند كل طائفة بقدر استنانها، وقلة ابتداعها‏.‏

أما أن يكون انتحال السلف من شعائر أهل البدع، فهذا باطل قطعًا، فإن ذلك غير ممكن إلا حيث يكثر الجهل ويقل العلم‏.‏

يوضح ذلك‏:‏ أن كثيرًا من أصحاب أبي محمد من أتباع أبي الحسن الأشعري يصرحون بمخالفة السلف ـ في مثل مسألة الإيمان، ومسألة تأويل الآيات والأحاديث ـ يقولون‏:‏ مذهب السلف‏:‏ أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وأما المتكلمون من أصحابنا، فمذهبهم كيت وكيت، وكذلك يقولون‏:‏ مذهب السلف‏:‏ أن هذه الآيات والأحاديث الواردة في الصفات لاتتأول، والمتكلمون يريدون تأويلها إما وجوبًا وإما جوازًا ويذكرون الخلاف بين السلف وبين أصحابهم المتكلمين، هذا منطوق ألسنتهم ومسطور كتبهم‏.‏

أفلا عاقل يعتبر، ومغرور يزدجر، أن السلف ثبت عنهم ذلك حتى بتصريح المخالف، ثم يحدث مقالة تخرج عنهم‏؟‏ أليس هذا صريحًا أن السلف كانوا ضالين عن التوحيد والتنزيه، وعلمه المتأخرون‏؟‏‏!‏ وهذا فاسد بضرورة العلم الصحيح والدين المتين‏.‏

/ وأيضًا، فقد ينصر المتكلمون أقوال السلف تارة وأقوال المتكلمين تارة، كما يفعله غير واحد مثل أبي المعالي الجويني، وأبي حامد الغزالي، والرازي وغيرهم، ولازم المذهب الذي ينصرونه تارة أنه هو المعتمد، فلا يثبتون على دين واحد، وتغلب عليهم الشكوك وهذا عادة الله فيمن أعرض عن الكتاب والسنة‏.‏

وتارة يجعلون إخوانهم المتأخرين أحذق‏ [‏أمهر وأعلم‏] ‏وأعلم من السلف، ويقولون‏:‏ طريقة السلف أسلم، وطريقة هؤلاء أعلم وأحكم، فيصفون إخوانهم بالفضيلة في العلم والبيان، والتحقيق والعرفان، والسلف بالنقص في ذلك والتقصير فيه، أو الخطأ والجهل، وغايتهم عندهم‏:‏ أن يقيموا أعذارهم في التقصير والتفريط‏.‏

ولا ريب أن هذا شعبة من الرفض، فإنه وإن لم يكن تكفيرًا للسلف ـ كما يقوله من يقوله من الرافضة والخوارج ـ ولا تفسيقًا لهم ـ كما يقوله من يقوله من المعتزلة والزيدية وغيرهم ـ كان تجهيلاً لهم وتخطئة وتضليلاً، ونسبة لهم إلى الذنوب والمعاصي، وإن لم يكن فسقاً فزَعْمًا‏:‏ أن أهل القرون المفضولة في الشريعة أعلم وأفضل من أهل القرون الفاضلة‏.‏

ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف، أن خير قرون هذه الأمة ـ في الأعمال والأقوال، والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة أن خيرها ـ القرن الأول، ثم / الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل‏.‏ هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على عِلْم، كما قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه‏:‏ من كان منكم مُسْتَنَّا فَلْيَسْتَنَّ بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، أبرّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم‏.‏ وقال غيره‏:‏ عليكم بآثار من سلف فإنهم جاؤوا بما يكفي وما يشفى، ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه‏.‏

هذا، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏‏ (‏لا يأتي زمان إلا والذي بعده شَرٌّ منه حتى تلقوا ربكم‏)‏، فكيف يحدث لنا زمان فيه الخير في أعظم المعلومات وهو معرفة الله تعالى ‏؟‏ هذا لا يكون أبدًا‏.‏

وما أحسن ما قال الشافعي ـ رحمه الله ـ في رسالته‏:‏ هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا‏!‏

وأيضًا، فيقال لهؤلاء الجهمية الكلابية ـ كصاحب هذا الكلام أبي محمد وأمثاله‏:‏ كيف تدعون طريقة السلف، وغاية ما عند السلف‏:‏ أن يكونوا / موافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فإن عامة ما عند السلف من العلم والإيمان، هو ما استفادوه من نبيهم صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد، الذي قال الله فيه‏:‏‏{‏هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏9‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 28،29‏]‏،

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏164‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الشورى52 ،53‏]‏‏.‏

وأبو محمد وأمثاله قد سلكوا مسلك الملاحدة، الذين يقولون‏:‏ إن الرسول لم يبين الحق في باب التوحيد، ولا بين للناس ما هو الأمر عليه في نفسه، بل أظهر للناس خلاف الحق، والحق‏:‏ إما كتمه وإما أنه كان غير عالم به‏.‏

فإن هؤلاء الملاحدة من المتفلسفة، ومن سلك سبيلهم من المخالفين لما جاء به الرسول في الأمور العلمية، كالتوحيد والمعاد وغير ذلك، يقولون‏:‏ إن الرسول أحكم الأمور العملية المتعلقة بالأخلاق والسياسة المنزلية والمدنية، / وأتى بشريعة عملية هي أفضل شرائع العالم، ويعترفون بأنه لم يقرع العالم ناموس أفضل من ناموسه ولا أكمل منه، فإنهم رأوا حسن سياسته للعالم وما أقامه من سنن العدل، ومحاه من الظلم‏.‏

وأما الأمور العلمية التي أخبر بها ـ من صفات الرب وأسمائه وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر والجنة والنار ـ فلما رأوها تخالف ما هم عليه صاروا في الرسول فريقين‏:‏

فغلاتهم يقولون‏:‏ إنه لم يكن يعرف هذه المعارف، وإنما كان كماله في الأمور العملية‏:‏ العبادات والأخلاق، وأما الأمور العلمية، فالفلاسفة أعلم بها منه، بل ومن غيره من الأنبياء‏.‏ وهؤلاء يقولون‏:‏ إن عليًا كان فيلسوفًا، وأنه كان أعلم بالعلميات من الرسول، وأن هارون كان فيلسوفًا، وكان أعلم بالعلميات من موسى‏.‏

وكثير منهم يعظم فرعون، ويسمونه أفلاطون القبطي، ويدعون أن صاحب مدين الذي تزوج موسى ابنته ـ الذي يقول بعض الناس‏:‏ إنه شعيب ـ يقول هؤلاء‏:‏ إنه أفلاطون أستاذ أرسطو، ويقولون‏:‏ إن أرسطو هو الخضر ـ إلى أمثال هذا الكلام الذي فيه من الجهل والضلال ما لا يعلمه إلا ذو الجلال‏.‏

أقل ما فيه جهلهم بتواريخ الأنبياء، فإن أرسطو باتفاقهم كان وزيرًا / للإسكندر بن فيلبس المقدوني، الذي تؤرخ به اليهود والنصارى التاريخ الرومي، وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة ‏.‏

وقد يظنون أن هذا هو‏: ‏‏[‏ذو القرنين‏] المذكور في القرآن، وأن أرسطو كان وزيرًا لذي القرنين، المذكور في القرآن، وهذا جهل‏.‏ فإن هذا الإسكندر بن فيلبس لم يصل إلى بلاد الترك، ولم يبن السَّدّ، وإنما وصل إلى بلاد الفرس‏.‏

وذو القرنين المذكور في القرآن وصل إلى شرق الأرض وغربها، وكان متقدمًا على هذا، يقال‏:‏ إن اسمه الإسكندر بن دارا، وكان موحدًا مؤمنًا، وذاك مشركًا، كان يعبد هو وقومه الكواكب والأصنام، ويعانون السحر، كما كان أرسطو وقومه من اليونان مشركين يعبدون الأصنام، ويعانون السحر، ولهم في ذلك مصنفات، وأخبارهم مشهورة، وآثارهم ظاهرة بذلك، فأين هذا من هذا‏؟‏‏!‏

والمقصود هنا بيان ما يقوله هؤلاء الفلاسفة الباطنية فيما جاء به الرسول‏.‏

والفريق الثاني منهم، يقولون‏:‏ إن الرسول كان يعلم الحق الثابت في نفس الأمر في التوحيد والمعاد، ويعرف أن الرب ليس له صفة ثبوتية، وأنه لا يرى ولا يتكلم، وأن الأفلاك قديمة أزلية لم تزل ولا تزال، وأن الأبدان لا تقوم، وأنه ليس لله ملائكة هم أحياء ناطقون ينزلون بالوحي / من عنده ويصعدون إليه، ولكن يقول بما عليه هؤلاء الباطنية في الباطن، لكن ما كان يمكنه إظهار ذلك للعامة؛ لأن هذا إذا ظهر لم تقبله عقولهم وقلوبهم بل ينكرونه وينفرون منه، فأظهر لهم من التخييل والتمثيل ما ينتفعون به في دينهم، وإن كان في ذلك تلبيس عليهم وتجهيل لهم، واعتقادهم الأمر على خلاف ما هو عليه، لما في ذلك من المصلحة لهم‏.‏

ويجعلون أئمة الباطنية، كبني عبيد بن ميمون القدَّاح الذين ادعوا أنهم من ولد محمد ابن إسماعيل بن جعفر، ولم يكونوا من أولاده، بل كان جدهم يهوديًا ربيبيًا لمجوسي، وأظهروا التشيع‏.‏ ولم يكونوا في الحقيقة على دين واحد من الشيعة لا الإمامية، ولا الزيدية، بل ولا الغالية الذين يعتقدون إلهية علي، أو نبوته، بل كانوا شرًا من هؤلاء كلهم‏.‏

ولهذا كثر تصانيف علماء المسلمين في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وكثر غزو المسلمين لهم‏.‏ وقصصهم معروفة‏.‏ وابن سينا وأهل بيته كانوا من أتباع هؤلاء على عهد حاكمهم المصري؛ ولهذا دخل ابن سينا في الفلسفة‏.‏

وهؤلاء يجعلون محمد بن إسماعيل هو الإمام المكتوم، وأنه نسخ شرع محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، ويقولون‏:‏ إن هؤلاء الإسماعيلية كانوا أئمة معصومين، بل قد يقولون‏:‏ إنهم أفضل من الأنبياء، وقد يقولون‏:‏ إنهم آلهة يعبدون‏.‏

ولهذا أرسل الحاكم غلامه [‏هشتكير] ‏الدرزي إلى وادي تيم الله بن ثعلبة / بالشام، فأضل أهل تلك الناحية وبقاياه فيهم إلى اليوم يقولون بإلهية الحاكم وقد أخرجهم عن دين الإسلام، فلا يرون الصلوات الخمس، و لا صيام شهر رمضان، ولا حج البيت الحرام، ولا تحريم ما حرمه الله ورسوله من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والخمر وغير ذلك‏.‏

وهؤلاء يدعون المستجيب لهم أولاً إلى التشيع، والتزام ما توجبه الرافضة وتحريم ما يحرمونه، ثم بعد هذا ينقلونه درجة بعد درجة حتى ينقلونه في الآخر إلى الانسلاخ من الإسلام، وأن المقصود هو معرفة أسرارهم، وهو العلم الذي به تكمل النفس، كما تقوله الفلاسفة الملاحدة، فمن حصل له هذا العلم وصل إلى الغاية، وسقطت عنه العبادات التي تجب على العامة، كالصلوات الخمس، وصيام رمضان، وحج البيت، وحلت له المحرمات التي لا تحل لغيره‏.‏

فهؤلاء يجعلون الرسول صلى الله عليه وسلم ـ إذا عظموه وقالوا‏:‏ كان كاملاً في العلم ـ من جنس رؤوسهم الملاحدة، وأنه كان يظهر للعامة خلاف ما يبطنه للخاصة‏.‏ وقد بينا من فساد أقوالهم في غير هذا الموضع ما لا يناسبه هذا المقام‏.‏

فإن المقصود هنا أن هؤلاء النفاة للعلو وللصفات الخبرية، كصاحب اللمعة وأمثاله يقولون في الرسول من جنس قول هؤلاء‏:‏ إن الذي أظهره ليس هو الحق الثابت في نفس الأمر؛ لأن ذلك ما كان يمكنه إظهاره للعامة، فإذا / كانوا يقولون هذا في الرسول نفسه فكيف قولهم في أتباعه من سلف الأمة من الصحابة والتابعين‏.‏

ومن كان هذا أصل قوله في الرسول والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كان مخالفًا لهم لا موافقًا، لا سيما إذا أظهر النفي الذي كان الرسول وخواص أصحابه عنده يبطنونه ولا يظهرونه، فإنه يكون مخالفًا لهم أيضًا‏.‏

وهذا المسلك يراه عامة النفاة، كابن رشد الحفيد وغيره‏.‏ وفي كلام أبي حامد الغزالي من هذا قطعة كبيرة‏.‏ وابن عقيل وأمثاله قد يقولون أحيانًا هذا، لكن ابن عقيل الغالب عليه إذا خرج عن السنة أن يميل إلى التجهم والاعتزال في أول أمره، بخلاف آخر ما كان عليه، فقد خرج إلى السنة المحضة‏.‏

وأبو حامد يميل إلى الفلسفة، لكنه أظهرها في قالب التصوف والعبارات الإسلامية؛ ولهذا رد عليه علماء المسلمين، حتى أخص أصحابه أبى بكر بن العربي، فإنه قال‏:‏ شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة، ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر‏.‏ وقد حكي عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كتبه، ورد عليه العلماء المذكورون قبل ‏.

فصــل

ثم قال المعترض‏:‏ قال أبو الفرج ابن الجوزي في الرد على الحنابلة‏:‏ إنهم أثبتوا لله ـ سبحانه ـ عينًا، وصورة، ويمينًا، وشمالاً، ووجهًا زائدًا على الذات، وجبهة، وصدرًا، ويدين، ورجلين، وأصابع، وخنصرًا، وفخذًا، وساقًا، وقدمًا، وجنبًا، وحِقْوًا ‏[الحِقْو‏:‏ هو الكشح والإزار، أو هو معقده] ‏وخلفًا، وأمامًا، وصعودًا، ونزولاً، وهرولة، وعجبًا، لقد كملوا هيئة البدن‏!‏ وقالوا‏:‏ يحمل على ظاهره، وليست بجوارح، ومثل هؤلاء لا يحدثون، فإنهم يكابرون العقول، وكأنهم يحدثون الأطفال‏.‏

قلت‏:‏ الكلام على هذا فيه أنواع‏:‏

الأول‏:‏ بيان مافيه من التعصب بالجهل والظلم قبل الكلام في المسألة العلمية‏.‏

الثاني‏:‏ بيان أنه رد بلا حجة ولا دليل أصلاً‏.‏

الثالث‏:‏ بيان ما فيه من ضعف النقل والعقل‏.‏

أما أولا‏:‏ فإن هذا المصنف الذي نقل منه كلام أبي الفرج لم يصنفه / في الرد على الحنابلة كما ذكر هذا، وإنما رد به ـ فيما ادعاه ـ على بعضهم، وقصد أبا عبد الله بن حامد والقاضي أبا يعلى وشيخه أبا الحسن بن الزاغوني ومن تبعهم، وإلا فجنس الحنابلة لم يتعرض أبو الفرج للرد عليهم، ولا حكى عنهم ما أنكره، بل هو يحتج في مخالفته لهؤلاء بكلام كثير من الحنبلية، كما يذكره من كلام التميميين، مثل‏:‏ رزق الله التميمي‏ [هو أبو محمد عبد الوهاب بن عبد العزيز بن يزيد البغدادي، الشيخ الإمام الواعظ، كان فقيه الحنابلة، ولد سنة 400هـ، وتوفى سنة 488هـ]‏، وأبي الوفا بن عقيل، ورزق الله كان يميل إلى طريقة سلفه، كجده أبي الحسن التميمي، وعمه أبي الفضل التميمي، والشريف أبي علي بن أبي موسى ـ هو صاحب أبي الحسن التميمي ـ وقد ذكر عنه أنه قال‏:‏ لقد خرِئ [تَغَوَّط‏]‏ القاضي أبو يعلى على الحنابلة خَريَةً لا يغسلها الماء‏.‏

وسنتكلم على هذا بما ييسره الله، متحرين للكلام بعلم وعدل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فمازال في الحنبلية من يكون ميله إلى نوع من الإثبات الذي ينفيه طائفة أخرى منهم، ومنهم من يمسك عن النفي والإثبات جميعًا‏.‏ ففيهم جنس التنازع الموجود في سائر الطوائف، لكن نزاعهم في مسائل الدِّق، وأما الأصول الكبار فهم متفقون عليها، ولهذا كانوا أقل الطوائف تنازعًا وافتراقًا، لكثرة اعتصامهم بالسنة والآثار؛ لأن للإمام أحمد في باب أصول الدين من الأقوال المبينة ـ لما تنازع فيه الناس ـ ما ليس لغيره‏.‏ وأقواله مؤيدة بالكتاب والسنة واتباع سبيل السلف الطيب؛ ولهذا كان جميع من ينتحل السنة من طوائف الأمة ـ فقهائها ومتكلمتها وصوفيتها ـ ينتحلونه‏.‏

/ثم قد يتنازع هؤلاء في بعض المسائل، فإن هذا أمر لابد منه في العالم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن هذا لابد من وقوعه، وأنه لما سأل ربه ألا يلقي بأسهم بينهم منع ذلك، فلابد في الطوائف المنتسبة إلى السنة والجماعة من نوع تنازع، لكن لابد فيهم من طائفة تعتصم بالكتاب والسنة، كما أنه لابد أن يكون بين المسلمين تنازع واختلاف، لكنه لا يزال في هذه الأمة طائفة قائمة بالحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة‏.‏

ولهذا لماكان أبو الحسن الأشعري وأصحابه منتسبين إلى السنة والجماعة، كان منتحلاً للإمام أحمد، ذاكرًا أنه مقتد به متبع سبيله‏.‏ وكان بين أعيان أصحابه من الموافقة والمؤالفة لكثير من أصحاب الإمام أحمد ما هو معروف، حتى إن أبا بكر عبد العزيز يذكر من حجج أبي الحسن في كلامه مثل ما يذكر من حجج أصحابه؛ لأنه كان عنده من متكلمة أصحابه‏.‏

وكان من أعظم المائلين إليهم التميميون؛ أبو الحسن التميمي، وابنه، وابن ابنه، ونحوهم، وكان بين أبي الحسن التميمي وبين القاضي أبي بكر ابن الباقلاني من المودة والصحبة ما هو معروف مشهور؛ ولهذا اعتمد الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه الذي صنفه في مناقب الإمام أحمد ـ لما ذكر اعتقاده ـ اعتمد على ما نقله من كلام أبي الفضل عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي‏.‏ وله في هذا الباب مصنف ذكر فيه من اعتقاد أحمد ما فهمه، ولم يذكر فيه ألفاظه، وإنما ذكر جمل الاعتقاد بلفظ نفسه، وجعل يقول‏:‏ ‏[‏وكان أبوعبد الله‏]‏‏.‏وهو بمنزلة من يصنف / كتابًا في الفقه على رأي بعض الأئمة، ويذكر مذهبه بحسب ما فهمه ورآه، وإن كان غيره بمذهب ذلك الإمام أعلم منه بألفاظه وأفهم لمقاصده، فإن الناس في نقل مذاهب الأئمة قد يكونون بمنزلتهم في نقل الشريعة‏.‏ ومن المعلوم أن أحدهم يقول‏:‏ حكم الله كذا، أو حكم الشريعة كذا بحسب ما اعتقده عن صاحب الشريعة، بحسب ما بلغه وفهمه، وإن كان غيره أعلم بأقوال صاحب الشريعة وأعماله وأفهم لمراده‏.‏

فهذا ـ أيضًا ـ من الأمور التي يكثر وجودها في بني آدم؛ ولهذا قد تختلف الرواية في النقل عن الأئمة، كما يختلف بعض أهل الحديث في النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم، فلا يجوز أن يصدر عنه خبران متناقضان في الحقيقة، ولا أمران متناقضان في الحقيقة إلا وأحدهما ناسخ والآخر منسوخ، وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم فليس بمعصوم، فيجوز أن يكون قد قال خبرين متناقضين، وأمرين متناقضين ولم يشعر بالتناقض‏.‏

لكن إذا كان في المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحتاج إلى تمييز ومعرفة ـ وقد تختلف الروايات حتى يكون بعضها أرجح من بعض والناقلون لشريعته بالاستدلال بينهم اختلاف كثير ـ لم يستنكر وقوع نحو من هذا في غيره، بل هو أولى بذلك؛ لأن الله قد ضمن حفظ الذكر الذي أنزله على رسوله، ولم يضمن حفظ ما يؤثر عن غيره؛ لأن ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة هو هدى الله الذي جاء من عند الله، وبه يعرف سبيله وهو حجته على عباده، /فلو وقع فيه ضلال لم يبين لسقطت حجة الله في ذلك، وذهب هداه، وعميت سبيله؛ إذ ليس بعد هذا النبي نبي آخر ينتظر ليبين للناس ما اختلفوا فيه، بل هذا الرسول آخر الرسل، وأمته خير الأمم؛ ولهذا لا يزال فيها طائفة قائمة على الحق بإذن الله، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن أبا الفرج نفسه متناقض في هذا الباب، لم يثبت على قدم النفي ولا على قدم الإثبات، بل له من الكلام في الإثبات نظمًا ونثرًا ما أثبت به كثيرًا من الصفات التي أنكرها في هذا المصنف‏.‏ فهو في هذا الباب مثل كثير من الخائضين في هذا الباب من أنواع الناس يثبتون تارة، وينفون أخرى في مواضع كثيرة من الصفات، كما هو حال أبي الوفاء ابن عقيل وأبي حامد الغزالي‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن باب الإثبات ليس مختصًا بالحنبلية، ولا فيهم من الغلو ما ليس في غيرهم، بل من استقرأ مذاهب الناس وجد في كل طائفة من الغلاة في النفي والإثبات ما لا يوجد مثله في الحنبلية، ووجد من مال منهم إلى نفي باطل أو إثبات باطل، / فإنه لا يسرف إسراف غيرهم من المائلين إلى النفي والإثبات، بل تجد في الطوائف من زيادة النفي الباطل والإثبات الباطل ما لا يوجد مثله في الحنبلية‏.‏ وإنما وقع الاعتداء في النفي والإثبات فيهم مما دب إليهم من غيرهم الذين اعتدوا حدود الله بزيادة في النفي والإثبات؛ إذ أصل السنة مبناها على الاقتصاد والاعتدال دون البغي والاعتداء‏.‏

وكان علم الإمام أحمد وأتباعه، له من الكمال والتمام، على الوجه المشهور بين الخاص والعام،ممن له بالسنة وأهلها نوع إلمام، وأما أهل الجهل والضلال، الذين لا يعرفون ما بعث الله به الرسول، ولا يميزون بين صحيح المنقول وصريح المعقول، وبين الروايات المكذوبة والآراء المضطربة، فأولئك جاهلون قدر الرسول والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين نطق بفضلهم القرآن، فهم بمقادير الأئمة المخالفين لهؤلاء أولى أن يكونوا جاهلين؛ إذ كانوا أشبه بمن شاق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين من أهل العلم والإيمان، وهم في هذه الأحوال إلى الكفر أقرب منهم للإيمان‏.‏

تجد أحدهم يتكلم في أصول الدين وفروعه بكلام مَنْ كأنه لم ينشأ في دار الإسلام، ولاسمع ما عليه أهل العلم والإيمان، ولا عرف حال سلف هذه الأمة، وما أوتوه من كمال العلوم النافعة والأعمال الصالحة، ولا عرف مما بعث الله به نبيه ما يدله على الفرق بين الهدى والضلال، والغي والرشاد‏.‏

/ وتجد وقيعة هؤلاء في‏ [‏أئمة السنة وهداة الأمة] ‏من جنس وقيعة الرافضة ومن معهم من المنافقين في أبي بكر، وعمر، وأعيان المهاجرين والأنصار، ووقيعة اليهود والنصارى ومن تبعهم من منافقي هذه الأمة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقيعة الصابئة والمشركين من الفلاسفة وغيرهم في الأنبياء والمرسلين، وقد ذكر الله في كتابه من كلام الكفار والمنافقين في الأنبياء والمرسلين وأهل العلم والإيمان ما فيه عبرة للمعتبر، وبينة للمستبصر، وموعظة للمتهوك‏ [‏المتحيِّر‏] ‏المتحير‏.‏

وتجد عامة أهل الكلام ومن أعرض عن جادة السلف ـ إلا من عصم الله ـ يعظمون أئمة الاتحاد، بعد تصريحهم في كتبهم بعبارات الاتحاد ، ويتكلفون لها محامل غير ما قصدوه، ولهم في قلوبهم من الإجلال والتعظيم والشهادة بالإمامة والولاية لهم، وأنهم أهل الحقائق، ما الله به عليم‏.‏

هذا ابن عربي يصرح في فصوصه‏:‏ أن الولاية أعظم من النبوة، بل أكمل من الرسالة، ومن كلامه‏:‏

مقام النبوة في برزخ ** فُوَيْقَ الرسول ودون الولي

وبعض أصحابه يتأول ذلك بأن ولاية النبي أفضل من نبوته، وكذلك ولاية الرسول أفضل من رسالته، أو يجعلون ولايته حاله مع الله، ورسالته حاله مع الخلق وهذا من بليغ الجهل‏.‏

فإن الرسول إذا خاطب الخلق، وبلغهم الرسالة لم يفارق الولاية، بل هو ولي / الله في تلك الحال، كما هو ولي الله في سائر أحواله، فإنه ولي الله ليس عدوًا له في شيء من أحواله، وليس حاله في تبليغ الرسالة دون حاله إذا صلى ودعا الله وناجاه‏.‏

وأيضًا، فما يقول هذا المتكلف في قول هذا المعظم‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم لبنة من فضة، وهو لبنتان من ذهب وفضة، ويزعم أن لبنة محمد صلى الله عليه وسلم هي العلم الظاهر، ولبنتاه الذهب‏:‏ علم الباطن، والفضة‏:‏ علم الظاهر، وأنه يتلقى ذلك بلا واسطة، ويصرح في فصوصه‏:‏ أن رتبة الولاية أعظم من رتبة النبوة؛ لأن الولي يأخذ بلا واسطة والنبي بواسطة، فالفضيلة التي زعم أنه امتاز بها على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم عنده مما شاركه فيه‏.‏

وبالجملة، فهو لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم في شيء، فإنه أخذ بزعمه عن الله ما هو متابعه فيه في الظاهر، كما يوافق المجتهد المجتهد والرسول الرسول، فليس عنده من اتباع الرسول والتلقي عنه شيء أصلاً، لا في الحقائق الخبرية، ولا في الحقائق الشرعية‏.‏

وأيضًا، فإنه لم يرض أن يكون معه كموسى مع عيسى، وكالعالم مع العالم في الشرع الذي وافقه فيه، بل ادعى أنه يأخذ ما أقره عليه من الشرع من الله في الباطن، فيكون أخذه للشرع عن الله أعظم من أخذ الرسول‏.‏

/ وأما ما ادعى امتيازه به عنه وافتقار الرسول إليه ـ وهو موضع اللبنة الذهبية ـ فزعم أنه يأخذه عن المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول‏.‏

فهذا كما ترى في حال هذا الرجل، وتعظيم بعض المتأخرين له‏.‏

وصرح الغزالي بأن قتل من ادعي أن رتبة الولاية أعلى من رتبة النبوة، أحب إليه من قتل مائة كافر؛ لأن ضرر هذا في الدين أعظم‏.‏

ولا نطيل الكلام في هذا المقام؛ لأنه ليس المقصود هنا‏.‏

وأيضًا، فأسماء الله وأسماء صفاته عندهم شرعية سمعية، لا تطلق بمجرد الرأي، فهم في الامتناع من هذه الأسماء أحق بالعذر ممن امتنع من تسمية صفاته أعراضًا‏.‏

وذلك أن الصفات التي لنا منها ما هو عرَض كالعلم والقدرة، ومنها ما هو جسم وجوهر قائم بنفسه، كالوجه واليد، وتسمية هذه جوارح وأعضاء أخص من تسميتها أجسامًا؛ لما في ذلك من معنى الاكتساب والانتفاع والتصرف، وجواز التفريق والبعضية‏.‏

/الوجه الرابع‏:‏ أن هذا السؤال لا يختص بهؤلاء، بل إثبات جنس هذه الصفات قد اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، من أهل الفقه والحديث والتصوف والمعرفة وأئمة أهل الكلام من الكُلاَّبيَّة والكُرّامية والأشعرية، كل هؤلاء يثبتون لله صفة الوجه واليد ونحو ذلك‏.‏

وقد ذكر الأشعري في كتاب المقالات أن هذا مذهب أهل الحديث، وقال‏:‏ إنه به يقول‏.‏

فقال في جملة مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث‏:‏ جملة مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث‏:‏ الإقرار بكذا وكذا، وأن الله على عرشه استوى، وأن له يدين بلا كيف، كما قال‏:‏ ‏{‏خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏75‏]‏، وكما قال‏:‏ ‏{‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏64‏]‏، وأن له عينين بلا كيف، كما قال‏:‏ ‏{‏تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏14‏]‏، وأن له وجهًا، كما قال‏:‏ ‏{‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن ‏:‏27‏]

وقد قدمنا فيما تقدم أن جميع أئمة الطوائف هم من أهل الإثبات، وما من شيء ذكره أبو الفرج وغيره مما هو موجود في الحنبلية ـ سواء كان الصواب فيه مع المثبت أو مع النافي، أو كان فيه تفصيل ـ إلا وذلك موجود فيما شاء الله /من أهل الحديث والصوفية، والمالكية، والشافعية، والحنفية ونحوهم، بل هو موجود في الطوائف التي لا تنتحل السنة والجماعة، والحديث، ولا مذهب السلف، مثل الشيعة وغيرهم، ففيهم في طرفي الإثبات والنفي ما لا يوجد في هذه الطوائف‏.‏

وكذلك في أهل الكتابين ـ أهل التوراة والإنجيل ـ توجد هذه المذاهب المتقابلة في النفي والإثبات، وكذلك الصابئة من الفلاسفة وغيرهم لهم تقابل في النفي والإثبات، حتى إن منهم من يثبت ما لا يثبته كثير من متكلمة الصفاتية، ولكن جنس الإثبات على المتبعين للرسل أغلب، من الذين آمنوا واليهود والنصارى والصابئة المهتدين‏.‏ وجنس النفي على غير المتبعين للرسل أغلب، من المشركين والصابئة المبتدعة‏.‏

وقد ذكرنا ـ في غير هذا الجواب ـ مذهب سلف الأمة وأئمتها بألفاظها وألفاظ من نقل ذلك من جميع الطوائف، بحيث لا يبقى لأحد من الطوائف اختصاص بالإثبات‏.‏

ومن ذلك ما ذكره شيخ الحرمين أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي، في كتابه الذي سماه [‏الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول، إلزامًا لذوي البدع والفضول‏]‏، وكان من أئمة الشافعية، ذكر فيه من كلام الشافعي، ومالك، والثوري، وأحمد بن حنبل، والبخاري ـ صاحب الصحيح ـ / وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، والأوزاعي، والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه في أصول السنة ما يعرف به اعتقادهم‏.‏

وذكر في تراجمهم ما فيه تنبيه على مراتبهم ومكانتهم في الإسلام، وذكر أنه اقتصر في النقل عنهم دون غيرهم؛ لأنهم هم المقتدى بهم والمرجوع شرقًا وغربًا إلى مذاهبهم؛ ولأنهم أجمع لشرائط القدوة والإمامة من غيرهم، وأكثر لتحصيل أسبابها وأدواتها، من جودة الحفظ والبصيرة، والفطنة والمعرفة بالكتاب، والسنة، والإجماع والسند والرجال، والأحوال، ولغات العرب، ومواضعها، والتاريخ، والناسخ، والمنسوخ، والمنقول، والمعقول، والصحيح، والمدخول في الصدق، والصلابة، وظهور الأمانة، والديانة، ممن سواهم‏.‏

قال‏:‏ وإن قصر واحد منهم في سبب منها، جبر تقصيره قرب عصره من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، باينوا هؤلاء بهذا المعنى من سواهم، فإن غيرهم من الأئمة ـ وإن كانوا في منصب الإمامة ـ لكن أخلَّوا ببعض ما أشرت إليه مجملاً من شرائطها؛ إذ ليس هذا موضعًا لبيانها‏.‏

قال‏:‏ ووجه ثالث لابد من أن نبين فيه، فنقول‏:‏ إن في النقل عن هؤلاء إلزامًا للحجة على كل من ينتحل مذهب إمام يخالفه في العقيدة، فإن أحدهما لا محالة يضلل صاحبه، أو يبدعه، أو يكفره، فانتحال مذهبه ـ مع مخالفته / له في العقيدة ـ مستنكر ـ والله ـ شرعًا وطبعًا، فمن قال‏:‏ أنا شافعي الشرع، أشعري الاعتقاد، قلنا له ‏:‏ هذا من الأضداد، لا بل من الارتداد؛ إذ لم يكن الشافعي أشعري الاعتقاد‏.‏ ومن قال‏:‏ أنا حنبلي في الفروع، معتزلي في الأصول، قلنا‏:‏ قد ضللت إذًا عن سواء السبيل فيما تزعمه؛ إذ لم يكن أحمد معتزلي الدين والاجتهاد‏.‏

قال‏:‏وقد افتتن ـ أيضًا ـ خلق من المالكية بمذاهب الأشعرية،وهذه ـ والله ـ سُبَّة وعار، وفلتة تعود بالوبال والنكال، وسوء الدار على منتحل مذاهب هؤلاء الأئمة الكبار، فإن مذهبهم ما رويناه‏:‏ من تكفيرهم الجهمية، والمعتزلة والقدرية والواقفية وتكفيرهم اللفظية‏.‏

وبسط الكلام في مسألة اللفظ إلى أن قال‏:‏ فأما غير ما ذكرناه من الأئمة، فلم ينتحل أحد مذهبهم فلذلك لم نتعرض للنقل عنهم‏.‏

قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ فهلا اقتصرتم إذاً على النقل عمن شاع مذهبه وانتحل اختياره من أصحاب الحديث، وهم الأئمة؛ الشافعي، ومالك، والثوري، وأحمد، إذ لا نرى أحدًا ينتحل مذهب الأوزاعي والليث وسائرهم ‏؟‏

قلنا‏:‏ لأن من ذكرناه من الأئمة ـ سوى هؤلاء ـ أرباب المذاهب في الجملة، إذ كانوا قدوة في عصرهم، ثم اندرجت مذاهبهم الآخرة تحت مذاهب الأئمة المعتبرة‏.‏ وذلك أن ابن عيينة كان قدوة، ولكن لم يصنف في / الذي كان يختاره من الأحكام، وإنما صنف أصحابه، وهم الشافعي، وأحمد، وإسحاق، فاندرج مذهبه تحت مذاهبهم‏.‏

وأما الليث بن سعد، فلم يقم أصحابه بمذهبه، قال الشافعي‏:‏ لم يرزق الأصحاب إلا أن قوله يوافق قول مالك أو قول الثوري لا يخطئهما، فاندرج مذهبه تحت مذهبهما‏.‏

وأما الأوزاعي، فلا نرى له في أعم المسائل قولاً إلا ويوافق قول مالك، أو قول الثوري أو قول الشافعي فاندرج اختياره ـ أيضًا ـ تحت اختيار هؤلاء‏.‏ وكذلك اختيار إسحاق يندرج تحت مذهب أحمد لتوافقهما‏.‏

قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ فمن أين وقعت على هذا التفصيل والبيان في اندراج مذاهب هؤلاء تحت مذاهب الأئمة‏؟‏ قلت‏:‏ من التعليقة للشيخ أبي حامد الإسفرائيني، التي هي ديوان الشرائع، وأم البدائع في بيان الأحكام، ومذاهب العلماء الأعلام، وأصول الحجج العظام، في المختلف والمؤتلف‏.‏

قال‏:‏ وأما اختيار أبي زُرْعَة، وأبي حاتم في الصلاة والأحكام ـ مما قرأته وسمعته من مجموعيهما ـ فهو موافق لقول أحمد ومندرج تحته وذلك مشهور‏.‏ وأما البخاري فلم أر له اختيارًا، ولكن سمعت محمد بن طاهر الحافظ يقول‏:‏ استنبط البخاري في الاختيارات مسائل موافقة لمذهب أحمد وإسحاق‏.‏

فلهذه المعاني نقلنا عن الجماعة الذين سميناهم، دون غيرهم؛ إذ هم أرباب / المذاهب في الجملة، ولهم أهلية الاقتداء بهم لحيازتهم شرائط الإمامة، وليس من سواهم في درجتهم، وإن كانوا أئمة كبراء قد ساروا بسيرهم‏.‏

ثم ذكر بعد ذلك الفصل الثاني عشر‏:‏ في ذكر خلاصة تحوي مناصيص الأئمة بعد أن أفرد لكل منهم فصلاً قال‏:‏ لما تتبعت أصول ما صح لي روايته، فعثرت فيها بما قد ذكرت من عقائد الأئمة، فرتبتها عند ذلك على ترتيب الفصول التي أثبتها، وافتتحت كل ‏[‏فصل‏]‏ بنيف من المحامد، يكون لإمامتهم إحدى الشواهد، داعية إلى اتباعهم، ووجوب وفاقهم، و تحريم خلافهم وشقاقهم، فإن اتباع من ذكرناه من الأئمة في الأصول في زماننا بمنزلة اتباع الإجماع الذي يبلغنا عن الصحابة والتابعين؛ إذ لا يسع مسلمًا خلافه، ولا يعذر فيه، فإن الحق لا يخرج عنهم؛ لأنهم الأدلاء، وأرباب مذاهب هذه الأمة، والصدور والسادة، والعلـماء القـادة، أولـو الــدين والــديانة، والصــدق والأمانة، والعــلم الوافر،والاجتهاد الظاهر؛ ولهذا المعنى اقتدوا بهم في الفروع، فجعلوهم فيها وسائل بينهم وبين الله، حتى صاروا أرباب المذاهب في المشارق والمغارب، فليرضوا كذلك بهم في الأصول فيما بينهم وبين ربهم وبما نصوا عليه ودعوا إليه‏.‏

قال‏:‏ فإنا نعلم قطعًا أنهم أعرف قطعًا بما صح من معتقد رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، لجودة معارفهم وحيازتهم شرائط الإمامة، ولقرب عصرهم من الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما بيناه في أول الكتاب‏.‏

/ قال‏:‏ ثم أردت ـ ووافق مرادي سؤال بعض الإخوان ـ أن أذكر خلاصة مناصيصهم متضمنة بعض ألفاظهم، فإنها أقرب إلى الحفظ، وهي اللباب لما ينطوي عليه الكتاب، فاستعنت بمن عليه التكلان، وقلت‏:‏ إن الذي آثرناه من مناصيصهم يجمعه فصلان‏:‏ أحدهما‏:‏ في بيان السنة وفضلها‏.‏ والثاني ‏:‏في هجران البدعة وأهلها‏.‏

أما الفصل الأول‏:‏ فاعلم أن‏ [‏السنة] ‏طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتسنن بسلوكها وإصابتها‏.‏ وهي أقسام ثلاثة ‏:‏أقوال، وأعمال، وعقائد‏.‏ فالأقوال‏:‏ نحو الأذكار والتسبيحات المأثورة‏.‏ والأفعال‏:‏ مثل سنن الصلاة والصيام والصدقات المذكورة، ونحو السير المرضية، والآداب المحكية ، فهذان القسمان في عداد التأكيد والاستحباب، واكتساب الأجر والثواب‏.‏ والقسم الثالث‏:‏ سنة العقائد، وهي من الإيمان إحدى القواعد‏.‏

قال‏:‏ وها أنذا أذكر ـ بعون الله ـ خلاصة ما نقلته عنهم مفرقًا، وأضيف إليه ما دُوِّن في كتب الأصول مما لم يبلغني عنهم مطلقًا، وأرتبها مرشحة، وببعض مناصيصهم موشحة، بأوجز لفظ على قدر وسعي، ليسهل حفظه على من يريد أن يعي، فأقول‏:‏

ليعلم المستن أن سنة العقائد على ثلاثة أضرب‏:‏ ضرب يتعلق بأسماء الله، وذاته، وصفاته، وضرب يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه ومعجزاته، وضرب يتعلق بأهل الإسلام في أولاهم وأخراهم‏.‏

/ أما الضرب الأول‏:‏ فلنعتقد أن لله أسماء وصفات قديمة غير مخلوقة، جاء بها كتابه، وأخبر بها الرسول أصحابه، فيما رواه الثقات، وصححه النقاد الأثبات ودل القرآن المبين، والحديث الصحيح المتين على ثبوتها ‏.‏

قال ـ رحمه الله تعالى ـ وهي أن الله ـ تعالى ـ أول لم يزل، وآخر لا يزال، أحد قديم وصمد كريم، عليم حليم عليٌّ عظيم، رفيع مجـيد وله بطش شديـد، وهـو يبدئ ويعيد، فعال لما يريد، قوي قدير، منيع نصير، ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏11‏]‏، إلى سائر أسمائه وصفاته من النفس، والوجه، والعين، والقدم، واليدين، والعلم، والنظر، والسمع، والبصر، والإرادة، والمشيئة، والرضى، والغضب، والمحبة، والضحك، والعجب، والاستحياء، والغيرة، والكراهة، والسخط، والقبض، والبسط، والقرب، والدنو، والفوقية والعلو، والكلام، والسلام، والقول، والنداء، والتجلي، واللقاء، والنزول، والصعود، والاستواء، وأنه ـ تعالى ـ في السماء، وأنه على عرشه بائن من خلقه‏.‏

قال مالك‏:‏ إن الله في السماء وعلمه في كل مكان، وقال عبد الله بن المبارك‏:‏ نعرف ربنا فوق سبع سمواته على العرش بائنا من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية‏:‏ إنه هاهنا، وأشار إلى الأرض، وقال سفيان الثوري‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏4‏]‏ قال‏:‏ علمه‏.‏ قال الشافعي‏:‏ إنه على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء، قال أحمد‏:‏ إنه مستوٍ على العرش عالم بكل مكان‏.‏ وإنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء، وإنه يأتي يوم القيامة كيف شاء، / وإنه يعلو على كرسيه، والإيمان بالعرش والكرسي، وما ورد فيهما من الآيات والأخبار‏.‏

وأن الكلم الطيب يصعد إليه، وتعرج الملائكة والروح إليه، وأنه خلق آدم بيديه، وخلق القلم وجنة عدن وشجرة طوبى بيديه،وكتب التوراة بيديه، وأن كلتا يديه يمين، وقال ابن عمر‏:‏ خلق الله بيديه أربعة أشياء‏:‏ آدم، والعرش، والقلم، وجنة عدن، وقال لسائر الخلق‏:‏ كن فكان،وأنه يتكلم بالوحي كيف يشاء، قالت عائشة ـ رضي الله عنها‏:‏ لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بِوَحْيٍ يُتْلَى‏.‏

وأن القرآن كلام الله بجميع جهاته منزل غير مخلوق، ولا حَرْفٌ منه مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، قال عبد الله بن المبارك‏:‏ من كفر بحرف من القرآن فقد كفر، ومن قال‏:‏ لا أؤمن بهذه اللام فقد كفر، وأن الكتب المنزلة على الرسل مائة وأربعة كتب كلام الله غير مخلوق، قال أحمد‏:‏ وما في اللوح المحفوظ وما في المصاحف وتلاوة الناس وكيفما يقرأ وكيفما يوصف، فهو كلام الله غير مخلوق، قال البخاري‏:‏ وأقول‏:‏ في المصحف قرآن، وفي صدور الرجال قرآن، فمن قال غير هذا يستتاب، فإن تاب وإلا فسبيله سبيل الكفر‏.‏

قال‏:‏ وذكر الشافعي المعتقد بالدلائل، فقال‏:‏ لله أسماء وصفات جاء بها / كتابه، وأخبر بها نبيه أمته، لا يسع أحدًا من خلق الله قامت عليه الحجة ردها ـ إلى أن قال ـ نحو إخبار الله ـ سبحانه ـ إيانا أنه سميع بصير، وأن له يدين لقوله‏:‏‏{‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ‏}‏‏]‏المائدة‏:‏64‏]‏، وأن له يمينًا بقوله‏:‏ ‏{‏وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏67‏]‏، وأن له وجهًا لقوله‏:‏‏{‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏‏[‏القصص‏:‏88‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 27‏]‏، وأن له قدمًا لقوله‏:‏ ‏(‏حتى يضع الرب فيها قدمه‏)‏‏.‏ يعني‏:‏ جهنم‏.‏

وأنه يضحك من عبده المؤمن لقوله صلى الله عليه وسلم للذي قتل في سبيل الله‏:‏ ‏(‏إنه لقى الله وهو يضحك إليه‏)‏، وأنه يهبط كل ليلة إلى سماء الدنيا لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وأنه ليس بأعور، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر الدجال فقال‏:‏‏(‏إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور‏)‏، وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم،كما يرون القمر ليلة البدر، وأن له إصبعًا لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن‏)‏‏.‏

قال‏:‏ وسوى ما نقله الشافعي أحاديث جاءت في الصحاح والمسانيد، وتلقتها الأمة بالقبول والتصديق، نحو ما في الصحيح من حديث الذات، وقوله‏:‏ ‏(‏لا شخص أغير من الله‏)‏، وقوله‏: ‏‏(‏أتعجبون من غيرة سعد‏؟‏ والله لأنا أغير من سعد، والله أغير مني‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏ليس أحد أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله،من أجل ذلك حرم /الفواحش ما ظهر منها وما بطن‏)‏ ، وقوله‏:‏ ‏(‏يد الله ملأى‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏بيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏إن الله يقبضُ يوم القيامة الأرضين، وتكون السموات بيمينه، ثم يقول‏:‏ أنا الملك‏)‏‏.‏

ونحوه قوله‏:‏ ‏(‏ثلاث حثيات من حثيات الرب‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه‏)‏، وقوله في حديث أبي رزِين‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، فما يفعل ربنا بنا إذا لقيناه‏؟‏ قال‏:‏‏(‏تعرضون عليه بادية له صفحاتكم، لا يخفى عليه منكم خافية، فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء، فينضح قبلكم، فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدكم منها قطرة‏)‏‏.‏ أخرجه أحمد في المسند‏.‏

وحديث‏:‏ القبضة التي يخرج بها من النار قومًا لم يعملوا خيرًا قط، قد عادوا حُمَمًا،فيلقيهم في نهر من أنهار الجنة يقال له‏:‏ نهر الحياة‏.‏‏[‏وقوله حُمَمًا‏:‏ أي مثل الفَحْمَة سوادًا‏]‏.‏

ونحو الحديث‏:‏ ‏(‏رأيت ربي في أحسن صورة‏)‏، ونحو قوله‏:‏‏(‏خلق آدم على صورته‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه‏)‏، وقوله‏: ‏‏(‏كلم أباك كفاحًا‏)‏، وقوله‏:‏‏ (‏ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان يترجم له‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏يتجلى لنا ربنا يوم القيامة ضاحكًا‏)‏

وفي حديث المعراج في الصحيح‏:‏ ‏(‏ثم دنا الجبار رب العزة، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏كتب كتابًا، فهو عنده فوق العرش‏:‏ / إن رحمتي سبقت غضبي‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏لا تزال جهنم يلقي فيها، وتقول‏:‏ هل من مزيد‏؟‏ حتى يضع رب العزة فيها قدمه ـ وفي رواية‏:‏ رجله ـ فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول‏:‏ قَد قَدِ وفي رواية‏:‏ قَطِ قَطِ ـ بعزتك‏)‏‏.‏

ونحو قوله‏:‏ ‏(‏فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول‏:‏ أنا ربكم، فيقولون‏:‏ أنت ربنا‏)‏، وقوله‏: ‏‏(‏يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ‏:‏ أنا الملك، أنا الديان‏)‏‏.‏

إلى غيرها من الأحاديث، هالتنا أو لم تهلنا، بلغتنا أو لم تبلغنا اعتقادنا فيها، وفي الآي الواردة في الصفات‏:‏ أنا نقبلها ولا نحرفها ولا نكيفها ولا نعطلها ولانتأولها، وعلى العقول لا نحملها، وبصفات الخلق لا نشبهها، ولا نُعْمل رأينا وفكرنا فيها، ولا نزيد عليها ولا ننقص منها، بل نؤمن بها ونَكِل علمها إلى عالمها، كما فعل ذلك السلف الصالح، وهم القدوة لنا في كل علم‏.‏

روينا عن إسحاق أنه قال‏:‏ لا نزيل صفة مما وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها الرسول عن جهتها، لا بكلام ولا بإرادة، إنما يلزم المسلم الأداء ويوقن بقلبه أن ما وصف الله به نفسه في القرآن إنما هي صفاته، ولا يعقل نبي مرسل، ولا ملك مقرب تلك الصفات إلا بالأسماء التي عرفهم الرب ـ عز وجل ـ فأما أن يدرك أحد من بني آدم تلك الصفات فلا يدركه أحد ـ الحديث إلى آخره‏.‏

/ وكما روينا عن مالك، والأوزاعي، وسفيان، والليث، وأحمد بن حنبل، أنهم قالوا في الأحاديث في الرؤية والنزول‏:‏ أمِرُّوها كما جاءت‏.‏

وكما روى عن محمد بن الحسن ـ صاحب أبي حنيفة ـ أنه قال في الأحاديث التي جاءت‏:‏ ‏(‏إن الله يهبط إلى السماء الدنيا‏)‏ ونحو هذا من الأحاديث‏:‏ إن هذه الأحاديث قد رواها الثقات، فنحن نرويها ونؤمن بها، ولا نفسرها‏.‏ انتهى كلام الكرجي ـ رحمه الله تعالى‏.‏

والعجب أن هؤلاء المتكلمين، إذا احتج عليهم بما في الآيات والأحاديث من الصفات قال‏:‏ قالت الحنابلة‏:‏ إن الله، كذا وكذا، بما فيه تشنيع وترويج لباطلهم، والحنابلة اقتفوا أثر السلف، وساروا بسيرهم، ووقفوا بوقوفهم، بخلاف غيرهم، والله الموفق‏.‏

النوع الثاني‏:‏ أن هذا الكلام ليس فيه من الحجة والدليل ما يستحق أن يخاطب به أهل العلم، فإن الرد بمجرد الشتم والتهويل لا يعجز عنه أحد، والإنسان لو أنه يناظر المشركين، وأهل الكتاب، لكان عليه أن يذكر من الحجة ما يبين به الحق الذي معه، والباطل الذي معهم، فقد قال الله ـ عز وجل ـ لنبيه / صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏\{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏125‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏46‏]‏‏.‏

فلو كان خصم من يتكلم بهذا الكلام ـ سواء كان المتكلم به أبو الفرج أو غيره، من أشهر الطوائف بالبدع كالرافضة ـ لكان ينبغي أن يذكر الحجة، ويعدل عما لا فائدة فيه؛ إذ كان في مقام الرد عليهم، دع والمنازعون له ـ كما ادعاه ـ هم عند جميع الناس أعلم منه بالأصول والفروع‏.‏ وهو في كلامه ورده لم يأت بحجة أصلاً لا حجة سمعية، ولا عقلية ـ وإنما اعتمد تقليد طائفة من أهل الكلام ـ قد خالفها أكثر منها من أهل الكلام ـ فقلدهم فيما زعموا أنه حجة عقلية، كما فعل هذا المعترض‏.‏

ومن يرد على الناس بالمعقول إن لم يبين حجة عقلية، وإلا كان قد أحال الناس على المجهولات، كمعصوم الرافضة، وغوث الصوفية‏.‏

فأما قوله‏:‏ إن مثل هؤلاء لا يحدثون، فيقال له‏:‏ قد بعث الله الرسل إلى جميع الخلق ليدعوهم إلى الله، فمن الذي أسقط الله مخاطبته من الناس ‏؟‏ دع من تعرف أنت وغيرك ممن فضلهم الله ما ليس هذا موضعه،ولو أراد سفيه أن يرد على الراد بمثل رده لم يعجز عن ذلك‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ إنهم يكابرون العقول‏.‏ فنقول‏:‏ المكابرة للعقول / إما أن تكون في إثبات ما أثبتوه، وإما أن تكون في تناقضهم بجمع من إثبات هذه الأمور ونفي الجوارح‏.‏

أما الأول‏:‏ فباطل؛ فإن المجسمة المحضة التي تصرح بالتجسيم المحض، وتغلو فيه لم يقل أحد قط‏:‏ إن قولها مكابرة للعقول، ولا قال أحد‏:‏ إنهم لا يخاطبون، بل الذين ردوا على غالية المجسمة ـ مثل هشام بن الحكم وشيعته ـ لم يردوا عليهم من الحجج العقلية إلا بحجج تحتاج إلى نظر واستدلال، والمنازع لهم ـ وإن كان مبطلاً في كثير مما يقوله ـ فقد قابلهم بنظير حججهم، ولم يكونوا عليه بأظهر منه عليهم، إذ مع كل طائفة حق وباطل‏.‏

وإذا كان مثل أبي الفرج ابن الجوزي إنما يعتمد في نفي هذه الأمور على ما يذكره نفاة النظار، فأولئك لا يكادون يزعمون في شيء من النفي والإثبات أنه مكابرة للمعقول، حتى جاحدوا الصانع، الذين هم أجهل الخلق وأضلهم وأكفرهم، وأعظمهم خلافًا للعقول ـ لا يزعم أكثر هؤلاء الذين انتصر بهم أبو الفرج‏:‏ أن قولهم مكابرة للعقول، بل يزعمون أن العلم بفساد قولهم إنما يعلم بالنظر والاستدلال‏.‏

وهذا القول ـ وإن كان يقوله جل هؤلاء النفاة من أهل الكلام، فليس هو طريقة مرضية، لكن المقصود‏:‏ أن هؤلاء النفاة لا يزعمون أن العلم بفساد / قول المثبتة معلوم بالضرورة ولا أن قولهم مكابرة للعقل، وإن شنعوا عليهم بأشياء ينفر عنها كثير من الناس، فذاك ليستعينوا بنفرة النافرين على دفعهم، وإخماد قولهم، لا لأن نفور النافرين عنهم يدل على حقٍّ أو باطل، ولا لأن قولهم مكابرة للعقل، أو معلوم بضرورة العقل، أو ببديهته فساده‏.‏ هذا لم أعلم أحدًا من أئمة النفاة ـ أهل النظر ـ يدعيه في شيء من أقواله المثبتة، وإن كان فيها من الغلو ما فيها‏.‏

ومن المعلوم أن مجرد نفور النافرين، أو محبة الموافقين، لا يدل على صحة قول ولا فساده إلا إذا كان ذلك بهدى من الله، بل الاستدلال بذلك هو استدلال باتباع الهوى بغير هدى من الله‏.‏ فإن اتباع الإنسان لما يهواه هو أخذ القول والفعل الذي يحبه، ورد القول والفعل الذي يبغضه بلا هدى من الله‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏119‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏50‏]‏ وقال تعالى لداود‏:‏ ‏{‏وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏‏[‏ص‏:‏26‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏150‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏77‏]‏،

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليهود وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏120‏]‏‏.‏

فمن اتبع أهواء الناس بعد العلم الذي بعث الله به رسوله وبعد هدى الله الذي بينه لعباده، فهو بهذه المثابة؛ ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع والتفرق ـ المخالفين للكتاب والسنة ـ أهل الأهواء، حيث قبلوا ما أحبوه، وردوا ما أبغضوه بأهوائهم بغير هدى من الله‏.‏

وأما قول المعترض عن أبى الفرج‏:‏ ـ وكأنهم يخاطبون الأطفال ـ فلم تخاطب الحنابلة إلا بما ورد عن الله ورسوله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، الذين هم أعرف بالله وأحكامه، وسلمنا لهم أمر الشريعة، وهم قدوتنا فيما أخبروا عن الله وشرعه، وقد أنصف من أحال عليهم، وقد شاقق من خرج عن طريقتهم، وادعى أن غيرهم أعلم بالله منهم، أو أنهم علموا وكتموا، وأنهم لم يفهموا ما أخبروا به، أو أن عقل غيرهم في ‏[‏باب معرفة الله‏]‏ أتم، وأكمل، وأعلم مما نقلوه، وعقلوه، وقد قدمنا ما فيه كفاية في هذا الباب، والله الموفق، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور‏.‏

قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله وقدس سره‏:‏

فصــل

الأقوال نوعان‏:‏

أقوال ثابتة عن الأنبياء، فهي معصومة، يجب أن يكون معناها حقًا، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، و البحث عنها إنما هو عما أرادته الأنبياء، فمن كان مقصوده معرفة مرادهم من الوجه الذي يعرف مرادهم فقد سلك طريق الهدى، ومن قصد أن يجعل ما قالوه تبعًا له، فإن وافقه قبله وإلا رده، وتكلف له من التحريف ما يسميه تأويلاً، مع أنه يعلم بالضرورة أن كثيرًا من ذلك أو أكثره لم ترده الأنبياء، فهو محرف للكلم عن مواضعه، لا طالبٌ لمعرفة التأويل الذي يعرفه الراسخون في العلم‏.‏

النوع الثاني‏:‏ ما ليس منقولاً عن الأنبياء، فمن سواهم ليس معصومًا، فلا يقبل كلامه ولا يرد إلا بعد تصور مراده،و معرفة صلاحه من فساده، / فمن قال من أهل الكلام‏:‏إنه لا يفعل الأشياء بالأسباب، بل يفعل عندها لا بها، ولا يفعل لحكمة، ولا في الأفعال المأمور بها ما لأجله كانت حسنة، ولا المنهي عنها ما لأجله كانت سيئة، فهذا مخالف لنصوص القرآن والسنة وإجماع الأمة من السلف‏.‏

وأول من قاله في الإسلام جهم بن صفوان الذي أجمع الأمة على ضلالته، فإنه أول من أنكر الأسباب والطبائع، كما أنه أول من ظهر عنه القول بنفي الصفات، وأول من قال بخلق كلام الله وإنكار رؤيته في الآخرة‏.‏

ونصوص الكتاب والسنة في إبطال هذا كثيرة جدًا كقوله‏:‏ ‏{‏قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏69‏]‏، فسلب النار طبيعتها، وقوله‏:‏ ‏{‏لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏15‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏57‏]‏، فأخبر أن الرياح تقل السحاب، أي تحمله، فجعل هذا الجماد فاعلاً بطبعه، وقال‏:‏ ‏{‏اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏5‏]‏، فجعلها فاعلة بطبعها، وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏10‏]‏ وهو الكثير المنفعة، والزوج‏:‏ الصنف‏.‏

والأدلة في ذلك كثيرة، يخبر فيها أنه يخلق بالأسباب والحكم، وأخبر أنه قائم بالقسط، وأنه لا يظلم الناس شيئًا، فلا يضع شيئًا في غير موضعه، ولا يسوي بين مختلفين، ولا يفرق بين متماثلين، كما قال‏:‏ ‏{‏أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏الجاثية‏:‏21‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ‏}‏ الآية ‏[‏ص‏:‏28‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ‏}‏ الآية ‏[‏القلم‏:‏35‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ‏}‏الآية ‏[‏فاطر‏:‏19، 20‏]‏ وغيرها كثير‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏:‏157‏]‏، فدلت هذه الآية وغيرها على أن ما أمرهم به هو معروف في نفسه تعرفه القلوب، فهو مناسب لها مصلح لفسادها، وليس معنى كونه معروفًا أنه مأمور به؛ إذ هذا قدر مشترك، فعلم أن ما يأمر به الرسول مختص، وما نهى عنه مختص بأنه منكر محذور، وما يحله مختص بأنه طيب، وما يحرمه مختص بأنه خبيث، ومثل هذا كثير في القرآن وغيره من الكتب، كالتوراة والإنجيل، والزبور، والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.‏

/  قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى‏:‏

الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهيته قاعدة عظيمة عامة، وتمامها بالجواب عما يعارضها‏.‏

فإن من الناس من يقول‏:‏ البدع تنقسم إلى قسمين؛ لقول عمر‏:‏ نعمت البدعة، وبأشياء أحدثت بعده صلى الله عليه وسلم، وليست مكروهة؛ للأدلة من الإجماع والقياس‏.‏

وربما ضم إلى ذلك من لم يحكم أصول العلم ما عليه كثير من الناس من العادة، بمنزلة من إذا قيل لهم‏:‏ ‏{‏تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏104‏]‏

وما أكثر من يحتج به من المنتسبين إلى علم أو عبادة، بحجج ليست من أصول العلم، وقد يبدي ذوو العلم له مستندًا من الأدلة الشرعية، والله يعلم أن قوله لها وعمله بها ليس مستندًا إلى ذلك؛ وإنما يذكرها دفعًا لمن يناظره‏.‏

والمجادلة المحمودة إنما هي إبداء المدارك التي هي مستند الأقوال والأعمال،/وأما إظهار غير ذلك فنوع من النفاق في العلم والعمل، وهذه قاعدة دلت عليها السنة والإجماع مع الكتاب، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏21‏]‏‏.‏

فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو فعله، من غير أن يشرعه الله، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك، فقد اتخذ شريكًا لله شرع في الدين ما لم يأذن به الله، وقد يغفر له لأجل تأويل إذا كان مجتهدًا، الاجتهاد الذي يعفى معه عن المخطئ، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏31‏]‏‏.‏

فمن أطاع أحدًا في دين لم يأذن الله به ـ من تحليل، أو تحريم، أو استحباب، أو إيجاب ـ فقد لحقه من هذا الذم نصيب، كما يلحق الآمر الناهي‏.‏ ثم قد يكون كل منهما معفوًا عنه‏.‏ فيتخلف الذم لفوات شرطه، أو وجود مانعه، وإن كان المقتضى له قائمًا، ويلحق الذم من تبين له الحق، فتركه أو قصر في طلبه فلم يتبين له، أو أعرض عن طلبه، لهوى أو كسل ونحو ذلك‏.‏

وأيضًا، فإن الله عاب على المشركين شيئين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم أشركوا به ما لم ينزل به سلطانًا‏.‏

الثاني‏:‏ تحريمهم ما لم يحرمه الله، كما بينه صلى الله عليه وسلم في حديث / عياض عن مسلم، وقال‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏148‏]‏ فجمعوا بين الشرك والتحريم، والشرك يدخل فيه كل عبادة لم يأذن الله بها، فإن المشركين يزعمون أن عبادتهم إما واجبة، وإما مستحبة‏.‏ ثم منهم من عبد غير الله؛ ليتقرب به إلى الله، ومنهم من ابتدع دينا عبد به الله، كما أحدثت النصارى من العبادات‏.‏

وأصل الضلال في أهل الأرض إنما نشأ من هذين، إما اتخاذ دين لم يشرعه الله، أو تحريم ما لم يحرمه‏.‏

ولهذا كان الأصل الذي بنى عليه أحمد وغيره مذاهبهم، أن الأعمال عبادات وعادات، فالأصل في العبادات لا يشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات لا يحظر منها إلا ما حظره الله، وهذه المواسم المحدثة إنما نهي عنها لما أحدث فيها من الدين الذي يتقرب به‏.‏

/  سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ قدس الله روحه ـ عن رجل قال‏:‏

إذا كان المسلمون مقلدين، والنصارى مقلدين، واليهود مقلدين، فكيف وجه الرد على النصارى واليهود، وإبطال مذهبهم والحالة هذه‏؟‏ وما الدليل القاطع على تحقيق حق المسلمين، وإبطال باطل الكافرين‏؟‏

فأجاب ـ رضي الله عنه‏:‏

الحمد لله، هذا القائل كاذب ضال في هذا القول، وذلك أن التقليد المذموم هو قبول قول الغير بغير حجة، كالذين ذكر الله عنهم أنهم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏170‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 69، 70‏]‏، ونظائر هذا في القرآن كثير‏.‏

فمن اتبع دين آبائه وأسلافه لأجل العادة التي تعودها، وترك اتباع الحق / الذي يجب اتباعه، فهذا هو المقلد المذموم، وهذه حال اليهود والنصارى، بل أهل البدع والأهواء في هذه الأمة، الذين اتبعوا شيوخهم ورؤساءهم في غير الحق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏66ـ 86‏]‏،

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏خَذُولًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏27ـ 29‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏166، 167‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ‏}‏ إلى قوله‏:‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ‏}‏‏[‏غافر‏:‏47، 48‏]‏ وأمثال ذلك مما فيه بيان أن من أطاع مخلوقًا في معصية الله، كان له نصيب من هذا الذم والعقاب‏.‏

والمطيع للمخلوق في معصية الله ورسوله، إما أن يتبع الظن، وإما أن يتبع ما يهواه، وكثير يتبعهما‏.‏

وهذه حال كل من عصى رسول الله من المشركين وأهل الكتاب، من اليهود والنصارى، ومن أهل البدع والفجور من هذه الأمة، كما قال تعالى‏:‏ /‏{‏إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى}‏[‏‏‏النجم‏:‏23‏]‏، والسلطان‏:‏ هو الكتاب المنزل من عند الله وهو الهدى الذي جاءهم من عند الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏35‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بِبَالِغِيهِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏65‏]‏‏.‏

وقال لبني آدم‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏123ـ127‏]‏‏.‏

وبيان ذلك‏:‏ أن الشخص إما أن يبين له أن ما بعث الله به رسوله حق، ويعدل عن ذلك إلى اتباع هواه، أو يحسب أن ما هو عليه من ترك ذلك هو الحق، فهذا متبع للظن، والأول متبع لهواه‏.‏‏.‏‏.‏ اجتماع الأمرين‏:‏ قال تعالى في صفة الأولين‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏33‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏14‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏146‏]‏.‏

وقال تعالى في صفة الأخسرين‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا‏}‏/الآية ‏[‏الكهف‏:‏ 103‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء‏}‏‏[‏فاطر‏:‏8‏]‏‏.‏

فالأول‏:‏ حال المغضوب عليهم، الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه، كما هو موجود في اليهود‏.‏

والثاني‏:‏ حال الذين يعملون بغير علم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏119‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏50‏]‏‏.‏

وكل من يخالف الرسل هو مقلد متبع لمن لا يجوز له اتباعه، وكذلك من اتبع الرسول بغير بصيرة ولا تبين، وهو الذي يسلم بظاهره من غير أن يدخل الإيمان إلى قلبه، كالذي يقال له في القبر‏:‏ من ربك ‏؟‏ وما دينك‏؟‏ وما نبيك‏؟‏‏.‏ فيقول‏:‏ هاه، هاه، لا أدري‏.‏ سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته ـ هو مقلد ـ فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق، أي‏:‏ لمات‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏14‏]‏‏.‏ فمن لم يدخل الإيمان في قلبه وكان مسلمًا في الظاهر، فهو من المقلدين المذمومين‏.‏

فإذا تبين أن المقلد مذموم ـ وهو من اتبع هوى من لا يجوز اتباعه ـ كالذي يترك طاعات رسل الله، ويتبع ساداته وكبراءه، أو يتبع الرسول ظاهرًا / من غير إيمان في قلبه،تبين أن اليهود والنصارى كلهم مقلدون تقليدًا مذمومًا، وكذلك المنافقون من هذه الأمة‏.‏

وأما أهل البدع، ففيهم بر وفجور، وبيان ذلك من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن اليهود والنصارى الذين يزعمون أنهم يتبعون موسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم، إنما يتبعونهم لأجل أنهم رسل الله، وما من طريق تثبت بها نبوة موسى وعيسى إلا ومحمد صلىالله عليه وسلم  أولى وأحرى‏.‏

مثال ذلك‏:‏ إذا قال اليهود والنصارى‏:‏ قد ثبت بالنقل المتواتر أن موسى وعيسى ـ مع دعواه النبوة ـ ظهرت على يديه الآيات الدالة على صدقه، وأنه جاء من الدين والشريعة ما يعلم أنه لم يجئ به مفتر كذاب ـ ظهرت على يديه الآيات الدالة على صدقه ـ وإنما يجىء به مع دعوى النبوة نبي صادق‏.‏ قيل له‏:‏ كل من هاتين الطريقتين دليل يثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى‏.‏

فإنه من المعلوم أن الذين نقلوا ما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الدين والشريعة، ونقلوا ما جاء به من الآيات المعجزات، أعظم من الذين نقلوا مثل ذلك عن موسى وعيسى، وما جاء به من هذين النوعين أعظم مما جاء به موسى وعيسى، بل من نظر بعقله في هذا الوقت إلى ما عند المسلمين من العلم النافع، والعمل الصالح وما عند اليهود والنصارى، علم أن بينهما / من الفرق أعظم مما بين العَرَم [‏العَرَم‏:‏ اللحم‏.‏ يقال‏:‏ إن جزوركم لطيب العَرَمَةَ، أي‏:‏ طيب اللحم‏] ‏والعِرْق‏.‏

فإن الذى عند المسلمين، من توحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته، وملائكته وأنبيائه ورسله، ومعرفة اليوم الآخر، وصفة الجنة والنار، والثواب والعقاب، والوعد والوعيد، أعظم وأجل بكثير مما عند اليهود والنصارى، وهذا بين لكل من يبحث عن ذلك‏.‏

وما عند المسلمين من العبادات الظاهرة والباطنة مثل‏:‏ الصلوات الخمس، وغيرها من الصلوات، والأذكار والدعوات، أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب، وما عندهم من الشريعة في المعاملات، والمناكحات والأحكام والحدود والعقوبات، أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب‏.‏

فالمسلمون فوقهم في كل علم نافع، وعمل صالح، وهذا يظهر لكل أحد بأدنى نظر، لا يحتاج إلى كثير سعى‏.‏

والمسلمون متفقون على أن كل هدى وخير يحصل لهم، فإنما حصل بنبيهم صلى الله عليه وسلم، فكيف يمكن مع هذا أن يكون موسى وعيسى نبيين، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس بنبي، وأن اليهود والنصارى على الحق‏؟‏‏!‏

/ فما هم عليه من الهدى ودين الحق، أعظم مما عند اليهود والنصارى، وذلك إنما تلقوه من نبيهم‏.‏

وهذا القدر يعترف به كل عاقل ـ من اليهود والنصارى ـ يعترفون بأن دين المسلمين حق، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من أطاعه منهم دخل الجنة، بل يعترفون بأن دين الإسلام خير من دينهم، كما أطبقت على ذلك الفلاسفة، كما قال ابن سينا وغيره‏:‏ أجمع فلاسفة العالم على أنه لا يقرع العالم ناموس أعظم من هذا الناموس، لكن من لم يتبعه يعلل نفسه بأنه لا يجب عليه اتباعه؛ لأنه رسول إلى العرب الأميين دون أهل الكتاب؛ لأنه إن كان دينه حقًا فديننا أيضًا حق، والطريق إلى الله ـ تعالى ـ متنوعة، ويشبهون ذلك بمذاهب الأئمة، فإنه وإن كان أحد المذاهب يرجح على الآخر، فأهل المذاهب الأخرى ليسوا كفارًا ولا من أهل الكتاب‏.‏

هذه الشبهة التي يضل بها المتكايسون[المتظرفون، يقال‏:‏ تَكَيَّسَ الرجل‏:‏ إذا تَظَرَّف‏] ‏من أهل الكتاب، والمتفلسفة ونحوهم، وبطلانها ظاهر، فإنه كما علم علمًا ضروريًا متواترًا أنه دعا المشركين إلى الإيمان، فقد علم بمثل ذلك أنه دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به، وأنه جاهد أهل الكتاب كما جاهد المشركين، فجاهد بني قينقاع، وبني النضير، وقريظة، وأهل خيبر، وهؤلاء كلهم يهود، وسبى ذريتهم ونساءهم وغنم أموالهم، وأنه غزا النصارى عام تبوك بنفسه وبسراياه، حتى قتل في محاربتهم زيد بن محمد / مولاه الذي كان تبناه، وجعفر وغيرهما من أهله، وأنه ضرب الجزية على نصارى نجران‏.‏

وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده،جاهدوا أهل الكتاب، وقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أعطاها منهم عن يد وهم صاغرون‏.‏

وهذا القرآن الذي يعرف كل أحد أنه الكتاب الذي جاء به، مملوء من دعوة أهل الكتاب إلى اتباعه، ويكفر من لم يتبعه منهم، ويذمه ويلعنه، والوعيد له، كما في تكفير من لم يتبعه من المشركين وذمه، والوعيد كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم‏}‏الآية ‏[‏النساء‏:‏47‏]‏، وفي القرآن من قوله‏:‏ يا أهل الكتاب، يا بني إسرائيل، ما لا يحصي إلا بكلفة‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ‏}‏ الآية إلى قوله‏:‏ ‏{‏خَيْرُ الْبَرِيَّةِ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1ـ7‏]‏‏.‏ ومثل هذا في القرآن كثير جدًا‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏28‏]‏‏.‏

واستفاض عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فُضِّلْتُ على الأنبياء بخمس‏)‏ ذكر فيها أنه قال‏:‏‏(‏كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة‏)‏‏.‏ بل تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى الجن والإنس، فإذا علم بالاضطرار بالنقل المتواتر ـ الذي تواتر كما تواتر ظهور دعوته ـ أنه دعا أهل الكتاب إلى / الإيمان به، وأنه حكم بكفر من لم يؤمن به منهم، وأنه أمر بقتالهم حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون،وأنه قاتلهم بنفسه وسراياه وأنه ضرب الجزية عليهم، وقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وغنم أموالهم، فحاصر بني قينقاع، ثم أجلاهم إلى أذْرِعَات ‏]‏ بلد في أطراف الشام‏]‏، وحاصر بني النضير، ثم أجلاهم إلى خيبر، وفي ذلك أنزل الله سورة الحشر‏.‏

ثم حاصر بني قريظة لما نقضوا العهد، وقتل رجالهم، وسبى حريمهم، وأخذ أموالهم، وقد ذكره الله ـ تعالى ـ في سورة الأحزاب، وقاتل أهل خيبر حتي فتحها، وقتل من قتل من رجالهم، وسبى من سبى من حريمهم، وقسم أرضهم بين المؤمنين، وقد ذكرها الله ـ تعالى ـ في سورة الفتح، وضرب الجزية على النصارى، وفيهم أنزل الله سورة آل عمران، وغزا النصارى عام تبوك، وفيها أنزل الله سورة براءة‏.‏

وفي عامة السور المدنية، مثل البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وغير ذلك من السور المدنية، من دعوة أهل الكتاب، وخطابهم، ما لا تتسع هذه الفتوى لِعُشْرِهِ‏.‏

ثم خلفاؤه بعده أبو بكر وعمر، ومن معهما من المهاجرين والأنصار، الذي يعلم أنهم كانوا أتبع الناس له، وأطوعهم لأمره، وأحفظهم لعهده، وقد غزوا الروم كما غزوا فارس، وقاتلوا أهل الكتاب كما قاتلوا المجوس، فقاتلوا من قاتلهم، وضربوا الجزية على من أداها منهم عن يد وهم صاغرون‏.‏

/ ومن الأحاديث الصحيحة عنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده، لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار‏)‏‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏تصديق ذلك في كتاب الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏17‏]‏، ومعنى الحديث متواتر عنه، معلوم بالاضطرار، فإذا كان الأمر كذلك، لزم بأنه رسول الله إلى كل الطوائف، فإنه يقرر بأنه رسول الله إلى أهل الكتاب وغيرهم، فإن رسول الله لا يكذب، ولا يقاتل الناس على طاعته بغير أمر الله، ولا يستحل دماءهم، وأموالهم، وديارهم بغير إذن الله‏.‏

فمن قال‏:‏ إن الله أمره بذلك وفعله، ولم يكن الله أمره بذلك، كان كاذبًا مفتريًا ظالمًا‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 93‏]‏ وكان مع كونه ظالمًا مفتريًا، من أعظم المريدين علوا في الأرض وفسادًا، وكان أشر من الملوك الجبابرة الظالمين، فإن الملوك الجبابرة الذين يقاتلون الناس على طاعتهم، لا يقولون إنا رسل الله إليكم، ومن أطاعنا دخل الجنة، ومن عصانا دخل النار، بل فرعون وأمثاله لا يدخلون في مثل هذا، ولا يدخل في هذا إلا نبي صادق، أو متنبئ كذاب، كمسيلمة والأسود وأمثالهما‏.‏

فإذا علم أنه نبي كيفما كان، لزم أن يكون ما أخبر به عن الله حقًا، وإذا كان رسول الله وجبت طاعته في كل ما يأمر به، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏64‏]‏ وإذا أخبر أنه رسول الله إلى أهل الكتاب، /وأنه تجب عليهم طاعته، كان ذلك حقًا؛ ومن أقر بأنه رسول الله، وأنكر أن يكون مرسلاً إلى أهل الكتاب، بمنزلة من يقول‏:‏ إن موسى كان رسولاً، ولم يكن يجب أن يدخل أرض الشام، ولا يخرج بني إسرائيل من مصر، وأن الله لم يأمره بذلك، وأن الله لم يأمره بالسبت، ولا أنزل عليه التوراة، ولا كلمه على الطور، ومن يقول‏:‏ إن عيسى كان رسول الله، لم يبعث إلى بني إسرائيل، ولا كان يجب على بني إسرائيل طاعته، وأنه ظلم اليهود، وأمثال ذلك من المقالات، التي هي أكفر المقالات‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏150ـ152‏]‏، وقال لبني إسرائيل‏:‏ ‏{‏أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏85‏]‏‏.‏

فهذه الطريقة الواضحة البينة القاطعة، يبين بها لكل مسلم ويهودي ونصراني أن دين المسلمين هو الحق، دون اليهود والنصارى، فإنها مبنية على مقدمتين‏:‏

إحداهما‏:‏ أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ورسالته، وهدي أمته أبين وأوضح، تعلم بكل طريق تعلم بها نبوة موسى وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ وزيادة، فلا يمكن القول بأنهما نبيان دونه لأجل ذلك، وإن شاء الرجل استدل على ذلك بنفس الدعوة، وما جاء به، وإن شاء بالكتاب الذي بعث به وإن شاء / بما عليه أمته، وإن شاء بما بعث به من المعجزات، فكل طريق من هذه الطرق إذا تبين بها نبوة موسى وعيسى، كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بها أبين وأكمل‏.‏

والمقدمة الثانية‏:‏ أنه أخبر أن رسالته عامة إلى أهل الأرض، من المشركين وأهل الكتاب وأنه لم يكن مرسلاً إلى بعض الناس دون بعض، وهذا أمر معلوم بالضرورة والنقل المتواتر، والدلائل القطعية‏.‏

وأما اليهود والنصارى، فأصل دينهم حق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏62‏]‏ لكن كل من الدينين مبدل منسوخ، فإن اليهود بدلوا وحرفوا، ثم نسخ بقية شريعتهم بالمسيح صلى الله عليه وسلم‏.‏

ونفس الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى ـ مثل نبوة الأنبياء، وهي أكثر من عشرين نبوة وغيرها ـ تبين أنهم بدلوا وأن شريعتهم تنسخ، وتبين صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن فيها من الأعلام والدلائل على نبوة خاتم المرسلين، ما قد صنف فيه العلماء مصنفات، وفيها ـ أيضا ـ من التناقض والاختلاف مايبين ـ أيضًا ـ وقوع التبديل، وفيها من الأخبار من نحو بعدها ما يبين أنها منسوخة، فعندهم ما يدل على هذه المطالب، وقد ناظرنا غير واحد / من أهل الكتاب وبينا لهم ذلك، وأسلم من علمائهم وخيارهم طوائف، وصاروا يناظرون أهل دينهم، ويبينون ما عندهم من الدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن هذه الفتيا لا تحتمل غير ذلك‏.‏

وهذا من الحكمة في إبقاء أهل الكتاب بالجزية؛ إذ عندهم من الشواهد والدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعندهم من الشواهد على ما أخبر به من الإيمان بالله واليوم الآخر، ما يبين أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء بالدين الذي بعثت به الرسل قبله، وأخبر من توحيد الله وصفاته بمثل ما أخبرت به الأنبياء قبله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏43‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏94‏]‏‏.‏

والنبي صلى الله عليه وسلم لم يشك ولم يسأل، ولكن هذا حكم معلق بشرط، والمعلق بالشرط يعدم عند عدمه، وفي ذلك سعة لمن شك، أو أراد أن يحتج، أو يزداد يقينًا‏.

فصــل

فهذه الطريقة بينة في مناظرة أهل الكتاب، وأما إن كان المخاطب لا يقر بنبوة نبي من الأنبياء؛ لا موسى، ولا عيسى، ولا غيرهما ، فللمخاطبة طرق‏:‏

منها‏:‏ أن نسلك في الكلام بين أهل الملل وغيرهم ـ من المشركين والصابئين والمتفلسفة والبراهمة وغيرهم ـ نظير الكلام بين المسلمين وأهل الكتاب‏.‏

فنقول‏:‏ من المعلوم لكل عاقل ـ له أدنى نظر وتأمل ـ أن أهل الملل أكمل في العلوم النافعة، والأعمال الصالحة ممن ليس من أهل الملل، فما من خير يوجد عند غير المسلمين من أهل الملل، إلا عند المسلمين ما هو أكمل منه، وعند أهل الملل ما لا يوجد عند غيرهم، وذلك أن العلوم والأعمال نوعان‏:‏

نوع يحصل بالعقل؛ كعلم الحساب والطب، وكالصناعة من الحياكة والخياطة والتجارة ونحو ذلك، فهذه الأمور عند أهل الملل كما هي عند غيرهم بل هم فيها أكمل، فإن علوم المتفلسفة ـ من علوم المنطق والطبيعة والهيئة، وغير ذلك ـ من متفلسفة الهند واليونان، وعلوم فارس والروم لما صارت إلى المسلمين هذبوها ونقحوها، لكمال عقولهم، وحسن ألسنتهم، وكان / كلامهم فيها أتم وأجمع وأبين، وهذا يعرفه كل عاقل وفاضل، وأما ما لا يعلم بمجرد العقل كالعلوم الإلهية، وعلوم الديانات، فهذه مختصة بأهل الملل، وهذه منها ما يمكن أن يقام عليه أدلة عقلية، فالآيات الكتابية مستنبطة من الرسالة‏.‏ فالرسل هدوا الخلق وأرشدوهم إلى دلالة العقول عليها، فهي عقلية شرعية، فليس لمخالف الرسول أن يقول‏:‏ هذه لم تعلم إلا بخبرهم، فإثبات خبرهم بها دور، بل يقال‏:‏ بعدالتهم وإرشادهم، وتبيينهم للمعقول، صارت معلومة بالعقل والأمثال المضروبة، والأقيسة العقلية‏.‏

وبهذه العلوم يعلم صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وبطلان قول من خالفهم‏.‏

النوع الثاني‏:‏ ما لا يعلم إلا بخبر الرسل، فهذا يعلم بوجوه‏:‏

منها‏:‏ اتفاق الرسل على الإخبار به من غير تواطؤ ولا اتفاق بينهم، فإن المخبر إما أن يكون صادقًا خبره مطابقًا لمخبره، وإما ألا يكون، وإذا لم يكن خبره مطابقًا لمخبره، فإما أن يكون متعمدًا للكذب ،وإما أن يكون مخطئًا، فإذا قدر عدم الخطأ والتعمد، كان خبره صدقًا لا محالة‏.‏

ومعلوم أنه إذا أخبر واحد عن علوم طويلة فيها تفاصيل كثيرة، لا يمكن في العادة خطؤهم، وأخبر غيره قبل ذلك مع الجزم بأنهما لم يتواطآ، ولا يمكن أن يقال إنه يمكن الكذب في مثل ذلك، أفاد خبرهما العلم، وإن لم يعلم /حالهما، فلو ناجى رجلا بحضرة رجال وحدث بحديث طويل فيه أسرار تتعلق به في رجل بتلك الأمور الأسرار، ثم جاء آخر قد علمنا أنه لم يتفق مع المخبر الأول، فأخبر عن تلك المناجاة والأسرار مثلما أخبر به الأول، جزمنا قطعًا بصدقهما‏.‏

ومعلوم أن مـوسى أخبــر بما أخــبر به قبل أن يبعث محمـد صلى الله عليه وسلم، وقـبل أن يبعث المسيح ‏.‏

ومعلوم ـ أيضًا ـ لكل من كان عالمًا بحال محمد صلى الله عليه وسلم، أنه نشأ بين قوم أميين، لا يقرؤون كتابًا ولا يعلمون علوم الأنبياء، وأنه لم يكن عندهم من يعلم ما في التوراة والإنجيل، ونبوة الأنبياء‏.‏

وقد أخبر محمد صلى الله عليه وسلم من توحيد اللّه وصفاته، وأسمائه وملائكته وعرشه وكرسيه، وأنبيائه ورسله، وأخبارهم وأخبار مكذبيهم، بنظير ما يوجد في كتب الأنبياء، من التوراة وغيرها‏.‏

فمن تدبر التوراة والقرآن، علم أنهما جميعًا يخرجان من مشكاة واحدة، كما ذكر ذلك النجاشي، وكما قال ورقة بن نوفل‏:‏ هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى‏.‏

ولهذا قرن اللّه ـ تعالى ـ بين التوراة والقرآن في مثل هذا في قوله‏:‏ ‏{‏لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏48، 49‏]‏، وقالت الجن‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ الآية ‏[‏الأحقاف‏:‏30‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏17‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏91، 92‏]‏‏.‏

فهذه الطريقة، كل من علم ما جاء به موسى والنبيون قبله وبعده، وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، علم علمًا يقينًا أنهم كلهم مخبرون عن اللّه، صادقون في الإخبار، وأنه يمتنع ـ والعياذ بالله ـ خلاف الصدق من خطأ وكذب‏.‏

ومن الطرق‏:‏ الطرق الواضحة القاطعة المعلومة إلى قيام الساعة بالتواتر من أحوال أتباع الأنبياء، وأحوال من كذبهم وكفر بهم، حال نوح وقومه، وهود وقومه، وصالح وقومه، وحال إبراهيم وقومه، وحال موسى وفرعون، وحال محمد صلى الله عليه وسلم وقومه‏.‏

وهذا الطريق قد بينها اللّه في غير موضع من كتابه كقوله‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏5‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى‏}‏ إلى قوله

‏:‏‏{‏فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏42ـ46‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ

وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ‏؟‏‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏137، 138‏]‏

وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏75‏]‏ ‏.‏

فبين أنه تارك آثار القوم المعذبين للمشاهدة، ويستدل بذلك على عقوبة اللّه لهم، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ‏}‏ الآيتين ‏[‏الإسراء‏:‏17، 18‏]‏‏.‏ فذكر طريقين يعلم بهما ذلك‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يعاين ويعقل بالقلوب‏.‏

والثاني‏:‏ ما يسمع، فإنه قد تواتر عند كل أحد حال الأنبياء، ومصدقهم ومكذبهم، وعاينوا من آثارهم ما دل على أنه ـ سبحانه ـ عاقب مكذبهم وانتقم منهم، وأنهم كانوا على الحق الذي يحبه ويرضاه، وأن من كذبهم كان على الباطل الذي يغضب اللّه على أهله، وأن طاعة الرسل طاعة للّه، ومعصيتهم معصية للّه‏.‏

ومن الطرق أيضًا‏:‏ أن يعلم ما تواتر من معجزاتهم الباهرة، وآياتهم القاهرة، وأنه يمتنع أن تكون المعجزة على يد مدعي النبوة وهو كذاب، من غير تناقض، ولا تعارض، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

/ ومن الطرق‏:‏ أن الرسل جاؤوا من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، بما هو معلوم عند كل عاقل لبيب، ولا ينكره إلا جاهل غاو‏.‏

وهذه الفتيا لا تسع البسط الكثير، فإذا تبين صدقهم وجب التصديق في كل ما أخبروا به، ووجب الحكم بكفر من آمن ببعض، وكفر ببعض‏.‏ واللّه ـ سبحانه ـ وتعالى ـ أعلم، والحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه أجمعين‏.‏

/ سُئِلَ شيخُ الإِسْلام أَبُو العَبَّاس ابن تَيْمِية ـ قدس اللَّه رُوحَــهُ ـ عـن ‏[‏الروح‏]، هل هي قديمة، أو مخلوقة‏؟‏ وهل يُبدَّع من يقول بقدمها أم لا‏؟‏ وما قول أهل السنة فيها، وما المراد بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏85‏]‏‏.‏ هل المفوض إلى اللّه ـ تعالى ـ أمر ذاتها، أوصفاتها، أو مجموعهما‏؟‏ بينوا ذلك من الكتاب والسنة‏.‏

فأجاب ـ رضي اللَّه عَنْهُ‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، روح الآدمي مخلوقة مبدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي، الإمام المشهور، الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع والاختلاف، أو من أعلمهم‏.‏

وكذلك أبو محمد بن قتيبة، قال في كتاب ‏[‏اللقط] ‏لما تكلم على خلق الروح قال‏:‏ النَّسَم‏:‏ الأرواح‏.‏ قال‏:‏ وأجمع الناس على أن اللّه خالق الجثة، / وبارئ النسمة، أي‏:‏ خالق الروح‏.‏ وقال أبو إسحاق بن شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة‏:‏ سألت رحمك اللّه عن الروح مخلوقة أو غير مخلوقة، قال‏:‏ هذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب، إلى أن قال‏:‏ والروح من الأشياء المخلوقة، وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء والمشائخ، وردوا على من يزعم أنها غير مخلوقة‏.‏

وصنف الحافظ أبو عبد اللّه بن مَنْدَه في ذلك كتابًا كبيرًا في ‏[‏الروح والنفس‏]‏، وذكر فيه من الأحاديث والآثار شيئًا كثيرًا، وقبله الإمام محمد بن نصر المروزي وغيره، والشيخ أبو يعقوب الخراز، وأبو يعقوب النهرجوري، والقاضي أبو يعلى، وغيرهم؛ وقد نص على ذلك الأئمة الكبار، واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في روح عيسى ابن مريم، لا سيما في روح غيره ،كما ذكره أحمد في كتابه في ‏[‏الرد على الزنادقة والجهمية‏] فقال في أوله‏:‏

الحمد للّه الذي جعل في كل زمان فَتْرَة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب اللّه الموتى، ويبصرون بنور اللّه أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب اللّه تحريف الغالين؛ وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يقولون على اللّه، وفي اللّه، وفي كتاب / اللّه بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ باللّه من فتن المضلين، وتكلم على ما يقال‏:‏ إنه متعارض من القرآن إلى أن قال‏:‏

وكذلك الجهم وشيعته، دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث، وأضلوا بشرًا كثيرًا، فكان مما بلغنا من أمر الجهم ـ عدو اللّه ـ أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، كان أكثر كلامه في اللّه، فلقى أناسًا من المشركين يقال لهم ‏[‏السمنية‏[‏فعرفوا الجهم، فقالوا له‏:‏ نكلمك، فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك‏.‏

فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا‏:‏ ألست تزعم أن لك إلهًا‏؟‏ قال الجهم‏:‏ بلى‏.‏ فقالوا له‏:‏ فهل رأيت إلهك‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالوا‏:‏ فهل سمعت كلامه‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏قالوا‏:‏ فهل شممت له رائحة‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالوا له‏:‏ فوجدت له مَجَسا‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالوا‏:‏ فما يدريك أنه إله‏؟‏ قال‏:‏ فتحير الجهم، فلم يدر من يعبد أربعين يومًا، ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح اللّه، من ذاته، فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه، فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما شاء، وينهى عما شاء، وهو روح غائب عن الأبصار‏.‏

فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني‏:‏ ألست تزعم أن فيك روحًا ‏؟‏ قال بلى‏.‏ قال‏:‏ فهل رأيت روحك‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فهل سمعت / كلامه‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فوجدت له حسًا ومَجَسّا‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ كذلك اللّه، لا يرى له وجه، و لا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان‏.‏

وساق الإمام أحمد الكلام في ‏[‏القرآن‏] ‏و[‏الرؤية‏]‏ وغير ذلك، إلى أن قال‏:‏ ثم إن الجهم ادعى أمرًا، فقال‏:‏ إنا وجدنا آية في كتاب اللّه تدل على القرآن أنه مخلوق، فقلنا‏:‏ أي آية‏؟‏ قال‏:‏ قول اللّه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏171‏]‏ وعيسى مخلوق‏.‏

فقلنا‏:‏ إن اللّه منعك الفهم في القرآن، عيسى تجرى عليه ألفاظ لا تجرى على القرآن؛ لأنه يسميه مولودًا، وطفلًا، وصبيًا، وغلامًا، يأكل ويشرب، وهو مخاطب بالأمر والنهي، يجري عليه الوعد والوعيد، ثم هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم، ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى، هل سمعتم اللّه يقول في القرآن ما قال في عيسى ‏؟‏ ولكن المعنى في قول اللّه‏:‏‏{‏إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏171‏] ،فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له‏:‏ كن، فكان عيسى بكن، وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان، فالكن من اللّه قول، وليس الكن مخلوقًا‏.‏

وكذب النصارى والجهمية على اللّه في أمر عيسى، وذلك أن الجهمية قالوا‏:‏ عيسى روح اللّه وكلمته، إلا أن الكلمة مخلوقة، وقالت النصارى‏:‏ / عيسى روح اللّه من ذات اللّه، وكلمة اللّه من ذات اللّه، كما يقال‏:‏ إن هذه الخرقة من هذا الثوب‏.‏

وقلنا نحن‏:‏ إن عيسى بالكلمة كان، وليس هو الكلمة‏.‏ قال‏:‏ وقول اللّه‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ يقول من أمره كان الروح فيه، كقوله‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏13‏]‏، يقول‏:‏ من أمره، وتفسير روح اللّه‏:‏ أنها روح بكلمة اللّه، خلقها اللّه، كما يقال‏:‏ عبد اللّه، وسماء اللّه، فقد ذكر الإمام أحمد أن زنادقة النصارى هم الذين يقولون‏:‏ إن روح عيسى من ذات اللّه، وبين أن إضافة الروح إليه إضافة ملك وخلق، كقولك‏:‏ عبد اللّه، وسماء اللّه، لا إضافة صفة إلى موصوف، فكيف بأرواح سائر الآدميين‏؟‏ وبين أن هؤلاء الزنادقة الحلولية يقولون بأن اللّه إذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه‏.‏

وقال الشيخ أبو سعيد الخرازـ أحد أكابر المشائخ الأئمة من أقران الجنيد، فيما صنفه ـ في أن الأرواح مخلوقة، وقد احتج بأمور منها‏:‏ لو لم تكن مخلوقة لما أقرت بالربوبية، وقد قال لهم حين أخذ الميثاق ـ وهم أرواح في أشباح؛ كالذر ـ‏:‏ ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏172‏]‏، وإنما خاطب الروح مع الجسد، وهل يكون الرب إلا لمربوب ‏؟‏ قال‏:‏ ولأنها لو لم تكن مخلوقة ما كان على النصارى لوم في عبادتهم عيسى، ولا حين قالوا‏:‏ إنه ابن اللّه، وقالوا‏:‏ هو اللّه‏.‏

/قال‏:‏ ولأنه لو كان الروح غير مخلوق ما دخلت النار، ولأنها لو كانت غير مخلوقة لما حجبت عن اللّه، ولا غيبت في البدن، ولا ملكها ملك الموت، ولما كانت صورة توصف؛ ولأنها لو لم تكن مخلوقة لم تحاسب ولم تعذب، ولم تتعبد ولم تخف، ولم ترج‏.‏ ولأن أرواح المؤمنين تتلألأ وأرواح الكفار سود مثل الحمم‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ترتع في الجنة، وتأوى في فناء العرش‏)‏، وأرواح الكفار في برهوت‏ [بئر عميقة بحضرموت لا يستطاع النزول إلى قعرها]‏‏.‏

وقال الشيخ أبو يعقوب النهرجوري‏:‏ هذه الأرواح من أمر اللّه مخلوقة ‏.‏خلقها اللّه من الملكوت، كما خلق آدم من التراب، وكل عبد نسب روحه إلى ذات اللّه أخرجه ذلك إلى التعطيل، والذين نسبوا الأرواح إلى ذات اللّه هم أهل الحلول الخارجون إلى الإباحة، وقالوا‏:‏ إذا صفت أرواحنا من أكدار نفوسنا فقد اتصلنا، وصرنا أحرارًا، ووضعت عنا العبودية، وأبيح لنا كل شيء من اللذات من النساء، والأموال وغير ذلك‏.‏ وهم زنادقة هذه الأمة وذكر عدة مقالات لها وللزنادقة ‏.‏

قلت‏:‏ واعلم أن القائلين بقدم الروح صنفان‏:‏

صنف من الصابئة الفلاسفة، يقولون‏:‏ هي قديمة أزلية لكن ليست من / ذات الرب، كما يقولون ذلك في العقول، والنفوس الفلكية، ويزعم من دخل من أهل الملل فيهم أنها هي الملائكة‏.‏

وصنف من زنادقة هذه الأمة وضلالها ـ من المتصوفة والمتكلمة والمحدثة ـ يزعمون أنها من ذات اللّه، وهؤلاء أشرُّ قولًا من أولئك، وهؤلاء جعلوا الآدمي نصفين‏:‏ نصف لاهوت، وهو روحه، ونصف ناسوت، وهو جسده، نصفه رب ونصفه عبد‏.‏

وقد كفَّر اللّه النصارى بنحو من هذا القول في المسيح، فكيف بمن يعم ذلك في كل أحد ‏؟‏ حتى في فرعون، وهامان، وقارون، وكل ما دل على أن الإنسان عبد مخلوق مربوب، وأن اللّه ربه وخالقه ومالكه وإلهه، فهو يدل على أن روحه مخلوقة ‏.‏

فإن الإنسان عبارة عن البدن والروح معًا، بل هو بالروح أخص منه بالبدن، وإنما البدن مطية للروح،كما قال أبو الدرداء‏:‏ إنما بدني مطيتي، فإن رفقت بها بلغتني، وإن لم أرفق بها لم تبلغني‏.‏وقد رواه ابن منده وغيره عن ابن عباس قال‏:‏ لا تزال الخصومة يوم القيامة بين الخلق حتى تختصم الروح والبدن، فتقول الروح للبدن‏:‏ أنت عملت السيئات، فيقول البدن للروح‏:‏ أنت أمرتني، فيبعث اللّه ملكًا يقضى بينهما، فيقول‏:‏ إنما مثلكما كمثل مُقْعَد وأعمى دخلاً بستانًا، فرأى المقعد فيه ثمرًا معلقًا، فقال للأعمى‏:‏ إني أرى ثمرًا، ولكن / لا أستطيع النهوض إليه، وقال الأعمى‏:‏ لكني أستطيع النهوض إليه ولكني لا أراه‏.‏ فقال له المقعد‏:‏ تعال، فاحملني حتى أقطفه، فحمله وجعل يأمره فيسير به إلى حيث يشاء فقطع الثمر‏.‏ قال‏:‏ الملك‏:‏ فعلى أيهما العقوبة‏؟‏ فقالا‏:‏عليهما جميعًا قال‏:‏ فكذلك أنتما‏.‏

وأيضًا، فقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأرواح تقبض، وتنعم وتعذب، ويقال لها‏:‏ اخرجي أيتها الروح الطيبة ،كانت في الجسد الطيب، اخرجي أيتها الروح الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، ويقال للأولى‏:‏ أبشري بَروْح ورَيْحان، ويقال للثانية‏:‏ أبشري بحَمِيم وغَسَّاق وآخر من شكله أزواج، وأن أرواح المؤمنين تعرج إلى السماء، وأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء‏.‏

وفي صحيح مسلم عن عبد اللّه بن شَقِيق عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ ‏(‏إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها‏)‏، قال حماد‏:‏ فذكر من طيب ريحها وذكر المسك؛ قال‏:‏ ‏(‏فيقول أهل السماء‏:‏ روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى اللّه عليك، وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه، ثم يقول‏:‏ انطلقوا به إلى آخر الأجل‏)‏، قال‏:‏ ‏(‏وإن الكافر إذا خرجت روحه‏)‏، قال حماد‏:‏ وذكر من نتنها وذكر لعنًا، ‏(‏فيقول أهل السماء‏:‏ روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، قال‏:‏ فيقال‏:‏ انطلقوا به إلى آخر الأجل‏)‏‏.‏ قال أبو هريرة ـ رضي اللّه عنه‏:‏ فلما ذكر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم النتن رد على أنفه ريطة كانت عليه‏.‏

/ وفي حديث المعراج الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى آدم، وأرواح بنيه عن يمينه وشماله، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فلما علونا السماء فإذا رجل عن يمينه أسْوِدَة، وعن شماله أسودة‏)‏، قال‏:‏ ‏(‏فإذا نظر قِبَل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى‏)‏، قال‏:‏ ‏(‏مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح‏)‏، قال‏:‏‏ (‏قلت‏:‏ يا جبريل، من هذا ‏؟‏ قال‏:‏ هذا آدم صلى الله عليه وسلم ،وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى‏)‏‏.‏

‏[‏والأسودة جمع سواد، وتجمع على أساود، وهي الجماعات المتفرقة، وقيل‏:‏ هي جمع لـ ‏(‏سواد‏)‏، وهو الشخص، كذلك؛ لأنه يرى من بعيد] ‏وقد ثبت ـ أيضًا ـ أن أرواح المؤمنين والشهداء وغيرهم في الجنة، قال الإمام أحمد في رواية حنبل‏:‏ أرواح الكفار في النار، وأرواح المؤمنين في الجنة، والأبدان في الدنيا، يعذب اللّه من يشاء، ويرحم بعفوه من يشاء‏.‏ وقال عبد اللّه بن أحمد‏:‏ سألت أبي عن أرواح الموتى‏:‏ أتكون في أفنية قبورها‏؟‏ أم في حواصل طير‏؟‏ أم تموت كما تموت الأجساد‏؟‏ فقال‏:‏ قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏نَسَمَة المؤمن إذا مات طائر تعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه اللّه إلى جسده يوم يبعثه‏)‏‏.‏

وقد روى عن عبد اللّه بن عمرو أنه قال‏:‏ أرواح المؤمنين في أجواف طير خضر كالزَّرَازِير‏[‏جمع زرزور، وهو نوع من العصافير]‏، يتعارفون فيها ويرزقون من ثمرها، قال‏:‏ وقال بعض الناس‏:‏ أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، تأوى إلى قناديل في الجنة معلقة بالعرش‏.‏

وقد روى مسلم في صحيحه عن مسروق قال‏:‏ سألنا عبد اللّه ـ يعني ابن /مسعود ـ عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏169‏]‏، فقال‏:‏ أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏إن أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح في الجنة حيث تشاء، ثم تأوى إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال‏:‏ هل تشتهون شيئًا‏؟‏ فقالوا‏:‏ أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة حيث نشاء‏؟‏ ـ ففعل بهم ذلك ثلاث مرات ـ فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا‏:‏ يا رب ،نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا؛ حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا‏)‏‏.‏

وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27ـ30‏]‏،

فخاطبها بالرجوع إلى ربها، وبالدخول في عباده ودخول جنته، وهذا تصريح بأنها مربوبة‏.‏ والنفس هنا هي الروح التي تقبض، وإنما تتنوع صفاتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ـ لما ناموا عن صلاة الفجر في السفر ـ قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه قبض أرواحنا حيث شاء، وردها حيث شاء‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏قبض أنفسنا حيث شاء‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏42‏]‏، والمقبوض المتوفى هي الروح، كما في صحيح مسلم عن أم سلمة قالت‏:‏ دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه، ثم قال‏:‏ ‏(‏إن الروح إذا قبض تبعه البصر‏)‏، فضج ناس من أهله فقال‏:‏/‏(‏لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يُؤَمِّنُون على ما تقولون‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏اللّهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين وأفسح له في قبره، ونور له فيه‏)‏‏.‏

وروى مسلم ـ أيضًا ـ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألم تروا أن الإنسان إذا مات شَخَصَ بصره‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فكذلك حين يتبع بصره نفسه‏)‏ فسماه تارة روحًا، وتارة نفسًا‏.‏

وروى أحمد بن حنبل، وابن ماجه عن شداد بن أوس قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر؛ فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرًا، فإنه يُؤَمَّن على ما يقول أهل الميت‏)‏‏.‏

ودلائل هذا الأصل وبيان مسمى ‏[‏الروح والنفس‏] ‏وما فيه من الاشتراك كثير لا يحتمله هذا الجواب، وقد بسطناه في غير هذا الموضع‏.‏

فقد بان بما ذكرناه أن من قال‏:‏ إن أرواح بني آدم قديمة غير مخلوقة، فهو من أعظم أهل البدع الحلولية، الذين يجر قولهم إلى التعطيل، بجعل العبد هو الرب وغير ذلك من البدع الكاذبة المضلة‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏85‏]‏، فقد قيل‏:‏ إن الروح هنا ليس هو روح الآدمي، وإنما هو ملك في قوله‏:‏‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏38‏]‏، /وقوله‏}‏تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏4‏]‏ وقيل‏:‏ بل هو روح الآدمي، والقولان مشهوران، وسواء كانت الآية تعمهما، أو تتناول أحدهما، فليس فيها ما يدل على أن الروح غير مخلوقة لوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الأمر في القرآن يراد به المصدر تارة، ويراد به المفعول تارة أخرى وهو المأمور به، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏38‏]‏ وهذا في لفظ غير الأمر، كلفظ الخلق والقدرة والرحمة والكلمة وغير ذلك‏.‏ ولو قيل‏:‏ إن الروح بعض أمر اللّه أو جزء من أمر اللّه، ونحو ذلك مما هو صريح في أنها بعض أمر اللّه، لم يكن المراد بلفظ الأمر إلا المأمور به لا المصدر؛ لأن الروح عين قائمة بنفسها، تذهب وتجيء وتنعم وتعذب، وهذا لا يتصور أن يكون مسمى مصدر‏:‏ أمر يأمر أمرًا‏.‏ وهذا قول سلف الأمة وأئمتها وجمهورها‏.‏

ومن قال من المتكلمين‏:‏ إن الروح عرض قائم بالجسم، فليس عنده مصدر‏:‏ أمر يأمر أمرًا ‏.‏

والقرآن إذا سمى أمر اللّه، فالقرآن كلام [‏اللّه] ‏والكلام اسم مصدر‏:‏ كَلَّم يُكَلِّم تكليمًا وكلامًا، وتَكَلَّم تَكَلمًا وكلامًا‏.‏ فإذا سمى أمرًا بمعنى المصدر كان ذلك مطابقًا، لا سيما والكلام نوعان‏:‏ أمر وخبر‏.‏

/ أما الأعيان القائمة بأنفسها فلا تسمى أمرًا لا بمعنى المفعول به وهو المأمور به كما سمى المسيح كلمة؛ لأنه مفعول بالكلمة، وكما يسمى المقدور قدرة والجنة رحمة، والمطر رحمة، في مثل قوله‏:‏ ‏{‏فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏50‏]‏، وفي قول النبي صلىالله عليه وسلم  فيما يرويه عن ربه أنه قال للجنة‏:‏ ‏(‏أنت رحمتي أرحم بك من شئت‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏إن اللَّهَ خلقَ الرحمة ـ يوم خلقها ـ مائة رحمة‏)‏ ونظائر ذلك كثيرة، وهذا جواب أبي سعيد الخراز، قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ قد قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏85‏]‏ وأمره منه قيل‏:‏ أمره ـ تعالى ـ هو المأمور به المكون بتكوين المكون له ‏.‏

وكذلك قال ابن قتيبة في‏ [‏كتاب المشكل‏]‏‏:‏ أقسام الروح، فقال‏:‏ هي روح الأجسام التي يقبضها اللّه عند الممات، والروح جبريل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏193‏]‏، وقال‏:‏‏{‏وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏87، 253‏]‏، أي‏:‏ جبريل، والروح ـ فيما ذكره المفسرون ـ ملك عظيم من ملائكة اللّه ـ تعالى ـ يقوم وحده فيكون صفًا، وتقوم الملائكة صفًا، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏85‏]‏، قال‏:‏ ونسب الروح إلى اللّه؛ لأنه بأمره، أو لأنه بكلمته‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن لفظة [‏من] ‏في اللغة قد تكون لبيان الجنس، كقولهم‏:‏ باب من حديد‏.‏ وقد تكون لابتداء الغاية، كقولهم‏:‏ خرجت من مكة، فقوله تعالى‏:‏‏{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ ليس نصًا في أن الروح بعض الأمر، ومن / جنسه، بل قد تكون لابتداء الغاية إذ كونت بالأمر، وصدرت عنه، وهذا معنى جواب الإمام أحمد في قوله‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏171‏]‏ حيث قال‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ يقول‏:‏ من أمره كان الروح منه كقوله‏:‏ ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ‏{‏ ‏[‏الجاثية‏:‏13‏]‏، ونظير هذا أيضًا قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏53‏]‏‏.‏

فإذا كانت المسخرات والنعم من اللّه، ولم تكن بعض ذاته بل منه صدرت، لم يجب أن يكون معنى قوله في المسيح‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏؛ أنها بعض ذات اللّه، ومعلوم أن قوله‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ أبلغ من قوله‏:‏ ‏{‏الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ فإذا كان قوله‏}‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏ لا يمنع أن يكون مخلوقًا، ولا يوجب أن يكون بعضًا له، فقوله‏:‏ ‏{‏الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ أولى بألا يمنع أن يكون مخلوقًا، ولا يوجب أن يكون ذلك بعضًا له بل ولا بعضًا من أمره‏.‏

وهذا الوجه يتوجه إذا كان الأمر هو الأمر الذي هو صفة من صفات اللّه، فهذان الجوابان كل منهما مستقل، ويمكن أن يجعل منهما جواب مركب، فيقال‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ إما أن يراد بالأمر المأمور به، أو صفة للّه ـ تعالى ـ وإن أريد به الأول أمكن أن تكون الروح بعض ذلك، فتكون مخلوقة، وإن أريد بالأمر صفة ‏[‏اللّه‏]‏ كان قوله‏:‏ ‏{‏الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَرُوحٌ مِّنْهُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏جَمِيعًا مِّنْهُ‏}‏ ونحو ذلك ‏.‏

وإنما نشأت الشبهة حيث ظن الظان أن الأمر صفة للّه قديمة، وأن روح /بني آدم بعض تلك الصفة، ولم تدل الآية على واحد من المقدمتين، واللّه ـ سبحانه ـ أعلم ‏.‏

وقد يجيء اسم الروح في القرآن بمعنى آخر، كقوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏52‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏22‏]‏، ونحو ذلك‏.‏ فالقرآن الذي أنزله اللّه كلامه، ولكن ليس الكلام في هذا مما يتعلق بالسؤال‏.‏

وأما قول السائل‏:‏ هل المفوض إلى اللّه أمر ذاتها أو صفاتها أو مجموعهما‏؟‏ فليس هذا من خصائص الكلام في الروح، بل لا يجوز لأحد أن يقفو ما ليس له به علم، ولا يقول على اللّه ما لا يعلم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏36‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏33‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏169‏]‏، وقد قالت الملائكة لما قال لهم‏:‏ ‏{‏أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏31، 32‏]‏، وقد قال موسى للخضر‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏66‏]‏، وقال الخضر لموسى ـ لما نقر العصفور في البحر ـ‏:‏ ما نقص علمي وعلمك من علم اللّه، إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر‏.‏

/ وليس في الكتاب والسنة أن المسلمين نهوا أن يتكلموا في الروح بما دل عليه الكتاب والسنة، لا في ذاتها ولا في صفاتها، وأما الكلام بغير علم فذلك محرم في كل شيء، ولكن قد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض سكك المدينة، فقال بعضهم‏:‏ سلوه عن الروح، وقال بعضهم‏:‏ لا تسألوه فيسمعكم ما تكرهون، قال‏:‏ فسألوه وهو متكئ على العسيب‏ [‏العسيب‏:‏ جريدة من النخل‏]‏، فأنزل اللّه هذه الآية‏.‏

فبين بذلك أن ملك الرب عظيم، وجنوده، وصفة ذلك، وقدرته أعظم من أن يحيط به الآدميون، وهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلًا، فلا يظن من يدعى العلم أنه يمكنه أن يعلم كل ما سئل عنه ولا كل ما في الوجود، فما يعلم جنود ربك إلا هو‏.

سئل الشَّيخُ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن قائل يقول‏:‏ إن لم يتبين لي حقيقة ماهية الجن وكُنْه صفاتهم، وإلا فلا أتبع العلماء في شيء‏.‏

فأجــاب‏:‏ أما كونه لم يتبين له كيفية الجن وماهياتهم، فهذا ليس فيه إلا إخباره بعدم علمه، لم ينكر وجودهم؛ إذ وجودهم ثابت بطرق كثيرة غير دلالة الكتاب والسنة، فإن من الناس من رآهم، وفيهم من رأى من رآهم، وثبت ذلك عنده بالخبر واليقين‏.‏

ومن الناس من كلمهم وكلموه، ومن الناس من يأمرهم وينهاهم ويتصرف فيهم، وهذا يكون للصالحين وغير الصالحين، ولو ذكرت ما جرى لي ولأصحابي معهم لطال الخطاب‏.‏

وكذلك ما جرى لغيرنا، لكن الاعتماد على الأجوبة العلمية يكون على ما يشترك الناس في علمه، لا يكون بما يختص بعلمه المجيب، إلا أن يكون الجواب لمن يصدقه فيما يخبر به‏.‏

/ سئل الشَّيْخُ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن الجان المؤمنين‏:‏ هل هم مخاطبون بفروع الإسلام كالصوم والصلاة، وغير ذلك من العبادات، أوهم مخاطبون بنفس التصديق لا غير ‏؟‏

فأجَـــاب‏:‏ لا ريب أنهم مأمورون بأعمال زائدة على التصديق، ومنهيون عن أعمال غير التكذيب، فهم مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم، فإنهم ليسوا مماثلي الإنس في الحد والحقيقة، فلا يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساويًا لما على الإنس في الحد، لكنهم مشاركون الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي، والتحليل والتحريم‏.‏ وهذا ما لم أعلم فيه نزاعًا بين المسلمين‏.‏

وكذلك لم يتنازعوا أن أهل الكفر والفسوق والعصيان منهم يستحقون لعذاب النار، كما يدخلها من الآدميين، لكن تنازعوا في أهل الإيمان منهم، فذهب الجمهور من أصحاب مالك والشافعى وأحمد وأبى يوسف ومحمد‏:‏ إلى أنهم يدخلون الجنة‏.‏ وروى في حديث رواه الطبراني‏:‏أنهم يكونون في رَبَضِ الجنة [رَبَض الجنة‏:‏ أي ما حولها خارجا عنها]‏، يراهم الإنس من حيث لا يرونهم‏.‏

/ وذهب طائفةـ منهم أبو حنيفة فيما نقل عنه ـ إلى أن المطيعين منهم يصيرون ترابًا كالبهائم، ويكون ثوابهم النجاة من النار‏.‏

وهل فيهم رسل أم ليس فيهم إلا نذر‏؟‏ على قولين‏:‏

فقيل‏:‏ فيهم رسل لقوله تعالى‏:‏‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ الرسل من الإنس، والجن فيهم النذر، وهذا أشهر، فإنه أخبر عنهم باتباع دين محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم ‏{‏وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى‏}‏الآية ‏[‏الأحقاف‏:‏29 ،30‏]‏ قالوا‏:‏ وقوله‏:‏‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ‏}‏‏؟‏ كقوله‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 22‏]‏، وإنما يخرج من المالح، وكقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏16‏]‏ والقمر في واحدة‏.‏

وأما التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم، فدلائله كثيرة، مثل ما في مسلم عن عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن، فانطلقوا‏)‏ فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال‏:‏ ‏(‏لكم كل عَظْم ذكر اسم اللّه عليه يقع في أيديكم، أوفر ما يكون، وكل بعرة علف لدوابكم‏)‏، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تستنجوا بالعظم والروث‏)‏ وذلك لئلا يفسد عليهم طعامهم وعلفهم، وهذا يبين أن ما أباح لهم من ذلك ما ذكر اسم اللّه عليه دون ما لم يذكر اسم اللّه عليه‏.‏

/ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏48‏]‏ فأخبر عن الشيطان أنه يخاف اللّه، والعقوبة إنما تكون على ترك مأمور أو فعل محظور، وليس هو هنا التصديق‏.‏

وأيضًا، فإبليس ـ الذي هو أبو الجن ـ لم تكن معصيته تكذيبًا؛ فإن اللَّه أمره بالسجود، وقد علم أن اللّه أمره، ولم يكن بينه وبين اللّه رسول يكذبه، ولما امتنع عن السجود لآدم عاقبه اللّه العقوبة البليغة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏‏(‏إذا سَجَد ابنُ آدمَ اعتزل الشيطان يبكي‏)‏ الحديث‏.‏

وقد قال ـ تعالى ـ في قصة سليمان‏:‏ ‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏عَذَابِ السَّعِيرِ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 12‏]‏ وقد جعل فى ذلك ما أمرهم به من طاعة سليمان، وقد قال ـ تعالى ـ عن إبليس‏:‏ إنه عصى ولم يقل‏:‏ كذب، وقد قال ـ تعالى ـ عن الجن‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ‏}‏ الآية ‏[‏الأحقاف‏:‏30-32‏]‏، فأمروا بإجابة داعي اللّه، الذي هو الرسول‏.‏ والإجابة والاستجابة هي طاعة الأمر والنهي، وهي العبادة التي خلق لها الثقلان، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏ ‏.‏

ومن قال‏: [‏إن العبادة] ‏هي المعرفة الفطرية الموجودة فيها، وأن ذلك هو الإيمان وهو داخل في الثقلين فقط، فإن ذلك لو كان كذلك لم يكن في الثقلين كافر، واللّه أخبر بكفر إبليس وغيره من الجن والإنس، وقد قال تعالى‏:‏ /‏{‏لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏85‏]‏ وأخبر أنه يملؤها منه ومن أتباعه، وهذا يبين أنه لا يدخلها إلا من اتبعه، فعلم أن من يدخلها من الكفار والفساق من أتباع إبليس‏.‏ ومعلوم أن الكفار ليسوا بمؤمنين، ولا عارفين اللّه معرفة يكونون بها مؤمنين‏.‏

ولكن اللام لبيان الجملة الشرعية، المتعلقة بالإرادة الشرعية، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏26‏[‏‏.‏

وقد تكون لبيان العاقبة الكونية كما في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏:‏125‏]‏ ، وهذا كقوله تعالى‌‏:‏ ‌‌‌‌‌‌‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 118، 119‏]‏ أي خلق قومًا للاختلاف، وقومًا للرحمة، وقال‏:‏‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏179‏]‏، فاللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏56‏]‏، وإن كانت هي اللام في هذه الآية، فإن مدلولها لام إرادة الفاعل ومقصوده، ولهذا تنقسم في كتاب اللّه إلى إرادة دينية، وإرادة كونية، كما تنقسم في كتـاب اللّه ـ تعالى ـ الكلمات والأمر والحكم والقضاء، والتحريم والإذن، وغير ذلك ‏.‏

وأيضًا، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 130‏]‏، فبين أن الثقلين جميعًا تلت عليهم الرسل آيات اللّه؛ ولهذا لما قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سورة على الصحابة قال‏:‏ ‏(‏لَلْجِنُّ كانوا ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ دعاهم إلى طاعة اللّه لما فيه من الأمر والنهي، لا إلى مجرد حديث لا طاعة معه، فإن مثل هذا التصديق، كان مع إبليس، فلم يغن عنه من اللّه شيئًا‏.‏

والدلائل الدالة على هذا الأصل، وما في الحديث والآثارـ من كون الجن يحجون ويصلون ويجاهدون، وأنهم يعاقبون على الذنب ـ كثيرة جدًا ‏.‏

وقد قال ـ تعالى ـ فيما أخبر عنهم‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏11‏]‏ قالوا‏:‏ مذاهب شتى؛ مسلمين، ويهود، ونصارى، وشيعة، وسنة‏.‏

فأخبر أن منهم الصالحين، ومنهم دون الصالحين، فيكون‏:‏ إما مطيعًا في ذلك فيكون مؤمنا، وإما عاصيًا في ذلك فيكون كافرًا، ولا ينقسم مؤمن إلى صالح وإلى غير صالح؛ فإن غير الصالح لا يعتقد صلاحه لترك الطاعات، فالصالح هو القائم بما وجب‏.‏

/سُئِلَ ـ رَحِمِهَ اللَّهُ ـ عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن النطفة تكون أربعين يومًا نطفة، ثم أربعين يومًاعلقة، ثم أربعين مضغة، ثم يكون التصوير والتخطيط والتشكيل‏)‏ ثم ورد عن حذيفة بن أسيد‏:‏ ‏(‏أنه إذا مر للنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث اللّه ـ تعالى ـ إليها ملكًا فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها، وعظامها، ثم يقول‏:‏ يا رب، أذكر، أم أنثى ‏؟‏ شقي أم سعيد ‏؟‏ فما الرزق وما الأجل‏؟‏‏)‏ وذكر الحديث، فما الجمع بين الحديثين‏؟‏

فأجَـــاب‏:‏ الحمد للّه رب العالمين، أما الحديث الأول، فهو في الصحيحين عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ حدثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق‏:‏ ‏(‏إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات‏:‏ بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد‏.‏ فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ،حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، / فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ،حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها‏)‏

وفي طريق آخر‏:‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏ثم يبعث اللّه ملكًا ويؤمر بأربع كلمات، ويقال‏:‏ اكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أو سعيد‏.‏ ثم ينفخ فيه الروح‏)‏‏.‏ فهذا الحديث الصحيح ليس فيه ذكر التصوير متى يكون، لكن فيه أن الملك يكتب رزقه وأجله، وعمله وشقي أو سعيد، قبل نفخ الروح وبعد أن يكون مضغة‏.‏

وحديث أنس بن مالك الذي في الصحيح يوافق هذا وهو مرفوع قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه عز وجل وكل بالرحم ملكا فيقول‏:‏ أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد اللّه أن يقضي خلقها قال الملك‏:‏ أي رب، ذكر أم أنثى ‏؟‏ شقي أو سعيد ‏؟‏ فما الرزق فما الأجل‏؟‏ فيكتب كذلك في بطن أمه‏)‏‏.‏ فبين في هذا أن الكتابة تكون بعد أن يكون مضغة‏.‏

وأما حديث حذيفة بن أسيد، فهو من أفراد مسلم، ولفظه‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث اللّه إليها ملكًا، فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها‏.‏ ثم يقول‏:‏ يا رب، أذكر أم أنثى ‏؟‏ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول‏:‏ يارب، رزقه‏؟‏ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك؛ ثم يقول‏:‏ يا رب، أجله‏؟‏ فيقضي/ ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص‏)‏‏.‏

فهذا الحديث، فيه أن تصويرها بعد اثنتين وأربعين ليلة، وأنه بعد تصويرها وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها، يقول الملك‏:‏ يا رب، أذكر أم أنثى‏؟‏ ومعلوم أنها لا تكون لحما وعظامًا حتى تكون مضغة، فهذا موافق لذلك الحديث في أن كتابة الملك تكون بعد ذلك، إلا أن يقال‏:‏ المراد تقدير اللحم والعظام‏.‏

وقد روى هذا الحديث بألفاظ فيها إجمال بعضها أبين من بعض، فمن ذلك ما رواه مسلم ـ أيضًا ـ عن حذيفة، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏: ‏‏(‏إن النطفة تكون في الرحم أربعين ليلة، ثم يَتَسَوَّرُ عليها الذي يخلِّقها فيقول‏:‏ يا رب، أذكر، أم أنثى‏؟‏ فيجعله اللّه ذكرًا، أو أنثى‏.‏ ثم يقول‏:‏ يا رب، سوَىٌّ، أو غير سوَىٌّ ‏؟‏ فيجعله اللّه ـ تعالى ـ سويًا أو غير سوي ثم يقول‏:‏ يا رب، ما أجله وخلقه‏؟‏ ثم يجعله اللّه شقيًا أو سعيدًا‏)‏ ‏[يَتَسَوَّرُ عليها، أي‏:‏ ينزل عليها‏]‏‏.‏

فهذا فيه بيان أن كتابة رزقه وأجله، وشقاوته وسعادته، بعد أن يجعله ذكرًا أو أنثى، وسويًا، أو غير سوي‏.‏

وفي لفظ لمسلم قال‏:‏ ‏(‏يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين ليلة أو بخمس وأربعين ليلة‏.‏ فيقول‏:‏ يا رب، أشقي، أو سعيد ‏؟‏ فيكتب‏.‏ يا رب، أذكر، أم أنثى ‏؟‏ فيكتب رزقه، ويكتب عمله، وأثره، وأجله، / ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص‏)‏ فهذا اللفظ فيه تقديم كتابة السعادة والشقاوة، ولكن يشعر بأن ذلك يكتب بحيث مضت الأربعون‏.‏

ولكن هذا اللفظ لم يحفظه رواته كما حفظ غيره‏.‏

ولهذا شك‏:‏ أبَعْدَ الأربعين، أو خمس وأربعين‏؟‏ وغيره إنما ذكر أربعين، أو اثنين وأربعين، وهو الصواب ؛ لأن من ذكر اثنين وأربعين ذكر طرفى الزمان، ومن قال‏:‏ أربعين حذفهما، ومثل هذا كثير في ذكر الأوقات، فقدم المؤخر وأخر المقدم‏.‏ أو يقال‏:‏ إنه لم يذكر ذلك بحرف‏ [‏ثم]‏ فلا تقتضي ترتيبًا، وإنما قصد أن هذه الأشياء تكون بعد الأربعين‏.‏

وحينئذ فيقال‏:‏ أحد الأمرين لازم، إما أن تكون هذه الأمور عقيب الأربعين، ثم تكون عقب المائة والعشرين، ولا محذور في الكتابة مرتين، ويكون المكتوب أولا فيه كتابة الذكر والأنثى‏.‏ أو يقال‏:‏ إن ألفاظ هذا الحديث لم تضبط حق الضبط‏.‏

ولهذا اختلفت رواته في ألفاظه، ولهذا أعرض البخاري عن روايته، وقد يكون أصل الحديث صحيحًا، ويقع في بعض ألفاظه اضطراب، فلا يصلح حينئذ أن يعارض بها ما ثبت في الحديث الصحيح المتفق عليه، الذي لم تختلف ألفاظه، بل قد صدقه غيره من الحديث الصحيح، فقد تلخص الجواب أن ما عارض الحديث المتفق عليه‏:‏ إما أن يكون موافقًا له في الحقيقة، وإما أن يكون/ غير محفوظ، فلا معارضة، ولا ريب أن ألفاظه لم تضبط، كما تقدم ذكر الاختلاف فيها، وأقربها اللفظ الذي فيه تقدم التصوير على تقدير الأجل والعمل، و الشقاوة والسعادة، وغاية ما يقال فيه‏:‏ إنه يقتضي أنه قد يخلق في الأربعين الثانية قبل دخوله في الأربعين الثالثة، وهذا لا يخالف الحديث الصحيح، ولا نعلم أنه باطل، بل قد ذكر النساء‏:‏ أن الجنين يخلق بعد الأربعين، وأن الذكر يخلق قبل الأنثى‏.‏

وهذا يقدم على قول من قال من الفقهاء‏:‏ إن الجنين لا يخلق في أقل من واحد وثمانين يومًا، فإن هذا إنما بنوه على أن التخليق إنما يكون إذا صار مضغة، ولا يكون مضغة إلا بعد الثمانين، والتخليق ممكن قبل ذلك، وقد أخبر به من أخبر من النساء، ونفس العلقة يمكن تخليقها، واللّه أعلم، وصلى اللّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم‏.‏

/ وقالَ شَيْخُ الإِسْلامِ ـ رَحمهُ اللَّهُ ـ ردًا لقول من قال‏:‏ كل مولود على ما سبق له في علم اللّه أنه سائر إليه‏:‏ معلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة، فجميع البهائم هي مولودة على ما سبق في علم اللّه لها، وحينئذ فيكون كل مخلوق مخلوقًا على الفطرة‏.‏

وأيضًا، فلو كان المراد ذلك لم يكن لقوله‏:‏ ‏(‏فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسَانه‏)‏ معنى، فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها، فلا فرق بين التهويد والتنصير‏.‏ ثم قال‏:‏ فتمثيله صلى الله عليه وسلم بالبهيمة التي ولدت جَمَعاء، ثم جدعت‏:‏ يبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه‏.‏

ثم يقال‏:‏ وقولكم‏:‏ خلقوا خالين من المعرفة والإنكار، من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدًا منهما، بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابة الإيمان والكفر، وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر، فهذا قول فاسد جدًا‏.‏

/ فحينـئذ، لا فـرق بالنسبة إلى الفطـرة بين المعـرفة والإنكار، والتهويد والتنصير، والإسلام، وإنما ذلك بحسب الأسباب، فكان ينبغي أن يقال‏:‏ فأبواه يسلمانه ويهودانه وينصرانه، فلما ذكر أن أبويه يكفرانه، وذكر الملل الفاسدة دون الإسلام، علم أن حكمه في حصول سبب مفصل غير حكم الكفر‏.‏

ثم قال‏:‏ ففي الجملة كل ما كان قابلًا للمدح والذم على السواء، لا يستحق مدحًا ولا ذمًا، واللّه تعالى يقول‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏30‏].‏

وأيضًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم شبهها بالبهيمة المجتمعة الخلق، وشبه ما يطرأ عليها من الكفر بجَدْع الأنف، ومعلوم أن كمالها محمود، ونقصها مذموم، فكيف تكون قبل النقص لا محمودة ولا مذمومة‏؟‏ واللّه أعلم‏.‏

/ سُئِلَ عَن قَوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة‏)‏ ما معناه‏؟‏ أراد فطرة الخلق أم فطرة الإسلام‏؟‏ وفي قوله‏: ‏‏(‏الشقي من شقي في بطن أمه‏)‏ الحديث‏.‏ هل ذلك خاص أو عام‏.‏ وفي البهائم والوحوش هل يحييها اللّه يوم القيامة أم لا‏؟‏

فأجــاب‏:‏ الحمد للّه؛ أما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه‏)‏‏:‏ فالصواب أنها فطرة اللّه التي فطر الناس عليها، وهي فطرة الإسلام، وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال‏:‏ ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏172‏]‏ وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول للعقائد الصحيحة‏.‏

فإن حقيقة الإسلام أن يستسلم للّه، لا لغيره، وهو معنى لا إله إلا اللّه، وقد ضرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال‏:‏ ‏(‏كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء‏؟‏‏)‏‏:‏ بين أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن، وأن العيب حادث طارئ‏.‏

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن اللّه‏: ‏‏(‏إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت /عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا‏)‏؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد ـ رضي اللّه عنه ـ في المشهور عنه‏:‏ إلى أن الطفل متى مات أحد أبويه الكافرين حكم بإسلامه؛ لزوال الموجب للتغيير عن أصل الفطرة‏.‏ وقد روى عنه، وعن ابن المبارك، وعنهما‏:‏ أنهم قالوا‏:‏ يولد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة‏.‏ وهذا القول لا ينافى الأول، فإن الطفل يولد سليما، وقد علم اللّه أنه سيكفر، فلابد أن يصير إلى ما سبق له في أم الكتاب، كما تولد البهيمة جمعاء، وقد علم اللّه أنها ستجدع‏.‏

وهذا معنى ما جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنهما ـ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الغلام الذي قتله الخضر‏:‏ ‏(‏طبع يوم طبع كافرًا، ولو ترك لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا‏)‏ يعني‏:‏ طبعه اللّه في أم الكتاب، أي‏:‏ كتبه وأثبته كافرًا، أي أنه إن عاش كفر بالفعل‏.‏

ولهذا لما سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عمن يموت من أطفال المشركين وهو صغير قال‏:‏ ‏(‏اللّه أعلم بما كانوا عاملين‏)‏ أي‏:‏ اللّه يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر لو بلغوا، ثم إنه قد جاء في حديث إسناده مقارب عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا كان يوم القيامة فإن اللّه يمتحنهم ويبعث إليهم رسولًا في عَرْصَة القيامة، فمن أجابه أدخله الجنة ومن عصاه أدخله النار‏)‏ فهنالك يظهر فيهم ما علمه اللّه سبحانه، ويجزيهم على ما ظهر من العلم وهو إيمانهم وكفرهم، لا على مجرد العلم‏.‏

/ وهذا أجود ما قيل في أطفال المشركين، وعليه تتنزل جميع الأحاديث ‏.‏

ومثل الفطرة مع الحق، مثل ضوء العين مع الشمس، وكل ذي عين لو ترك بغير حجاب لرأى الشمس، والاعتقادات الباطلة العارضة من تهود وتنصر وتمجس، مثل حجاب يحول بين البصر ورؤية الشمس، وكذلك أيضًا كل ذي حس سليم يحب الحلو، إلا أن يعرض في الطبيعة فساد يحرفه حتى يجعل الحلو في فمه مرًا‏.‏

ولا يلزم من كونهم مولودين على الفطرة أن يكونوا حين الولادة معتقدين للإسلام بالفعل، فإن اللّه أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، ولكن سلامة القلب وقبوله وإرادته للحق، الذي هو الإسلام، بحيث لو ترك من غير مغير، لما كان إلا مسلمًا‏.‏

وهذه القوة العلمية العملية التي تقتضي بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع، هي فطرة اللّه التي فطر الناس عليها‏.‏

وأما الحديث المذكور، فقد صح عن ابن مسعود أنه كان يقول‏:‏ الشقي من شقى في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره‏.‏ وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ حدثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ وهو الصادق المصدوق‏:‏ ‏(‏إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، / ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال‏:‏اكتب رزقه وأجله، وعمله وشقي أو سعيد‏.‏ ثم ينفخ فيه الروح‏)‏‏.‏

وهذا عام في كل نفس منفوسة، قد علم اللّه ـ سبحانه بعلمه الذي هو صفة له ـ الشقي من عباده والسعيد، وكتب ـ سبحانه ـ ذلك في اللوح المحفوظ، ويأمر الملك أن يكتب حال كل مولود، ما بين خلق جسده ونفخ الروح فيه، إلى كتب أخرى يكتبها اللّه ليس هذا موضعها، ومن أنكر العلم القديم في ذلك فهو كافر‏.‏

وأما البهائم فجميعها يحشرها اللّه ـ سبحانه ـ كما دل عليه الكتاب والسنة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏38‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 5‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏29‏]‏ وحرف ‏[‏إذا]‏ إنما يكون لما يأتي لا محالة‏.‏

والأحاديث في ذلك مشهورة، فإن اللّه ـ عز وجل ـ يوم القيامة يحشر البهائم ويقتص لبعضها من بعض، ثم يقول لها‏:‏ كوني ترابًا، فتصير ترابًا‏.‏ فيقول الكافر حينئذ‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏40‏]‏‏.‏ ومن قال‏:‏ إنها لا تحيا فهو مخطئ في ذلك أقبح خطأ، بل هو ضال أو كافر، واللّه أعلم‏.‏

/  وقال أيضًا ـ رحمه اللّه‏:‏ (‏كل مولود يولد على الفطرة‏)‏، فإنه ـ سبحانه ـ فطر القلوب على أن ليس في محبوباتها ومراداتها ما تطمئن إليه، وتنتهي إليه إلا اللّه، وإلا فكل ما أحبه المحب يجد من نفسه أن قلبه يطلب سواه، ويحب أمرًا غيره يتألهه ويصمد إليه، ويطمئن إليه ويرى ما يشبهه من أجناسه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏28‏]‏‏.‏

/ قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ ـ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ‏:‏

فَصــل

ذكر اللّه الحفظة الموكلين ببني آدم، الذين يحفظونهم ويكتبون أعمالهم، في مواضع من كتابه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ‏}‏، ‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏60، 61‏]‏، وقال تعالى‏:‏

‏{‏سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏10، 11‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 9ـ12]‏ ‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏1ـ4‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏16ـ18‏]‏، وقال تعالى‏:‏ /‏{‏وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا‏.‏ اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏13، 14‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ‏.‏ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏28ـ29‏]‏ ،وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ‏.‏ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏52، 53‏]‏، وقال تعالى‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض‏]‏‏.‏

/ سُئِلَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ‏:‏

هل الملائكة الموكلون بالعبد هم الموكلون دائما، أم كل يوم ينزل اللّه إليه ملكين غير أولئك ‏؟‏ وهل هو موكل بالعبد ملائكة بالليل وملائكة بالنهار‏؟‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏61‏]‏، فما معنى الآية‏؟‏

فأجَــابَ‏:‏ الحمد للّه، الملائكة أصناف، منهم من هو موكل بالعبد دائمًا، ومنهم ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، فيسألهم ـ وهو أعلم بهم ـ كيف تركتم عبادي ‏؟‏ فيقولون‏:‏ أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون، ومنهم ملائكة فضل عن كتاب الناس يتبعون مجالس الذكر‏.‏

وأعمال العباد تجمع جملة وتفصيلًا، فترفع أعمال الليل قبل أعمال النهار، وأعمال النهار قبل أعمال الليل، تعرض الأعمال على اللّه في كل يوم اثنين وخميس، فهذا كله مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وأما أنه كل يوم تبدل عليه الملكان، فهذا لم يبلغنا فيه شيء، واللّه أعلم‏.‏

/ سُئلَ عَنْ قَوْله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا هم العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة‏)‏ الحديث‏.‏ فإذا كان الهمّ سرًا بين العبد وبين ربه فكيف تطلع الملائكة عليه‏؟‏

فَأَجَــابَ‏:‏ الحمد للّه، قد روى عن سفيان بن عيينة في جواب هذه المسألة قال‏:‏ إنه إذا هم بحسنة شم الملك رائحة طيبة، وإذا هم بسيئة شم رائحة خبيثة‏.‏

والتحقيق أن اللّه قادر أن يعلم الملائكة بما في نفس العبد كيف شاء، كما هو قادر على أن يطلع بعض البشر على ما في الإنسان‏.‏

فإذا كان بعض البشر قد يجعل اللّه له من الكشف ما يعلم به أحيانًا ما في قلب الإنسان ـ فالملك الموكل بالعبد أولى بأن يعرفه اللّه ذلك ‏.‏

وقد قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏16‏]‏ أن المراد به‏:‏ الملائكة، واللّه قد جعل الملائكة تلقي في نفس العبد الخواطر، كما قال عبد اللّه بن مسعود‏:‏‏(‏إن للملك لمّةً، وللشيطان لمةً، فَلمّة الملك تصديق بالحق ووعد / بالخير، ولمة الشيطان تكذيب بالحق وإيعاد بالشر‏)‏‏.‏ وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏‏(‏ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الملائكة، وقرينه من الجن‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ وإياك يا رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏وأنا، إلا أن اللّه قد أعانني عليه، فلا يأمرني إلا بخير‏)‏‏.‏

فالسيئة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الشيطان، علم بها الشيطان‏.‏

والحسنة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الملك، علم بها الملك أيضًا ،بطريق الأولى، وإذا علم بها هذا الملك، أمكن علم الملائكة الحفظة لأعمال بني آدم‏.‏

/  سُئِلَ عَنْ عَرْضِ الأدْيَانَ عَنْدَ الْمَوْتِ‏:‏ هل لذلك أصل في الكتاب والسنة أم لا ‏؟‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنكم لتفتنون في قبوركم‏)‏ ما المراد بالفتنة ‏؟‏ وإذا ارتد العبد ـ والعياذ باللّه ـ هل يجازى بأعماله الصالحة قبل الردة أم لا ‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

فأجَــابَ‏:‏ الحمد للّه رب العالمين، أما عرض الأديان على العبد وقت الموت فليس هو أمرًا عامًا لكل أحد، ولا هوـ أيضًا ـ منتفيًا عن كل أحد، بل من الناس من تعرض عليه الأديان قبل موته، ومنهم من لا تعرض عليه، وقد وقع ذلك لأقوام‏.‏ وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا‏.‏

منها‏:‏ ما في الحديث الصحيح‏:‏ أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ في صلاتنا من أربع‏:‏ من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال‏.‏ ولكن وقت الموت أحرص ما يكون الشيطان على إغواء بني آدم؛ لأنه وقت الحاجة‏.‏

/ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏الأعمال بخواتيمها‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها‏)‏‏.‏

ولهذا روى‏:‏ ‏[‏أن الشيطان أشد ما يكون على ابن آدم حين الموت، يقول لأعوانه‏:‏ دونكم هذا، فإنه إن فاتكم لن تظفروا به أبدًا‏]‏‏.‏

وحكاية عبد اللّه بن أحمد بن حنبل مع أبيه وهو يقول‏:‏لا، بعد، لا، بعد، مشهورة‏.‏

ولهذا يقال‏:‏ إن من لم يحج يخاف عليه من ذلك؛ لما روى أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من ملك زادًا أو راحلة تبلغه إلى بيت اللّه الحرام ولم يحج، فَلْيَمُتْ إن شاء يهوديًا، وإن شاء نصرانيًا‏)‏‏.‏

قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏97‏]‏، قال عكرمة لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏85‏]‏‏.‏ قالت اليهود والنصارى‏:‏ نحن مسلمون‏.‏ فقال اللّه لهم‏:‏ ‏{‏وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ‏}‏ فقالوا‏:‏ لا نحجه‏.‏ فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

/ وأما الفتنة في القبور فهي الامتحان والاختبار للميت، حين يسأله الملكان، فيقولان له‏:‏ ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم ‏[‏محمد]‏‏؟‏ فيثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول المؤمن‏:‏ اللّه ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيى، ويقول‏:‏ هو محمد رسول اللّه، جاءنا بالبينات والهدى، فآمنا به واتبعناه‏.‏ فينتهرانه انتهارة شديدة ـ وهي آخر فتنة التي يفتن بها المؤمن ـ فيقولان له كما قالا أولا ‏.‏

وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفتنة من حديث البراء بن عازب، وأنس بن مالك، وأبي هريرة وغيرهم ـ رضى اللّه عنهم ـ وهي عامة للمكلفين، إلا النبيين فقد اختلف فيهم‏.‏ وكذلك اختلف في غير المكلفين، كالصبيان والمجانين، فقيل‏:‏ لا يفتنون؛ لأن المحنة إنما تكون للمكلفين، وهذا قول القاضي وابن عَقِيل‏.‏

وعلى هذا فلا يُلَقَّنون بعد الموت‏.‏ وقيل‏:‏ يلقنون ويفتنون أيضًا، و هذا قول أبي حكيم، وأبي الحسن بن عبدوس، ونقله عن أصحابه، وهو مطابق لقول من يقول‏:‏ إنهم يكلفون يوم القيامة، كما هو قول أكثر أهل العلم، وأهل السنة، من أهل الحديث والكلام‏.‏ وهو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري ـ رضي اللّه عنه ـ عن أهل السنة، واختاره، وهو مقتضى نصوص الإمام أحمد ‏.‏

وأما الردة عن الإسلام بأن يصير الرجل كافرًا مشركًا، أو كتابيًا ،/فإنه إذا مات على ذلك حبط عمله باتفاق العلماء، كما نطق بذلك القرآن في غير موضع، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏5‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏88‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏65‏]‏‏.‏

ولكن تنازعوا فيما إذا ارتد، ثم عاد إلى الإسلام هل تحبط الأعمال التي عملها قبل الردة أم لا تحبط إلا إذا مات مرتدًا‏؟‏ على قولين مشهورين، هما قولان في مذهب الإمام أحمد، والحبوط‏:‏ مذهب أبي حنيفة ومالك‏.‏ والوقوف‏:‏ مذهب الشافعي ‏.‏

وتنازع الناس ـ أيضًا ـ في المرتد‏.‏ هل يقال‏:‏ كان له إيمان صحيح يحبط بالردة‏؟‏ أم يقال‏:‏ بل بالردة تبيَّنا أن إيمانه كان فاسدا‏؟‏ وأن الإيمان الصحيح لا يزول البتة‏؟‏ على قولين لطوائف الناس، وعلى ذلك يبنى قول المستثنى‏:‏ أنا مؤمن ـ إن شاء اللّه‏.‏ هل يعود الاستثناء إلى كمال الإيمان ‏؟‏ أو يعود إلى الموافاة في المآل، واللّه أعلم‏.

وسُئِلَ‏:‏

هَل جَمِيعُ الْخَلْقِ ـ حَتَّى المَلاَئِكَةِ ـ يَمُوتُونَ ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الذي عليه أكثر الناس‏:‏ أن جميع الخلق يموتون حتى الملائكة، وحتى عزرائيل ملك الموت، وروى في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والمسلمون واليهود والنصارى متفقون على إمكان ذلك وقدرة اللّه عليه، وإنما يخالف في ذلك طوائف من المتفلسفة، أتباع أرسطو وأمثالهم، ومن دخل معهم من المنتسبين إلى الإسلام، أو اليهود، والنصارى، كأصحاب ‏[‏رسائل إخوان الصفا‏]‏ وأمثالهم ممن زعم أن الملائكة هي العقول والنفوس، وأنه لا يمكن موتها بحال، بل هي عندهم آلهة وأرباب لهذا العالم‏.‏

والقرآن وسائر الكتب تنطق بأن الملائكة عبيد مدبرون، كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 172‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26ــ 28‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 62‏]‏‏.‏

واللّه ـ سبحانه ـ قادر على أن يميتهم ثم يحييهم، كما هو قادر على إماتة البشر والجن ثم إحيائهم‏.‏ وقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه وعن غير واحد من الصحابة أنه قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه إذا تكلم بالوحي أخذ الملائكة مثل الغَشْى‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏إذا سمعت الملائكة كلامه صُعِقوا‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏سمعت الملائكة كجَرِّ السلسلة على الصَّفْوَان فيصعقون فإذا فُزِّع عن قلوبهم‏)‏ أي‏:‏ أزيل الفزع عن قلوبهم ‏(‏قالوا‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ الحق‏.‏ فينادون‏:‏ الحق، الحق‏)‏، فقد أخبر في هذه الأحاديث الصحيحة أنهم يُصْعَقُون صَعْق الغشي، فإذا جاز عليهم صعق الغشى جاز صعق الموت، وهؤلاء المتفلسفة لا يجوزون لا هذا ولا هذا، وصعق الغشى هو مثل صعق موسى ـ عليه السلام ـ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 143‏]‏‏.‏

والقرآن قد أخبر بثلاث نفخات‏:‏

نفخة الفزع ذكرها في سورة النمل في قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏‏.‏

/ونفخة الصعق والقيام ذكرهما في قوله‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏

وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين، فإن الجنة ليس فيها موت، ومتناول لغيرهم‏.‏ ولا يمكن الجزم بكل من استثناه اللّه، فإن اللّه أطلق في كتابه‏.‏

وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الناس يُصْعَقُون يوم القيامة فأكون أول من يُفِيق فأجد موسى آخذاً بساق العرش، فلا أدرى هل أفاق قبلي أم كان ممن استثناه اللّه‏؟‏‏)‏‏.‏ وهذه الصعقة قد قيل‏:‏ إنها رابعة، وقيل‏:‏ إنها من المذكورات في القرآن‏.‏

وبكل حال‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في موسى، وهل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه اللّه أم لا ‏؟‏ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بكل من استثنى اللّه، لم يمكنا نحن أن نجزم بذلك، وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة، وأعيان الأنبياء، وأمثال ذلك مما لم يخبر به، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر، واللّه أعلم، وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

/ قَالَ شِيْخُ الإِسْلاَمِ تَقِي الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بن تَيْميَّة ـ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏

فصــل

مذهب سائر المسلمين ـ بل وسائر أهل الملل ـ إثبات القيامة الكبرى، وقيام الناس من قبورهم، والثواب والعقاب هناك، وإثبات الثواب والعقاب في البرزخ ـ ما بين الموت إلى يوم القيامة ـ هذا قول السلف قاطبة وأهل السنة والجماعة، وإنما أنكر ذلك في البرزخ قليل من أهل البدع‏.‏

لكن من أهل الكلام من يقول‏:‏ هذا إنما يكون على البدن فقط، كأنه ليس عنده نفس تفارق البدن، كقول من يقول ذلك من المعتزلة والأشعرية‏.‏

ومنهم من يقول‏:‏ بل هو على النفس فقط، بناء على أنه ليس في البرزخ عذاب على البدن ولا نعيم، كما يقول ذلك ابن ميسرة، وابن حزم‏.‏

/ ومنهم من يقول‏:‏ بل البدن ينعم ويعذب بلا حياة فيه، كما قاله طائفة من أهل الحديث، وابن الزاغوني يميل إلى هذا في مصنفه في حياة الأنبياء في قبورهم، وقد بسط الكلام على هذا في مواضع‏.‏

والمقصود هنا أن كثيراً من أهل الكلام ينكر أن يكون للنفس وجود بعد الموت، ولا ثواب ولا عقاب، ويزعمون أنه لم يدل على ذلك القرآن والحديث، كما أن الذين أنكروا عذاب القبر والبرزخ مطلقاً زعموا أنه لم يدل على ذلك القرآن، وهو غلط، بل القرآن قد بين في غير موضع بقاء النفس بعد فراق البدن، وبين النعيم والعذاب في البرزخ‏.‏

وهو ـ سبحانه ـ وتعالى في السورة الواحدة يذكر[القيامة الكبرى‏] و[‏الصغرى‏] ‏كما في سورة الواقعة، فإنه ذكر في أولها القيامة الكبرى، وأن الناس يكونون أزواجاً ثلاثة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 1-7‏]‏‏.‏

ثم إنه في آخرها ذكر القيامة الصغرى بالموت، وأنهم ثلاثة أصناف بعد الموت، فقال‏:‏ ‏{‏فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 83-94‏]‏، فهذا فيه أن النفس تبلغ الحلقوم وأنهم لا يمكنهم رجعها، وبين حال المقربين وأصحاب اليمين والمكذبين حينئذ‏.‏

وفي سورة القيامة‏:‏ ذكر أيضاً القيامتين فقال‏:‏ ‏{‏لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 1‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 2‏]‏ وهي نفس الإنسان‏.‏

وقد قيل‏:‏ إن النفس تكون لوامة، وغير لوامة، وليس كذلك، بل نفس كل إنسان لوامة، فإنه ليس بشر إلا يلوم نفسه ويندم إما في الدنيا، وإما في الآخرة، فهذا إثبات النفس‏.‏ ثم ذكر معاد البدن فقال‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ‏} ‏‏[‏القيامة‏:‏ 3]‏‏.‏

ثم ذكر الموت فقال‏:‏ ‏{‏كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 26‏]‏ وهذا إثبات للنفس وأنها تبلغ التراقى كما قال هناك‏:‏ ‏{‏بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 83‏]‏‏.‏ والتراقي متصلة بالحلقوم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 27‏]‏ يرقيها، وقيل‏:‏ من صاعد يصعد بها إلى اللّه، والأول أظهر؛ لأن هذا قبل الموت، فإنه قال‏:‏ ‏{‏وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 28‏]‏ فدل على أنهم يرجونه ويطلبون له راقياً يرقيه، وأيضاً فصعودها لا يفتقر إلى طلب من يرقى بها، فإن للّه ملائكة يفعلون ما يؤمرون، والرقية أعظم الأدوية فإنها دواء / روحاني؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في صفة المتوكلين‏:‏ ‏(‏لا يسترقون‏)‏‏.‏ والمراد أنه يخاف الموت، ويرجو الحياة بالراقي؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ‏}.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ‏}‏ ‏[‏القيامة 29، 30‏]‏‏.‏

فدل على نفس موجودة قائمة بنفسها تساق إلى ربها، والعرض القائم بغيره لا يساق، ولا بدن الميت، فهذا نص في إثبات نفس تفارق البدن تساق إلى ربها، كما نطقت بذلك الأحاديث المستفيضة في قبض روح المؤمن وروح الكافر‏.‏

ثم ذكر بعد هذا صفة الكافر بقوله مع هذا الوعيد الذي قدمه‏:‏ ‏{‏فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 31‏]‏ وليس المراد أن كل نفس من هذه النفوس كذلك‏.‏

وكذلك سورة [‏ق‏] هي في ذكر وعيد القيامة، ومع هذا قال فيها‏:‏ ‏{‏وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 19‏]‏، ثم قال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 20‏]‏، فذكر القيامتين‏:‏ الصغرى والكبرى، وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ جاءت بما بعد الموت من ثواب وعقاب، وهو الحق الذي أخبرت به الرسل، ليس مراده أنها جاءت بالحق الذي هو الموت؛ فإن هذا مشهور لم ينازع فيه، ولم يقل أحد‏:‏ إن الموت باطل حتى يقال‏:‏ جاءت بالحق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ‏}‏، فالإنسان وإن كره الموت فهو يعلم أنه تلاقيه ملائكته، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 99‏]‏ واليقين‏:‏ /ما بعد الموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما عثمان بن مظعون فقد جاءه اليقين من ربه‏)‏،

وإلا فنفس الموت ـ مجرد عما بعده ـ أمر مشهور لم ينازع فيه أحد حتى يسمى يقينًا‏.‏

وذكر عذاب القيامة والبرزخ معاً في غير موضع؛ ذكره في قصة آل فرعون فقال‏:‏ ‏{‏وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ‏}‏‏[‏غافر‏:‏ 45، 46‏]‏،

وقال في قصة نوح‏:‏ ‏{‏مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 25‏]‏ مع إخبار نوح لهم بالقيامة في قوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏

وقد ذكرنا ـ في غير موضع ـ أن الرسل قبل محمد أنذروا بالقيامة الكبرى تكذيباً لمن نفى ذلك من المتفلسفة، وقال عن المنافقين‏:‏ ‏{‏سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 101‏]‏‏.‏ قال غير واحد من العلماء‏:‏ المرة الأولى في الدنيا، والثانية في البرزخ ‏{‏ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ‏}‏ في الآخرة‏.‏

وقال تعالى في الأنعام‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 93، 94‏]‏، وهذه صفة حال الموت وقوله‏:‏ /‏{‏أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ‏}‏ دل على وجود النفس التي تخرج من البدن، وقوله‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ‏}‏ دل على وقوع الجزاء عقب الموت‏.‏

وقال تعالى في الأنفال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 50، 51‏]‏ وهذا ذوق له بعد الموت‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى المشركين يوم بدر في القليب ناداهم‏:‏ ‏(‏يا فلان، يا فلان، هل وجدتم ما وعد ربكم حقّا‏؟‏ فقد وجدت ما وعدني ربي حقا‏)‏‏.‏ وهذا دليل على وجودهم وسماعهم، وأنهم وجدوا ما وعدوه بعد الموت من العذاب، وأما نفس قتلهم فقد علمه الأحياء منهم‏.‏

وقال تعالى في سورة النساء‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97‏]‏، وهذا خطاب لهم إذا توفتهم الملائكة، وهم لا يعاينون الملائكة إلا وقد يئسوا من الدنيا، ومعلوم أن البدن لم يتكلم لسانه، بل هو شاهد، يعلم أن الذي يخاطب الملائكة هو النفس، والمخاطب لا يكون عرضاً‏.‏

وقال تعالى في النحل‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 28، 29‏]‏‏.‏ وهذا إلقاء للسلم إلى حين الموت، وقولٌ للملائكة‏:‏ ‏{‏مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ‏}‏ وهذا إنما يكون من النفس‏.‏

وقد قال في النحل‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 32‏]‏، وقال في السجدة‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 30، 31‏] ‏وقد ذكروا أن هذا التنزل عند الموت‏.‏

وقال تعالى في سورة آل عمران‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169-171‏]‏ ، وقال قبل ذلك في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 154‏]‏‏.‏

وأيضاً، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏، وهذا /بيان لكون النفس تقبض وقت الموت، ثم منها ما يمسك فلا يرسل إلى بدنه، وهو الذي قضى عليه الموت، ومنها ما يرسل إلى أجل مسمى، وهذا إنما يكون في شىء يقوم بنفسه، لا في عَرَض قائم بغيره، فهو بيان لوجود النفس المفارقة بالموت‏.‏

والأحاديث الصحيحة توافق هذا، كقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏باسمك ربي وَضَعْتُ جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكتَ نَفْسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين‏)‏‏.‏ وقال ـ لما ناموا عن صلاة الصبح‏:‏ ‏(‏إن اللّه قبض أرواحنا حيث شاء‏)‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 60-62‏]‏ ، فهذا تَوَفٍّ لها بالنوم إلى أجل الموت الذي ترجع فيه إلى اللّه، وإخبار أن الملائكة تتوفاها بالموت ثم يردون إلى اللّه، والبدن وما يقوم

به من الأعراض لا يرد، إنما يرد الروح‏.‏

وهو مثل قوله في يونس‏:‏ ‏{‏وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 30‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 8‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27-30‏]‏، وقال تعالى‏:‏

‏{‏قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 11‏]‏، وَتوفى الملك إنما يكون لما هو موجود قائم بنفسه، وإلا فالعَرَض القائم بغيره لا يتوفى، فالحياة القائمة بالبدن لا تتوفى، بل تزول وتعدم كما تعدم حركته وإدراكه‏.‏

وقال تعالى في المؤمنين‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99 ،100‏]‏

، فقوله‏:‏ ‏{‏ارْجِعُونِ‏}‏ طلب لرجع النفس إلى البدن، كما قال في الواقعة‏:‏ ‏{‏فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 86، 87‏]‏‏.‏

وهو يبين أن النفـس موجودة تفارق البـدن بالموت، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏‏.‏ آخره‏.‏

والحمد للّه رب العالمين، وصلى اللّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم‏.‏

/ سُئلَ شَيْخُ الإسْلاَم ـ رَحمَهُ اللَّه ـ عن‏ [‏الروح المؤمنة‏] ‏أن الملائكة تتلقاها وتصعد بها إلى السماء التي فيها الله‏.‏

فأَجَـابَ‏:‏

أما الحديث المذكور في ‏(‏قبض روح المؤمن، وأنه يصعد بها إلى السماء التي فيها اللّه‏)‏‏:‏ فهذا حديث معروف جيد الإسناد، وقوله‏:‏ ‏(‏فيها اللّه‏)‏ بمنزلة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ‏.‏ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16، 17‏]‏، وبمنزلة ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجارية معاوية بن الحكم‏:‏ ‏(‏أين اللّه‏؟‏‏)‏، قالت‏:‏ في السماء، قال‏:‏ ‏(‏من أنا‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ أنت رسول اللّه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أعتقها فإنها مؤمنة‏)‏‏.‏

وليس المراد بذلك أن السماء تحصر الرب وتحويه، كما تحوي الشمس والقمر وغيرهما، فإن هذا لا يقوله مسلم، ولا يعتقده عاقل، فقد قال ـ سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ‏}‏‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏، والسموات في الكرسي كحلقة ملقاة في أرض فَلاة [الفَلاة‏:‏ الأرض لا ماء فيها]‏، والكـرسي فـي الـعرش كحـلقة ملقاة في أرض فلاة، والرب / ـ سبحانه ـ فوق سمواته، على عرشه، بائن من خلقه؛ ليس في مخلوقاته شىء من ذاته، ولا في ذاته شىء من مخلوقاته‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 71‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فّسٌيحُوا فٌي الأّرضٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 2‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 26‏]‏ وليس المراد أنهم في جوف النخل، وجوف الأرض، بل معنى ذلك أنه فوق السموات، وعليها، بائن من المخلوقات، كما أخبر في كتابه عن نفسه أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 55‏]‏، وقال تعالى‏}‏ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 158‏]‏، وأمثال ذلك في الكتاب والسنة وجواب هذه المسألة مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

/ سُئِلَ‏:‏

هَلْ يَتَكَلَّمُ الْمَيتُ فِى قَبْرِهِ‏؟‏

فقـــال‏:‏

وأما سؤال السائل‏:‏ هل يتكلم الميت في قبره، فجوابه‏:‏ أنه يتكلم، وقد يسمع ـ أيضاً ـ من كلمه، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنهم يسمعون قَرْع نعالهم‏)‏ ، وثبت عنه في الصحيح أن الميت يسأل في قبره، فيقال له‏:‏ من ربك، وما دينك، ومن نبيك، فيثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول‏:‏ اللّه ربي، والإسلام ديني، ومحمد نبيي، ويقال له‏:‏ ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم، فيقول المؤمن‏:‏ هو عبد اللّه ورسوله، جاءنا بالبينات والهدى، فآمنا به واتبعناه، وهذا تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها نزلت في عذاب القبر، وكذلك يتكلم المنافق فيقول‏:‏ آه، آه، لا أدرى ‏!‏ سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته؛ فيضرب بِمِرْزَبةٍ من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شىء إلا الإنسان‏.‏

وثبت عنه في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏لولا ألا تدافنوا، لسألت اللّه أن يسمعكم عذاب القبر مثل الذي أسمع‏)‏، وثبت عنه في الصحيح أنه نادى المشركين يوم بدر، لما ألقاهم في القَلِيب، وقال‏:‏ ‏(‏ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏)‏‏.‏ والآثار في هذا كثيرة منتشرة، واللّه أعلم‏.‏

/ سُئِلَ شَيْخُ الإسْلاَم ـ رَحمهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ عن سؤال منكر ونكير الميت إذا مات؛ تدخل الروح في جسده ويجلس ويجاوب منكراً ونكيراً، فيحتاح موتًا ثانياً‏؟‏

فَأَجَــابَ‏:‏

عود الروح إلى بدن الميت في القبر ليس مثل عودها إليه في هذه الحياة الدنيا، وإن كان ذاك قد يكون أكمل من بعض الوجوه، كما أن النشأة الأخرى ليست مثل هذه النشأة، وإن كانت أكمل منها، بل كل موطن في هذه الدار وفي البرزخ والقيامة له حكم يخصه؛ ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن الميت يُوَسَّع له في قبره ويُسأل ونحو ذلك، وإن كان التراب قد لا يتغير فالأرواح تعاد إلى بدن الميت وتفارقه‏.‏

وهل يسمى ذلك موتاً‏؟‏ فيه قولان‏:‏

قيل‏:‏ يسمى ذلك موتاً، وتأولوا على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 11‏]‏‏:‏ قيل إن الحياة الأولى في هذه الدار، والحياة الثانية في القبر‏.‏ /والموتة الثانية في القبر، والصحيح أن هذه الآية كقوله‏:‏‏}‏ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏} ‏‏[‏البقرة‏:‏ 28‏]‏، فالموتة الأولى قبل هذه الحياة، والموتة الثانية بعد هذه الحياة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ بعد الموت‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}

‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 55‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏ 25‏]‏، فالروح تتصل بالبدن متى شاء اللّه تعالى، وتفارقه متى شاء اللّه تعالى، لا يتوقت ذلك بمرة ولا مرتين، والنوم أخو الموت‏.‏

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا أوى إلى فراشه‏:‏ ‏(‏باسمك اللّهم أموت وأحيا‏)‏، وكان إذا استيقظ يقول‏:‏ ‏(‏الحمد للّه الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور‏)‏، فقد سمى النوم موتًا، والاستيقاظ حياة‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏، فبين أنه يتوفى الأنفس على نوعين‏:‏ فيتوفاها حين الموت، ويتوفى الأنفس التي لم تمت بالنوم، ثم إذا ناموا فمن مات في منامه أمسك نفسه، ومن لم يمت أرسل نفسه‏.‏

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال‏:‏ ‏(‏باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين‏)‏‏.‏

والنائم يحصل له في منامه لذة وألم، وذلك يحصل للروح والبدن، حتى / إنه يحصل له في منامه من يضربه، فيصبح والوجع في بدنه، ويرى في منامه أنه أطعم شيئًا طيبًا، فيصبح وطعمه في فمه وهذا موجود‏.‏ فإذا كان النائم يحصل لروحه وبدنه من النعيم والعذاب ما يحس به ـ والذي إلى جنبه لا يحس به ـ حتى قد يصيح النائم من شدة الألم، أو الفزع الذي يحصل له ويسمع اليقظان صياحه، وقد يتكلم إما بقرآن، وإما بذكر، وإما بجواب‏.‏

واليقظان يسمع ذلك وهو نائم، عينه مغمضة، ولو خوطب لم يسمع ـ فكيف ينكر حال المقبور الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يسمع قرع نعالهم، وقال‏:‏ ‏(‏ما أنتم أسمع لما أقول منهم‏)‏‏.‏

والقلب يشبه القبر؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم ـ لما فاتته صلاة العصر يوم الخندق‏:‏ ‏(‏ملأَ اللّه أجوافهم وقبورهم ناراً‏)‏، وفي لفظ‏:‏ ‏(‏قلوبهم وقبورهم ناراً‏)‏ وفرق بينهما في قوله‏:‏ ‏{‏بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 9، 10‏]‏

وهذا تقريب و تقرير لإمكان ذلك‏.‏

ولا يجوز أن يقال‏:‏ ذلك الذي يجده الميت من النعيم والعذاب، مثلما ـ يجده النائم في منامه، بل ذلك النعيم والعذاب أكمل وأبلغ وأتم وهو نعيم حقيقي وعذاب حقيقي، ولكن يذكر هذا المثل لبيان إمكان ذلك، إذا قال السائل‏:‏ الميت لا يتحرك في قبره، والتراب لا يتغير، ونحو ذلك، مع أن هذه المسألة لها بسط يطول، وشرح لا تحتمله هذه الورقة، واللّه أعلم‏.‏ وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

/ وَسُئلَ عن الصغير، وعن الطفل إذا مات‏:‏ هل يمتحن ‏؟‏ إلخ

‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ الوقوف فيهم وأن يقال‏:‏ اللّه أعلم بما كانوا عاملين، ولبسطه موضع آخر‏.‏

وإذا مات الطفل فهل يمتحن في قبره ويسأله منكر ونكير‏؟‏ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لا يمتحن، وأن المحنة إنما تكون على من كلف في الدنيا، قاله طائفة‏:‏ منهم القاضي أبو يعلى وابن عقيل‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم يمتحنون، ذكره أبوحكيم الهمداني، وأبو الحسن ابن عبدوس، ونقله عن أصحاب الشافعي‏.‏ وعلى هذا التفصيل تلقين الصغير والمجنون‏:‏ من قال إنه يمتحن في القبر، لقنه‏.‏ ومن قال‏:‏ لا يمتحن، لم يلقنه‏.‏ وقد روى مالك وغيره عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ أنه صلى الله عليه وسلم صلى على طفل، فقال‏:‏ ‏(‏اللّهم قِهِ عذاب القبر وفتنة القبر‏)‏، وهذا القول موافق لقول من قال‏:‏ إنهم يمتحنون في الآخرة، وإنهم مكلفون يوم القيامة، كما هو قول أكثر أهل العلم /وأهل السنة من أهل الحديث والكلام، وهو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة واختاره، وهو مقتضى نصوص الإمام أحمد، واللّه أعلم‏.‏

وإذا دخل أطفال المؤمنين الجنة فأرواحهم وأرواح غيرهم من المؤمنين في الجنة، وإن كانت درجاتهم متفاضلة، والصغار يتفاضلون بتفاضل آبائهم، وتفاضل أعمالهم إذا كانت لهم أعمال ـ فإن إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو كغيره، والأطفال الصغار يثابون على ما يفعلونه من الحسنات، وإن كان القلم مرفوعاً عنهم في السيئات؛ كما ثبت في الصحيح‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رَفعتْ إليه امرأة صبيًا من مِحَفَّة فقالت‏:‏ ألهذا حج‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏.‏ ولك أجر‏)‏‏.‏ رواه مسلم في صحيحه‏.‏

وفي السنن أنه قال‏:‏ ‏(‏مُرُوهم بالصلاة لِسَبعٍ، واضربوهم عليها لِعَشْرٍ، وفَرِّقوا بينهم في المضاجع‏)‏‏.‏ وكانوا يُصَوِّمون الصغار يوم عاشوراء وغيره، فالصبي يثاب على صلاته وصومه، وحجه وغير ذلك من أعماله، ويفضل بذلك على من لم يعمل كعمله، وهذا غير ما يفعل به إكراماً لأبويه، كما أنه في النعم الدنيوية قد ينتفع بما يكسبه وبما يعطيه أبواه، ويتميز بذلك على من ليس كذلك‏.‏

وأرواح المؤمنين في الجنة، كما جاءت بذلك الآثار، وهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نسمة المؤمن تَعْلُقُ من الجنة‏)‏ أي‏:‏ تأكل، ولم يوقت في ذلك وقت قبل يوم القيامة‏.‏

/ والأرواح مخلوقة بلا شك، وهي لا تعدم ولا تفنى، ولكن موتها مفارقة الأبدان، وعند النفخة الثانية تعاد الأرواح إلى الأبدان‏.‏

وأهل الجنة الذين يدخلونها على صورة أبيهم آدم ـ عليه السلام ـ طول أحدهم ستون ذراعاً، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة‏.‏

وقد قال بعض الناس‏:‏ إن أطفال الكفار يكونون خدم أهل الجنة، ولا أصل لهذا القول‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين أن الجنة يبقى فيها فضل عن أهل الدنيا، فينشئ اللّه لها خلقاً آخر فيسكنهم الجنة، فإذا كان يسكن من ينشئه من الجنة من غير ولد آدم في فضول الجنة، فكيف بمن دخلها من ولد آدم وأسكن في غير فضولها‏؟‏ فليسوا أحق بأن يكونوا من أهل الجنة، ممن ينشأ بعد ذلك ويسكن فضولها‏.‏

وأما الورود المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 71‏]‏ فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، رواه مسلم في صحيحه عن جابر‏:‏ ‏(‏بأنه المرور على الصراط‏)‏، والصراط هو الجسر، فلابد من المرور عليه لكل من يدخل الجنة، من كان صغيراً في الدنيا ومن لم يكن‏.‏

والولدان ـ الذين يطوفون على أهل الجنة ـ خلق من خلق الجنة، ليسوا من أبناء الدنيا، بل أبناء أهل الدنيا إذا دخلوا الجنة كمل خلقهم كأهل الجنة، على صورة آدم، أبناء ثلاث وثلاثين في طول ستين ذراعاً، كما تقدم‏.‏ وقد روى أن العرض سبعة أذرع، واللّه أعلم‏.‏

/ سُئلَ الشَّيْخُ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ عن الصغير هل يحيا ويسأل أو يحيا ولا يسأل‏؟‏ وبماذا يسأل عنه‏؟‏ وهل يستوى في الحياة والسؤال من يكلف ومن لا يكلف‏؟‏

فأَجَــابَ‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، أما من ليس مكلفاً كالصغير والمجنون، فهل يمتحن في قبره ويسأله منكر ونكير ‏؟‏ على قولين للعلماء‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه يمتحن وهو قول أكثر أهل السنة، ذكره أبو الحسن ابن عبدوس عنهم، وذكره أبو حكيم النهروانى وغيرهما‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لا يمتحن في قبره، كما ذكره القاضي أبو يعلى، وابن عقيل وغيرهما‏.‏ قالوا‏:‏ لأن المحنة إنما تكون لمن يكلف في الدنيا‏.‏

ومن قال بالأول، يستدل بما في الموطأ عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ أنه صلى الله عليه وسلم صلى على صغير لم يعمل خطيئة قط، فقال‏:‏ ‏(‏اللّهم قه عذاب القبر وفتنة القبر‏)‏‏.‏ وهذا يدل على أنه يفتن‏.‏

/وأيضاً، فهذا مبني على أن أطفال الكفار ـ الذين لم يكلفوا في الدنيا ـ يكلفون في الآخرة، كما وردت بذلك أحاديث متعددة، وهو القول الذي حكاه أبو الحسن الأشعري عن أهل السنة والجماعة، فإن النصوص عن الأئمة كالإمام أحمد وغيره‏:‏ الوقف في أطفال المشركين، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عنهم فقال‏:‏ ‏(‏اللّه أعلم بما كانوا عاملين‏)‏‏.‏

وثبت في صحيح البخاري من حديث سَمُرَة أن منهم من يدخل الجنة‏.‏ وثبت في صحيح مسلم أن الغلام الذي قتله الخضر طُبِع يوم طُبِع كافراً؛ فإن كان الأطفال وغيرهم فيهم شقي وسعيد، فإذا كان ذلك لامتحانهم في الدنيا لم يمنع امتحانهم في القبور، لكن هذا مبني على أنه لا يشهد لكل مُعَينَّ من أطفال المؤمنين بأنه في الجنة، وإن شهد لهم مطلقاً، ولو شهد لهم مطلقًا‏.‏ فالطفل الذي ولد بين المسلمين قد يكون منافقاً بين مؤمنين، واللّه أعلم‏.‏

سُئِلَ شَيْخ الإسْلام ـ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ ـ وهو بمصر عن ‏[‏عذاب القبر‏]‏‏:‏ هل هو على النَّفْس، والبَدن أو على النفس دون البدن‏؟‏ والميت يعذب في قبره حياً أم ميتاً‏؟‏ وإن عادت الروح إلى الجسد أم لم تَعُدْ، فهل يتشاركان في العذاب والنعيم‏؟‏ أو يكون ذلك على أحدهما دون الآخر‏؟‏

فأَجَابَ ـ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ، وجعل جنة الفردوس منقلبه ومثواه آمين‏:‏

الحمد للّه رب العالمين‏.‏ بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعتين، كما يكون للروح منفردة عن البدن‏.‏

وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح‏؟‏

هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنة والكلام، وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث، قول من يقول‏:‏ إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح؛ وإن البدن لا ينعم ولا يعذب‏.‏ وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين‏.‏

ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم، الذين يقولون‏:‏ لا يكون ذلك في البرزخ، وإنما يكون عند القيام من القبور‏.‏

وقول من يقول‏:‏ إن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب، وإنما الروح هي الحياة، وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام، من المعتزلة، وأصحاب أبي الحسن الأشعري، كالقاضي أبي بكر، وغيرهم، وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن، وهذا قول باطل، خالفه الأستاذ أبو المعالي الجُوَيْني وغيره، بل قد ثبت في الكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة، أن الروح تبقى بعد فراق البدن، وأنها منعمة أو معذبة‏.‏

والفلاسفة الإلهيون يقولون بهذا، لكن ينكرون مَعَاد الأبدان، وهؤلاء يقرون بمعاد الأبدان، لكن ينكرون معاد الأرواح، ونعيمها وعذابها بدون الأبدان، وكلا القولين خطأ وضلال، لكن قول الفلاسفة أبعد عن أقوال أهل الإسلام، وإن كان قد يوافقهم عليه

سُئِلَ شَيْخ الإسْلام ـ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَه ـ وهو بمصر عن ‏[‏عذاب القبر‏]‏‏:‏ هل هو على النَّفْس والبَدن أو على النفس دون البدن‏؟‏ والميت يعذب في قبره حيًا أم ميتًا‏؟‏ وإن عادت الروح إلى الجسد أم لم تَعُدْ‏,‏ فهل يتشاركان في العذاب والنعيم‏؟‏ أو يكون ذلك على أحدهما دون الآخر‏؟‏

فأَجَابَ ـ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ‏,‏ وجعل جنة الفردوس منقلبه ومثواه آمين‏:‏

الحمد للّه رب العالمين‏.‏ بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة‏,‏ تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن‏,‏ وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها‏,‏ فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعتين‏,‏ كما يكون للروح منفردة عن البدن‏.‏

وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح‏؟‏

هذا فيه قولان مشهوران /لأهل الحديث والسنة والكلام‏,‏ وفي المسألة أقوال شاذة ليست من أقوال أهل السنة والحديث‏,‏ قول من يقول‏:‏ إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على الروح؛ وأن البدن لا ينعم ولا يعذب‏.‏ وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان‏,‏ وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين‏.‏

ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم‏,‏ الذين يقولون‏:‏ لا يكون ذلك في البرزخ‏,‏ وإنما يكون عند القيام من القبور‏.‏

وقول من يقول‏:‏ إن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب‏,‏ وإنما الروح هي الحياة‏,‏ وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام‏,‏ من المعتزلة‏,‏ وأصحاب أبي الحسن الأشعري‏,‏ كالقاضي أبي بكر‏,‏ وغيرهم‏,‏ وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن‏,‏ وهذا قول باطل‏,‏ خالفه الأستاذ أبو المعالي الجُوَيْني وغيره‏,‏ بل قد ثبت في الكتاب والسنة‏,‏ واتفاق سلف الأمة‏,‏ أن الروح تبقى بعد فراق البدن‏,‏ وأنها منعمة أو معذبة‏.‏

من يعتقد أنه متمسك بدين الإسلام‏,‏ بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف‏,‏ والتحقيق والكلام‏.‏

/والقول الثالث الشاذ‏:‏ قول من يقول‏:‏ إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب‏,‏ بل لا يكون ذلك حتى تقوم القيامة الكبرى‏,‏ كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة‏,‏ ونحوهم‏,‏ الذين ينكرون عذاب القبر ونعيمه‏,‏ بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن‏,‏ وأن البدن لا ينعم ولا يعذب‏.‏

فجميع هؤلاء الطائفتين ضلال في أمر البرزخ‏,‏ لكنهم خير من الفلاسفة؛ لأنهم يقرون بالقيامة الكبرى‏.‏

فإذا عرفت هذه الأقوال الثلاثة الباطلة‏,‏ فاعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها‏:‏ أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب‏,‏ وأن ذلك يحصل لروحه ولبدنه‏,‏ وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة‏,‏ وأنها تتصل بالبدن أحيانًا‏,‏ فيحصل له معها النعيم والعذاب‏.‏

ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى أجسادها‏,‏ وقاموا من قبورهم لرب العالمين‏.‏

ومعاد الأبدان متفق عليه عند المسلمين‏,‏ واليهود‏,‏ والنصارى‏.‏ وهذا كله متفق عليه عند علماء الحديث والسنة‏.‏

وهل يكون للبدن دون الروح نعيم أو عذاب‏؟‏ أثبت ذلك طائفة منهم‏,‏ وأنكره أكثرهم‏.‏

/ونحن نذكر ما يبين ما ذكرناه‏.‏ فأما أحاديث عذاب القبر ومسألة منكر ونكير‏:‏ فكثيرة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏,‏ مثل ما في الصحيحين‏:‏ عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بقبرين فقال‏:‏ ‏(‏إنهما ليُعَذَّبان وما يُعَذَّبان في كبير‏,‏ أما أحدهما فكان يمشى بالنَّمِيمة‏,‏ وأما الآخر فكان لا يَسْتَتِر من بَوْله‏)‏‏,‏ ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين‏,‏ ثم غرز في كل قبر واحدة‏.‏ فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه‏,‏ لم فعلتَ هذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لعله يُخفَّف عنهما ما لم يَيبَْسَا‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم عن زيد بن ثابت قال‏:‏ بينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة ـ ونحن معه ـ إذ جالت به‏,‏ فكادت تلقيه‏,‏ فإذا أقبر ستة أو خمسة‏,‏ أو أربعة‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏من يعرف هذه القبور‏؟‏‏)‏ فقال رجل‏:‏ أنا‏.‏ قال‏: ‏‏(‏فمتى هؤلاء‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ ماتوا في الإشراك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن هذه الأمة تبتلى في قبورها؛ فلولا ألا تدافنوا لدعوت اللّه أن يُسِمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه‏)‏‏,‏ ثم أقبل علينا بوجهه فقال‏:‏ ‏(‏تَعوَّذوا باللّه من عذاب القبر‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ نعوذ باللّه من عذاب القبر‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏تعوذوا باللّه من عذاب النار‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ نعوذ باللّه من عذاب النار‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏تعوذوا باللّه من الفتن ما ظهر منها وما بطن‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ نعوذ باللّه من الفتن ما ظهر منها وما بطن‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏تعوذوا باللّه من فتنة الدجال‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ نعوذ باللّه من فتنة الدجال‏.‏

وفي صحيح مسلم وسائر السنن عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي/صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليقل‏:‏ أعوذ باللّه من أربع‏:‏ من عذاب جهنم‏,‏ ومن عذاب القبر‏,‏ ومن فتنة المحيا والممات‏,‏ ومن فتنة المسيح الدجال‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم وغيره عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن‏:‏ ‏(‏اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم‏,‏ وأعوذ بك من عذاب القبر‏,‏ وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال‏,‏ وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات‏)‏‏.‏

وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي أيوب الأنصاري قال‏:‏ خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجَبَتِ الشمس‏,‏ فقال‏:‏ ‏(‏يهود يعذبون في قبورهم‏)‏‏ [‏وجَبَت الشمس،أي غابت‏] ‏‏.‏

وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ قالت‏:‏ دخلت علىّ عجوز من عجائز يهود المدينة‏,‏ فقالت‏:‏ إن أهل القبور يعذبون في قبورهم‏.‏ قالت‏:‏ فكذبتها ولم أنْعَمْ أن أصدقها‏,‏ قالت‏:‏ فخرجت فدخل عليَّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏,‏ فقلت‏:‏ يا رسول اللّه‏,‏ عجوز من عجائز أهل المدينة دخلت علىّ، فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم‏.‏فقال‏:‏ ‏(‏صَدَقَتْ‏,‏ إنهم يعذبون عذابًا يسمعه البهائم كلها‏)‏‏,‏ فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر‏.‏

وفي صحيح أبي حاتم البستي عن أم مُبَشِّر ـ رضي اللّه عنها ـ قالت‏:‏ دخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنا في حائط وهو يقول‏: ‏‏(‏تعوذوا باللّه من عذاب/القبر‏)‏‏.‏فقلت‏:‏ يا رسول اللّه‏,‏ للقبر عذاب‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏إنهم ليعذبون في قبورهم عذابًا تسمعه البهائم‏)‏‏.‏

قال بعضهم‏:‏ ولهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مغلت‏ [‏أي‏:‏ أصابها وجع في بطنها بسبب أكلها التراب مع البَقْل]‏ إلى قبور اليهود‏,‏ والنصارى والمنافقين‏,‏ كالإسماعيلية والنصيرية‏,‏ وسائر القرامطة‏:‏ من بني عبيد وغيرهم‏,‏ الذين بأرض مصر والشام وغيرهما؛ فإن أهل الخيل يقصدون قبورهم لذلك‏,‏ كما يقصدون قبور اليهود والنصارى‏,‏ والجهال تظن أنهم من ذرية فاطمة‏,‏ وأنهم من أولياء اللّه‏,‏ وإنما هو من هذا القبيل‏.‏ فقد قيل‏:‏ إن الخيل إذا سمعت عذاب القبر حصلت لها من الحرارة ما يذهب بالمغل‏.‏ والحديث في هذا كثير لا يتسع له هذا السؤال‏.‏

وأحاديث المسألة كثيرة أيضًا‏,‏ كما في الصحيحين والسنن عن البراء بن عازب ـ رضي اللّه عنه ـ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏المسلم إذا سئل في قبره شهد أن لا إله إلا اللّه‏,‏ وأن محمدًا رسول اللّه ؛ فذلك قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏27‏]‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏نزلت في عذاب القبر يقال له‏:‏ من ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ ربي اللّه‏,‏ وديني الإسلام‏,‏ ونبيي محمد‏,‏ وذلك قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ}‏‏[‏إبراهيم‏:‏27‏]‏‏.‏

وهذا الحديث قد رواه أهل السنن والمسانيد مطولًا‏,‏ كما في سنن أبي داود /وغيره عن البراء بن عازب ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار‏,‏ فانتهينا إلى القبر ولما يلحد‏,‏ فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله‏,‏ كأنما على رؤوسنا الطير‏,‏ وفي يده عود ينكت به الأرض‏,‏ فرفع رأسه فقال‏:‏ ‏(‏استعيذوا باللّه من عذاب القبر‏)‏ مرتين أو ثلاثا‏,‏ وذكر صفة قبض الروح وعروجها إلى السماء‏,‏ ثم عودها إليه‏.‏ إلى أن قال‏: ‏‏(‏وإنه ليسمع خَفْقَ نعالهم إذا وَلُّوا مدبرين حين يقال له‏:‏ يا هذا‏,‏ من ربك‏؟‏ وما دينك‏؟‏ ومن نبيك‏؟‏‏)‏‏ .‏

وفي لفظ‏:‏ ‏(‏فيأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له‏:‏من ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ ربي اللّه‏.‏ فيقولان له‏:‏ ما دينك‏؟‏ فيقول‏:‏ ديني الإسلام‏.‏ فيقولان‏:‏ ما هذا الرجل الذي أرسل فيكم‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏فيقول‏:‏ هو رسول اللّه‏.‏ فيقولان‏:‏ وما يدريك‏؟‏ فيقول‏:‏ قرأت كتاب اللّه وآمنت به‏,‏ وصدقت به‏,‏ فذلك قول اللّه‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏27‏]‏‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فينادي مناد من السماء‏:‏ أن صدق عبدي‏,‏ فافرشوا له في الجنة‏,‏ وألبسوه من الجنة‏,‏ وافتحوا له بابًا إلى الجنة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فيأتيه من روحها وطيبها‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويفسح له مد بصره‏) ‏‏.‏ قال‏:‏‏(‏وإن الكافر‏)‏ فذكر موته‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏وتعاد روحه إلى جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه‏,‏ فيقولان له‏:‏ من ربك‏؟‏ فيقول هاه، هاه‏,‏ لا أدري‏,‏ فيقولان له‏:‏ ما دينك‏؟‏ فيقول‏:‏ هاه‏.‏ هاه‏.‏ لا أدري‏,‏ فينادي مناد من السماء‏:‏ أن كذب عبدي‏,‏ فافرشوا له من النار‏,‏ وألبسوه من النار‏,‏ / وافتحوا له بابًا إلى النار‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ويأتيه من حَرّها وسُمومها‏)‏‏.‏ قال‏: ‏‏(‏ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه‏)‏‏ .‏ قال‏:‏ ‏(‏ثم يقيض له أعمى أبكم معه مِرْزَبَة من حديد‏,‏ لو ضرب بها جبل لصار ترابًا‏)‏‏ .‏ قال‏:‏ ‏(‏فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين‏,‏ فيصير ترابًا‏,‏ ثم تعاد فيه الروح‏)‏‏.‏

فقد صرح الحديث بإعادة الروح إلى الجسد‏,‏ وباختلاف أضلاعه‏,‏ وهذا بين في أن العذاب على الروح والبدن مجتمعين‏.‏

وقد روى مثل حديث البراء في قبض الروح والمسألة‏,‏ والنعيم والعذاب‏,‏ رواه أبوهريرة‏,‏ وحديثه في المسند وغيره‏,‏ ورواه أبو حاتم ابن حِبَّان في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الميت إذا وضع في قبره يسمع خفق نعالهم‏,‏ إذا ولوا عنه مدبرين‏,‏ فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه‏,‏ وكان الصيام عن يمينه‏,‏ وكانت الصدقة عن شماله‏,‏ وكان فعل الخير من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه‏,‏ فيأتيه الملكان من قبل رأسه‏,‏ فتقول الصلاة‏:‏ ما قبلي مدخل‏,‏ ثم يؤتى عن يمينه‏,‏ ويقول الصيام‏:‏ ما قِبَلي مدخل‏,‏ ثم يؤتى عن يساره‏,‏ فتقول الزكاة‏:‏ ما قبلي مدخل‏,‏ ثم يؤتى من قبل رجليه‏,‏ فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة‏,‏ والمعروف والإحسان‏:‏ ما قبلي مدخل‏!‏‏!‏ فيقول له‏:‏ اجلس فيجلس قد مَثُلَتْ له الشمس‏,‏ وقد أصغت للغروب‏.‏ فيقول‏:‏ دعوني حتى أصلي‏:‏ فيقولون‏:‏ إنك ستصلي‏,‏ أخبرنا عما نسألك عنه، أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقولون فيه ‏؟‏ وماذا / تشهد به عليه‏؟‏ فيقول‏:‏ محمد‏,‏ نشهد أنه رسول اللّه‏,‏ جاء بالحق من عند اللّه فيقال له‏:‏ على ذلك حييت‏,‏ وعلى ذلك تُبْعَث إن شاء اللّه‏,‏ ثم يفتح له باب إلى الجنة‏,‏ فيقال‏:‏ هذا مقعدك‏,‏ وما أعد اللّه لك فيها‏,‏ فيزداد غِبْطَةً وسرورًا‏,‏ ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا‏,‏ ويُنَوَّر له فيه‏,‏ ويعاد الجسد لما بدئ منه‏,‏ وتجعل روحه نَسَم طير يعلق في شجر الجنة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏27‏]‏ ‏.‏

وذكر في الكافر ضد ذلك أنه قال‏:‏ ‏(‏يضيق عليه قبره إلى أن تختلف فيه أضلاعه‏)‏ فتلك المعيشة الضنك‏,‏ التي قال اللّه تعالى‏:‏‏{‏لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏124‏]‏‏.‏ هذا الحديث أخصر‏.‏

وحديث البراء ـ المتقدم ـ أطول ما في السنن‏,‏ فإنهم اختصروه لذكر ما فيه من عذاب القبر‏,‏ وهو في المسند وغيره بطوله‏.‏ وهو حديث حسن ثابت يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه‏:‏ ‏(‏إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة‏,‏ وانقطاع من الدنيا‏,‏ نزلت إليه ملائكة بيض الوجوه‏,‏ كأن وجوههم الشمس‏,‏ معهم كفن من أكفان الجنة‏,‏ وحَنُوط من حنوط الجنة‏,‏ فيجلسون منه مد البصر‏,‏ ثم يجىء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه‏,‏ فيقول‏:‏ أيتها النفس الطيبة‏,‏ اخرجي إلى مغفرة ورضوان‏)‏ ‏.‏قال‏:‏ ‏(‏فتخرج تسيل كما تسيل القَطْرَة من فِىِّ السِّقاء‏,‏ فيأخذها‏,‏ فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين /حتى يأخذوها‏.‏ فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط‏,‏ فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فيصعدون بها‏,‏ فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا‏:‏ ما هذه الروح الطيبة‏؟‏‏!‏ فيقولون‏:‏ فلان بن فلان‏,‏ بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه في الدنيا‏,‏ فينتهون به إلى السماء الدنيا‏,‏ فيستفتحون له فيفتح له‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها‏,‏ حتى ينتهوا بها إلى السماء السابعة‏.‏ فيقول‏:‏ اكتبوا كتاب عبدي في عليين‏,‏ وأعيدوه إلى الأرض‏,‏ فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فتعاد روحه في جسده‏,‏ ويأتيه ملكان فيجلسانه‏)‏‏.‏ وذكر المسألة كما تقدم‏,‏ قال‏:‏ ‏(‏ويأتيه رجل حسن الوجه‏,‏ طيب الريح‏,‏ فيقول له‏:‏ أبشر بالذي يسرك‏,‏ فهذا يومك الذي قد كنت توعد‏,‏ فيقول له‏:‏ من أنت‏؟‏ فوجهك الوجه الذي يجىء بالخير‏؟‏ ‏!‏ فيقول‏:‏ أنا عملك الصالح‏.‏ فيقول‏:‏ رب‏,‏ أقم الساعة‏,‏ رب أقم الساعة‏,‏ رب أقم الساعة‏,‏ حتى أرجع إلى أهلي ومالي‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا‏,‏ نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه‏,‏ معهم المسوح‏,‏ فيجلسون منه مد البصر‏,‏ ثم يجىء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه‏,‏ فيقول‏:‏ أيتها النفس الخبيثة‏,‏ اخرجي إلى سخط اللّه وغضبه‏,‏ فتفرق في أعضائه كلها‏,‏ فينتزعها كما ينتزع السَّفُّود‏ [‏السَّفُّود ـ بالفتح والضم مع التشديد‏:‏ حديدة ذات شعب معقفة‏,‏ يشوي بها اللحم‏] ‏من الصوف المبلول‏,‏ فتتقطع معها العروق والعصب‏)‏‏.‏ قال‏: ‏‏(‏فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها‏,‏ فيجعلوها في تلك المسوح‏)‏‏.‏ قال‏:‏‏ (‏فيخرج منها كأنتن ما يكون من جيفة وجدت على وجه الأرض‏,‏ فيصعدون بها‏,‏ /فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا‏:‏ ما هذه الروح الخبيثة‏؟‏ فيقولون‏:‏ فلان بن فلان‏,‏ بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا؛ حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا‏,‏ فيستفتحون لها فلا يفتح لها‏)‏‏,‏ ثم قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏40‏]‏‏,‏ ثم يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏(‏اكتبوا كتابه في سجين ـ في الأرض السفلى‏)‏ قال‏:‏ ‏(‏فتطرح روحه طرحًا‏)‏‏.‏ ثم قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏‏}‏أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏‏]‏الحج‏:‏31‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فتعاد روحه في جسده‏,‏ فيأتيه ملكان فيجلسانه‏,‏ فيقولان له‏:‏ من ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ هاه‏,‏ هاه‏,‏ لا أدري‏)‏‏.‏ وساق الحديث كما تقدم إلى أن قال‏:‏ ‏(‏ويأتيه رجل قبيح الوجه مُنْتن الريح‏,‏ فيقول‏:‏ أبشر بالذي يسوؤك؛ هذا عملك الذي قد كنت توعد ؛ فيقول‏:‏ من أنت فوجهك الوجه الذي لا يأتي بالخير‏؟‏ قال‏:‏ أنا عملك السوء‏.‏ فيقول‏:‏ رب‏,‏ لا تقم الساعة‏)‏‏,‏ ثلاث مرات‏.‏

ففي هذا الحديث أنواع من العلم‏:‏

منها‏:‏ أن الروح تبقى بعد مفارقة البدن‏,‏ خلافًا لضلال المتكلمين‏,‏ وأنها تصعد وتنزل خلافًا لضلال الفلاسفة‏,‏ وأنها تعاد إلى البدن‏,‏ وأن الميت يسأل‏,‏ فينعم أو يعذب‏,‏ كما سأل عنه أهل السؤال‏,‏ وفيه أن عمله الصالح أو السيئ يأتيه في صورة حسنة أو قبيحة‏.‏

وفي الصحيحين عن قتادة عن أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي /صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن العبد إذا وضع في قبره‏,‏ وتولى عنه أصحابه‏,‏ إنه ليسمع خَفْق نعالهم‏,‏ أتاه ملكان فيقررانه‏.‏ فيقولان‏:‏ ما كنت تقول في هذا الرجل محمد‏؟‏ فأما المؤمن فيقول‏:‏ أشهد أنه محمد عبد اللّه ورسوله‏)‏‏.‏ قال‏: ‏‏(‏فيقول‏:‏ انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك اللّه به مقعدًا من الجنة‏)‏‏.‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فيراهما كليهما‏)‏‏.‏ قال قتادة‏:‏ وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعًا‏,‏ ويملأ عليه خضرًا إلى يوم يبعثون‏.‏ ثم نرجع إلى حديث أنس‏:‏ ‏(‏ويأتيان الكافر والمنافق فيقولان‏:‏ ما كنت تقول في هذا الرجل‏؟‏ فيقول‏:‏ لا أدري‏,‏ كنت أقول كما يقول الناس‏.‏ فيقول‏:‏ لا دريت ولا تليت‏.‏ ثم يضرب بمطارق من حديد بين أذنيه‏,‏ فيصيح صيحة فيسمعها من عليها غير الثقلين‏)‏‏.‏

وروى الترمذي وأبو حاتم في صحيحه ـ وأكثر اللفظ له ـ عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا قبر أحدكم الإنسان‏,‏ أتاه ملكان أسودان أزرقان‏,‏ يقال لهما‏:‏ منكر والآخر نكير‏.‏ فيقولان له‏:‏ ما كنت تقول في هذا الرجل محمد‏؟‏ فهو قائل ما كان يقول‏,‏ فإن كان مؤمنًا قال‏:‏ هو عبد اللّه ورسوله‏,‏ أشهد أن لا إله إلا اللّه‏,‏ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله‏.‏ فيقولان‏:‏ إنا كنا لنعلم أنك تقول ذلك ‏.‏

ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا‏,‏ وينور له فيه‏,‏ ويقال له‏:‏ نم‏.‏ فيقول‏:‏ أرجع إلى أهلي فأخبرهم‏.‏ فيقولان له‏:‏ نم‏,‏ كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه‏,‏ حتى يبعثه اللّه من مضجعه ذلك‏.‏ وإن كان منافقًا قال‏:‏ / لا أدري‏,‏ كنت أسمع الناس يقولون شيئًا فقلته‏.‏ فيقولان‏:‏ إنا كنا نعلم أنك تقول ذلك‏.‏ ثم يقال للأرض‏:‏ التئمي عليه‏,‏ فتلتئم عليه‏,‏ حتى تختلف فيها أضلاعه‏,‏ فلا يزال معذبًا حتى يبعثه اللّه من مضجعه ذلك‏)‏ وهذا الحديث فيه اختلاف أضلاعه وغير ذلك‏,‏ مما يبين أن البدن نفسه يعذب‏.‏

وعن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا احتضر الميت أتته الملائكة بحريرة بيضاء‏.‏ فيقولون‏:‏ اخرجي كأطيب ريح المسك‏,‏ حتى إنه ليناوله بعضهم بعضًا‏,‏ حتى يأتوا به باب السماء‏,‏ فيقولون‏:‏ ما أطيب هذا الريح متى جاءتكم من الأرض‏؟‏ فيأتون به أرواح المؤمنين‏,‏ فَلَهُمْ أشد فرحًا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه‏,‏ يسألونه‏:‏ ماذا فعل فلان‏؟‏ فيقولون‏:‏ دعوه‏,‏ فإنه في غم الدنيا‏,‏ فإذا قال‏:‏ إنه أتاكم‏.‏ قالوا‏:‏ ذهب إلى أمه الهاوية‏.‏ وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح‏.‏ فيقولون‏:‏ اخرجي مسخوطًا عليك إلى عذاب اللّه‏,‏ فتخرج كأنتن جيفة‏,‏ حتى يأتوا به أرواح الكفار‏)‏‏.‏ رواه النسائي والبزار ورواه مسلم مختصرًا عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه‏.‏ وعند الكافر ونتن رائحة روحه‏,‏ فرد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رِيطَة كانت عليه على أنفه هكذا‏.‏‏ [‏والرِّيطةُ‏:‏ ثوب رقيق لين مثل الملاءة‏] ‏‏.‏

وأخرجه أبو حاتم في صحيحه وقال‏:‏‏ (‏إن المؤمن إذا حضره الموت حضرت ملائكة الرحمة‏,‏ فإذا قبضت نفسه جُعِلت في حريرة بيضاء‏,‏ فتنطلق بها إلى باب السماء‏,‏ فيقولون‏:‏ ما وجدنا ريحًا أطيب من هذه الرائحة‏,‏ فيقال‏:‏ دعوه /يسترح‏,‏ فإنه كان في غم الدنيا‏,‏ فيقال‏:‏ ما فعل فلان‏,‏ ما فعلت فلانة‏؟‏ وأما الكافر إذا قبضت روحه ذهب بها إلى الأرض تقول خزنة الأرض‏:‏ ما وجدنا ريحًا أنتن من هذه‏,‏ فيبلغ بها في الأرض السفلى‏)‏‏.‏

ففي هذه الأحاديث ونحوها اجتماع الروح والبدن في نعيم القبر وعذابه‏,‏ وأما انفراد الروح وحدها فقد تقدم بعض ذلك‏.‏

وعن كعب بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنما نَسَمَة المؤمن طائر يَعْلُقُ في شجر الجنة حتى يرجعه إلى جسده يوم يبعثه‏)‏‏.‏ رواه النسائي‏,‏ ورواه مالك والشافعي كلاهما‏ [‏نسمة المؤمن‏:‏ أي روحه] ‏‏. [‏وقوله‏:‏ ‏[‏يَعْلُق‏]‏ بالضم أي‏:‏ يأكل]‏‏,‏ وقد نقل هذا في غير هذا الحديث‏.‏

فقد أخبرت هذه النصوص أن الروح تنعم مع البدن الذي في القبر ـ إذا شاء اللّه ـ وإنما تنعم في الجنة وحدها‏,‏ وكلاهما حق‏.‏

وقد روى ابن أبي الدنيا في ‏[‏كتاب ذكر الموت‏] ‏عن مالك بن أنس قال‏:‏ بلغني أن الروح مرسلة‏,‏ تذهب حيث شاءت‏.‏ وهذا يوافق ما روي‏:‏ ‏(‏أن الروح قد تكون على أفْنِيَة القبور‏)‏ ‏[‏أفْنِيَة‏:‏ جمع فناء‏,‏ وهو المتسع أمام الدار]‏ كما قال مجاهد‏:‏ إن الأرواح تدوم على القبور سبعة أيام‏,‏ يوم يدفن الميت‏,‏ لا تفارق ذلك‏,‏ وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة‏,‏ كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من رجل يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه‏,‏ إلا رد اللّه عليه روحه حتى يرد عليه السلام‏)‏‏.‏

/وفي سنن أبي داود وغيره‏,‏ عن أوس بن أوس الثقفي‏,‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن خير أيامكم يوم الجمعة‏,‏ فأكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة‏,‏ وليلة الجمعة‏,‏ فإن صلاتكم معروضة عليَّ‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول اللّه‏,‏ كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرِمْتَ‏؟‏‏!‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن اللّه حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء‏)‏‏ .‏

وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه‏,‏ مما يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذب ـ إذا شاء اللّه ذلك ـ كما يشاء‏,‏ وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن‏,‏ ومنعمة ومعذبة‏.‏

ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام على الموتى‏,‏ كما ثبت في الصحيح والسنن أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا‏:‏ ‏(‏السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين‏,‏ وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون‏,‏ يرحم اللّه المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين‏,‏ نسأل اللّه لنا ولكم العافية‏.‏ اللّهم لا تَحْرِمْنَا أجرهم ولا تَفْتِنا بعدهم‏,‏ واغفر لنا ولهم‏)‏‏ .‏

وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم‏,‏ ورأوهم بعيونهم يعذبون في قبورهم في آثار كثيرة معروفة‏,‏ ولكن لا يجب ذلك أن يكون دائمًا على البدن في كل وقت‏,‏ بل يجوز أن يكون في حال دون حال‏.‏

/وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثًا‏,‏ ثم أتاهم فقام عليهم فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا جهل بن هشام‏,‏ يا أميَّة بن خَلف‏,‏ يا عُتْبَة بن ربيعة‏,‏ يا شيبة بن ربيعة‏,‏ أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا‏؟‏ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا‏)‏‏.‏ فسمع عمر ـ رضي الله عنه ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول اللّه‏,‏ كيف يسمعون وقد جيَّفُوا‏؟‏ فقال‏: ‏‏(‏والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏,‏ ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا‏)‏‏.‏ ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قَلِيب بدر‏.‏

وقد أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي اللّه عنهما ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قَلىب بدر فقال‏:‏ ‏(‏هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا‏؟‏‏)‏‏,‏ وقال‏:‏ ‏(‏إنهم ليسمعون الآن ما أقول‏)‏‏,‏ فذكر ذلك لعائشة‏,‏ فقالت‏:‏ وَهِم َابن عمر‏,‏ إنما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنهم ليعلمون الآن أن الذي قلتُ لهم هو الحق‏)‏‏,‏ ثم قرأت قوله تعالى‏:‏‏{‏إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏80‏]‏ حتى قرأت الآية‏.‏

وأهل العلم بالحديث والسنة اتفقوا على صحة ما رواه أنس وابن عمر‏,‏ وإن كانا لم يشهدا بدرًا‏,‏ فإن أنسًا روى ذلك عن أبي طلحة‏,‏ وأبو طلحة شهد بدرًا‏.‏ كما روى أبوحاتم ـ في صحيحه ـ عن أنس عن أبي طلحة ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش‏,‏ فقذفوا في طَوِىِّ ‏[‏أي‏:‏ بئر مطوية‏]‏ من أطواء بدر‏,‏ وكان إذا ظهر على قوم أحب أن يقيم في عَرْصَتِهم‏ [‏العَرْصَة‏:‏ كل بُقعة بين الدور واسعة‏,‏ ليس فيها بناء‏] ‏ثلاث ليال‏.‏

/فلما كان اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها فحركها‏,‏ ثم مشى وتبعه أصحابه‏.‏ وقالوا‏:‏ ما نراه ينطلق إلا لبعض حاجته؛ حتى قام على شفاء الرَّكِي ‏[‏أي‏:‏ البئر‏]‏؛ فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم‏,‏ يافلان بن فلان‏,‏ أيسركم أنكم أطعتم اللّه ورسوله‏؟‏ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا‏.‏ فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ً‏؟‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ يا رسول اللّه‏,‏ ما تكلم من أجساد ولا أرواح فيها‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏) ‏‏.‏

قال قتادة‏:‏ أحياهم اللّه حتى سمعهم‏,‏ توبيخًا وتصغيرًا‏,‏ ونقمة وحسرة وتنديمًا‏.‏ وعائشة تأولت فيما ذكرته كما تأولت أمثال ذلك‏.‏

والنص الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على تأويل من تأول من أصحابه وغيره‏,‏ وليس في القرآن ما ينفي ذلك فإن قوله‏:‏‏{‏إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏80‏]‏ إنما أراد به السماع المعتاد‏,‏ الذي ينفع صاحبه‏,‏ فإن هذا مَثَل ضُرِب للكفار‏,‏ والكفار تسمع الصوت‏,‏ لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتباع‏,‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏171‏]‏‏.‏

فهكذا الموتى الذين ضرب لهم المثل‏,‏ لا يجب أن ينفى عنهم جميعُ السماع المعتاد أنواعَ السماع‏,‏ كما لم ينف ذلك عن الكفار‏,‏ بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به‏,‏ وأما سماع آخر فلا ينفى عنهم‏.‏

/وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميت يسمع خَفْق نعالهم‏,‏ إذا ولوا مدبرين‏,‏ فهذا موافق لهذا‏,‏ فكيف يدفع ذلك‏؟‏ ومن العلماء من قال‏:‏ إن الميت في قبره لا يسمع ما دام ميتًا‏,‏ كما قالت عائشة‏,‏ واستدلت به من القرآن‏.‏ وأما إذا أحياه اللّه فإنه يسمع كما قال قتادة‏:‏ أحياهم اللّه له‏.‏ وإن كانت تلك الحياة لا يسمعون بها‏,‏ كما نحن لا نرى الملائكة والجن‏,‏ ولا نعلم ما يحس به الميت في منامه‏,‏ وكما لا يعلم الإنسان ما في قلب الآخر‏,‏ وإن كان قد يعلم ذلك من أطلعه اللّه عليه‏.‏

وهذه جملة يحصل بها مقصود السائل‏,‏ وإن كان لها من الشرح والتفصيل ما ليس هذا موضعه‏,‏ فإن ما ذكرناه من الأدلة البينة على ما سأل عنه ما لا يكاد مجموعًا‏,‏ واللّه أعلم‏.‏

وصلى اللّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم‏.‏

/  قَالَ شَيْخُ الإسلاَم ـ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ‏:‏

سأل سائل‏:‏ بماذا يخاطب الناس يوم البعث‏؟‏ وهل يخاطبهم اللّه ـ تعالى ـ بلسان العرب‏؟‏ وهل صح أن لسان أهل النار الفارسية‏,‏ وأن لسان أهل الجنة العربية‏؟‏

فأجبته بعد ‏[‏الحمد للّه رب العالمين‏]‏‏.‏

لا يعلم بأي لغة يتكلم الناس يومئذ‏,‏ ولا بأي لغة يسمعون خطاب الرب جل وعلا؛ لأن اللّه ـ تعالى ـ لم يخبرنا بشىء من ذلك‏,‏ ولا رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولم يصح أن الفارسية لغة الجهَنَّمِيِّين ولا أن العربية لغة أهل النعيم الأبدي‏,‏ ولا نعلم نزاعًا في ذلك بين الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ بل كلهم يكفون عن ذلك؛ لأن الكلام في مثل هذا من فضول القول‏,‏ ولا قال اللّه تعالى لأصحاب الثرى‏,‏ ولكن حدث في ذلك خلاف بين المتأخرين‏.‏

فقال ناس‏:‏ يتخاطبون بالعربية‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إلا أهل النار‏,‏ فإنهم يجيبون بالفارسية‏,‏ وهي لغتهم في النار‏.‏

/ وقال آخرون‏:‏ يتخاطبون بالسريانية؛ لأنها لغة آدم‏,‏ وعنها تفرعت اللغات‏.‏

وقال آخرون‏:‏ إلا أهل الجنة‏,‏ فإنهم يتكلمون بالعربية‏.‏

وكل هذه الأقوال لا حجة لأربابها‏,‏ لا من طريق عقل ولا نقل‏,‏ بل هي دعاوي عارية عن الأدلة‏,‏ واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم وأحكم‏.‏

/ سُئِلَ عن الميزان‏:‏ هل هو عبارة عن العدل‏,‏ أم له كفتان‏؟‏

فأجــاب‏:‏

الميزان‏:‏ هو ما يوزن به الأعمال‏,‏ وهو غير العدل كما دل على ذلك الكتاب والسنة مثل قوله تعالى‏:‏‏}‏فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏8‏]‏‏,‏ ‏{‏وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 9‏]‏‏,‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏47‏]‏‏.‏

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏كلمتان خفيفتان على اللسان‏,‏ ثقيلتان في الميزان‏,‏ حبيبتان إلى الرحمن‏:‏ سبحان اللّه وبحمده‏,‏ سبحان اللّه العظيم‏)‏‏.‏ وقال عن ساقي عبد اللّه بن مسعود‏:‏ ‏(‏لَهُمَا في الميزان أثقل من أحُدٍ‏!‏‏)‏‏.‏ وفي الترمذي وغيره حديث البطاقة‏,‏ وصححه الترمذي‏,‏ والحاكم‏,‏ وغيرهما‏:‏ في الرجل الذي يؤتى به فينشر له تسعة وتسعون سِجِلًا‏,‏ كل سجل منها مَدُّ البصر‏,‏ فيوضع في كِفَّة‏,‏ ويؤتى له ببطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا اللّه‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فَطَاشَتِ السجلات‏,‏ وثَقُلَتِ البطاقة‏)‏‏.‏

وهذا وأمثاله مما يبين أن الأعمال توزن بموازين تبين بها رجحان الحسنات على السيئات وبالعكس‏,‏ فهو ما به تبين العدل‏.‏ والمقصود بالوزن‏:‏ العدل‏,‏ كموازين الدنيا‏.‏

وأما كيفية تلك الموازين فهو بمنزلة كيفية سائر ما أخبرنا به من الغيب‏.‏

/قال الشيخ‏:‏

وأطفال الكفار أصح الأقوال فيهم‏: (‏اللّه أعلم بما كانوا عاملين‏)‏ كما أجاب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ‏.‏

وطائفة من أهل الحديث وغيرهم قالوا‏:‏ إنهم كلهم في النار‏,‏ وذكر أنه من نصوص أحمد وهو غلط على أحمد‏.‏

وطائفة جزموا بأنهم كلهم في الجنة‏,‏ واختار ذلك أبو الفرج ابن الجوزي وغيره‏,‏ واحتجوا بحديث فيه رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى إبراهيم الخليل وعنده أطفال المؤمنين، قيل‏:‏ يا رسول اللّه‏,‏ وأطفال المشركين‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏وأطفال المشركين‏)‏‏.‏

والصواب أن يقال‏:‏ ‏(‏اللّه أعلم بما كانوا عاملين‏)‏‏,‏ ولا نحكم لمُعَيَّن منهم بِجَنَّة ولا نار‏,‏ وقد جاء في عدة أحاديث‏:‏ ‏(‏أنهم يوم القيامة في عَرَصات القيامة يؤمرون وينهون‏,‏ فمن أطاع دخل الجنة‏,‏ ومن عصى دخل النار‏)‏‏.‏ وهذا هو الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن ‏[‏أهل السنة والجماعة‏]‏‏.‏ والتكليف إنما ينقطع بدخول دار الجزاء‏,‏ وهي الجنة والنار‏.‏

/وأما عرصات القيامة‏,‏ فيمتحنون فيها كما يمتحنون في البرزخ‏,‏ فيقال لأحدهم‏:‏ من ربك‏؟‏ وما دينك‏؟‏ ومن نبيك‏؟‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ الآية ‏[‏القلم‏:‏42‏]‏‏.‏

وقد ثبت في الصحاح ـ من غير وجه ـ حديث تَجَلى اللّه لعباده في الموقف‏,‏ إذا قيل‏:‏ ‏(‏ليَتْبَع كلُّ قوم ما كانوا يعبدون‏,‏ فيتبع المشركون آلهتهم‏,‏ ويبقى المؤمنون‏,‏ فيتجلى لهم الرب في غير الصورة التي يعرفون فينكرونه‏,‏ ثم يتجلى لهم في الصورة التي يعرفونها‏,‏ فيسجد له المؤمنون‏,‏ وتبقى ظهور المنافقين كقرون البقر‏,‏ يريدون السجود فلا يستطيعون‏)‏‏.‏ وذكر قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ الآية‏.‏ والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع‏,‏ واللّه أعلم‏.‏

/ سُئِلَ عَنْ الْكُفّار‏:‏ هل يحاسبون يوم القيامة أم لا‏؟‏

فَأَجَـابَ ‏:‏

هذه المسألة تنازع فيها المتأخرون من أصحاب أحمد وغيرهم‏,‏ فممن قال‏:‏ إنهم لا يحاسبون‏:‏ أبو بكر عبد العزيز‏,‏ وأبو الحسن التميمي‏,‏ والقاضي أبو يعلى‏,‏ وغيرهم‏.‏ وممن قال‏:‏ إنهم يحاسبون‏:‏ أبو حفص البرمكي من أصحاب أحمد‏,‏ وأبو سليمان الدمشقي‏,‏ وأبو طالب المكي‏.‏

وفصل الخطاب‏:‏ أن الحساب يراد به عرض أعمالهم عليهم وتوبيخهم عليها‏,‏ ويراد بالحساب موازنة الحسنات بالسيئات‏.‏

فإن أريد بالحساب المعنى الأول‏,‏ فلا ريب أنهم يحاسبون بهذا الاعتبار‏.‏

وإن أريد المعنى الثاني‏,‏ فإن قصد بذلك أن الكفار تبقى لهم حسنات يستحقون بها الجنة‏,‏ فهذا خطأ ظاهر‏.‏

وإن أريد أنهم يتفاوتون في العقاب‏,‏ فعقاب من كثرت سيئاته أعظم من / عقاب من قَلَّتْ سيئاته‏,‏ ومن كان له حسنات خفف عنه العذاب‏,‏ كما أن أبا طالب أخف عذابًا من أبي لَهَب‏.‏

وقال تعالى‏:‏‏{‏الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 88‏]‏‏,‏ وقال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏37‏]‏‏,‏ والنار دَرَكَات‏,‏ فإذا كان بعض الكفار عذابه أشد عذابًا من بعض ـ لكثرة سيئاته وقلة حسناته ـ كان الحساب لبيان مراتب العذاب‏,‏ لا لأجل دخولهم الجنة‏.‏

/ وَسُئلَ شَيْخُ الإسْلام أبو العبَّاسِ تَقي الدين ابن تَيمية ـ قَدَّسَ اللَّه روحه ـ عن العبد المؤمن‏:‏ هل يَكْفُر بالمعصية أم لا‏؟‏

فأَجَابَ‏:‏

لا يكفر بمجرد الذنب‏,‏ فإنه ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف أن الزاني غير المحْصَن يُجْلَد ولا يقتل‏,‏ والشارب يجلد‏,‏ والقاذف يجلد‏,‏ والسارق يقطع‏.‏

ولو كانوا كفارًا لكانوا مرتدين‏,‏ ووجب قتلهم‏,‏ وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف‏.‏

/ سُئِــلَ عن رجل مسلم‏,‏ يعمل عملًا يستوجب أن يبني له قصر في الجنة‏,‏ ويغرس له غراس باسمه‏.‏ ثم يعمل ذنوبًا يستوجب بها النار‏,‏ فإذا دخل النار‏:‏ كيف يكون اسمه أنه في الجنة وهو في النار‏؟‏‏!‏

فأَجَـابَ‏:‏

إن تاب عن ذنوبه توبة نصوحًا‏,‏ فإن اللّه يغفر له‏,‏ ولا يحرمه ما كان وعده‏,‏ بل يعطيه ذلك‏.‏

وإن لم يتب‏,‏ وزنت حسناته وسيئاته‏,‏ فإن رجحت حسناته على سيئاته كان من أهل الثواب‏,‏ وإن رجحت سيئاته على حسناته كان من أهل العذاب‏.‏

وما أعد له من الثواب يحبط ـ حينئذ ـ بالسيئات‏,‏ التي زادت على حسناته‏,‏ كما أنه إذا عمل سيئات استحق بها النار‏,‏ ثم عمل بعدها حسنات تذهب السيئات‏,‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وَسُئلَ عن الشفاعة في أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏,‏ وهل يدخلون الجنة أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن أحاديث الشفاعة في أهل الكبائر ثابتة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏,‏ وقد اتفق عليها السلف من الصحابة‏,‏ وتابعيهم بإحسان‏,‏ وأئمة المسلمين‏,‏ وإنما نازع في ذلك أهل البدع من الخوارج‏,‏ والمعتزلة‏,‏ ونحوهم‏.‏

ولا يبقى في النار أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان‏,‏ بل كلهم يخرجون من النار ويدخلون الجنة‏,‏ ويبقى في الجنة فضل‏.‏ فينشئ اللّه لها خلقًا آخر يدخلهم الجنة‏,‏ كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏

/ وسُئلَ عن أَطفال المؤمنين هل يدومون على حالتهم التي ماتوا عليها‏,‏ أم يكبرون ويتزوجون‏؟‏ وكذلك البنات هل يتزوجن‏؟‏

الجـواب‏:‏

الحمد للّه‏,‏ إذا دخلوا الجنة دخلوها كما يدخلها الكبار‏,‏ على صورة أبيهم آدم‏,‏ طوله ستون ذراعًا في عرض سبعة أذرع‏,‏ ويتزوجون كما يتزوج الكبار‏.‏

ومن مات من النساء ولم يتزوجن‏,‏ فإنها تزوج في الآخرة‏.‏

وكذلك من مات من الرجال فإنه يتزوج في الآخرة‏,‏ واللّه ـ تعالى ـ أعلم‏.

وَسُئِلَ الشَّيخُ ـ رَحمَهُ اللَّه‏:‏

هل يتناسل أهل الجنة‏؟‏ والولدان، هل هم ولدان أهل الجنة‏؟‏ وما حكم الأولاد وأرواح أهل الجنة والنار إذا خرجت من الجسد، هل تكون في الجنة تنعم، أم تكون في مكان مخصوص إلى حيث يبعث اللّه الجسد‏؟‏ وما حكم ولد الزنا إذا مات، يكون من أهل الأعراف، أو في الجنة‏؟‏ وما الصحيح في أولاد المشركين، هل هم من أهل النار أو من أهل الجنة‏؟‏ وهل تسمى الأيام في الآخرة كما تسمى في الدنيا مثل السبت والأحد‏؟‏

فَأَجَـاب‏:‏

الولدان الذين يطوفون على أهل الجنة خَلْقٌ من خَلْق الجنة، ليسوا بأبناء أهل الدنيا، بل أبناء أهل الدنيا إذا دخلوا الجنة يكمل خلقهم كأهل الجنة على صورة آدم، أبناء ثلاث وثلاثين سنة، في طول ستين ذراعًا، وقد روى ـ أيضا ـ أن العرض سبعة أذرع‏.‏

وأرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكافرين في النار، تنعم أرواح المؤمنين، وتعذب أرواح الكافرين، إلى أن تعاد إلى الأبدان‏.‏

/وولد الزنا إن آمن وعمل صالحًا دخل الجنة، وإلا جوزي بعمله كما يجازى غيره، والجزاء على الأعمال، لا على النسب، وإنما يذم ولد الزنا؛ لأنه مَظنَّة أن يعمل عملًا خبيثًا، كما يقع كثيرًا‏.‏ كما تحمد الأنساب الفاضلة؛ لأنها مظنة عمل الخير، فأما إذا ظهر العمل فالجزاء عليه، وأكرم الخلق عند اللّه أتقاهم‏.‏

وأما أولاد المشركين، فأصح الأجوبة فيهم جواب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين‏:‏ ‏(‏ما من مولود إلا يولد على الفطرة‏)‏ الحديث، قيل‏:‏ يا رسول اللّه، أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏اللّه أعلم بما كانوا عاملين‏)‏‏.‏ فلا يحكم على معين منهم لا بجنة ولا بنار‏.‏ ويروى‏:‏ ‏(‏أنهم يوم القيامة يمتحنون في عرصات القيامة، فمن أطاع اللّه حينئذ دخل الجنة ومن عصى دخل النار‏)‏‏.‏

ودلت الأحاديث الصحيحة أن بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار‏.‏ والجنة ليس فيها شمس ولا قمر، ولا ليل ولا نهار، لكن تعرف البُكْرَة والعشيَّة بنور يظهر من قبل العرش، واللّه أعلم‏.‏

/ وَسُئلَ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن رجل قيل له‏:‏ إنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن أهل الجنة يأكلون ويشربون، ويتمتعون، ولا يبولون ولا يَتغَوَّطون‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ من أكل وشرب بال وتَغَوَّطَ‏.‏ ثم قيل له‏:‏ إن في الجنة طيورًا، إذا اشتهى صار قدامه على أي صورة أراد من الأطعمة وغيرها، فقال‏:‏ هذا فُشَار‏ [‏الفُشَار‏:‏ الذي تستعمله العامة، ليس من كلام العرب‏]‏‏.‏ هل بجحده هذا يكفر ويجب قتله أم لا‏؟‏

فَأَجَــابَ‏:‏

الأكل والشرب في الجنة ثابت بكتاب اللّه، وسنة رسوله، وإجماع المسلمين‏.‏ وهو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وكذلك الطيور والقصور في الجنة بلا ريب، كما وصف ذلك في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أن أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يبَصُقون، لم يخالف من المؤمنين باللّه ورسوله أحد، وإنما المخالف في ذلك أحد رجلين‏:‏ إما كافر، وإما منافق‏.‏

أما الكافر، فإن اليهود والنصارى ينكرون الأكل والشرب والنكاح في/الجنة، يزعمون أن أهل الجنة إنما يتمتعون بالأصوات المطربة والأرواح الطيبة مع نعيم الأرواح، وهم يقرون مع ذلك بحشر الأجساد مع الأرواح ونعيمها وعذابها‏.‏

وأما طوائف من الكفار، وغيرهم من الصابئة والفلاسفة ومن وافقهم، فيقرون بحشر الأرواح فقط، وأن النعيم والعذاب للأرواح فقط‏.‏

وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم، ينكرون المعاد بالكلية، فلا يقرون لا بمعاد الأرواح، ولا الأجساد‏.‏ وقد بين اللّه ـ تعالى ـ في كتابه على لسان رسوله أمر معاد الأرواح، والأجساد، ورد على الكافرين والمنكرين لشيء من ذلك؛ بيانًا في غاية التمام والكمال‏.‏

وأما المنافقون من هذه الأمة، الذين لا يقرون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة فإنهم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون‏:‏ هذه أمثال ضربت لنفهم المعاد الروحاني، وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية الذين قولهم مؤلف من قول المجوس والصابئة، ومثل المتفلسفة الصابئة المنتسبين إلى الإسلام، وطائفة ممن ضاهوهم، من كاتب، أو متطبب، أو متكلم، أو متصوف ـ كأصحاب‏ [رسائل إخوان الصفا] ‏وغيرهم ـ أو منافق‏.‏ وهؤلاء كلهم كفار يجب قتلهم باتفاق أهل الإيمان؛ فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك بيانًا شَافيًا قاطعًا للعذر، /وتواتر ذلك عند أمته، خاصها وعامها‏.‏ وقد ناظره بعض اليهود في جنس هذه المسألة وقال‏:‏ يا محمد، أنت تقول‏:‏ إن أهل الجنة يأكلون ويشربون، ومن يأكل ويشرب لابد له من خلاء‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رَشْح كرشح المِسْك‏)‏‏ .‏

ويجب على ولي الأمر قتل من أنكر ذلك، ولو أظهر التصديق بألفاظه، فكيف بمن ينكر الجميع‏؟‏ واللّه أعلم‏.‏

/ سُئلَ رَحمَهُ اللَّهُ‏:‏ هل أهل الجنة يأكلون ويشربون وينكحون بتلذذ كالدنيا‏؟‏

وهل تبعث هذه الأجسام بعينها‏؟‏وهل عيسى حي أم ميت ‏؟‏ وهل إذا نزل يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم أم بشريعته الأولى، أم تحدث له شريعة‏؟‏

فأَجَابَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏

أما أهل الجنة فيأكلون، ويشربون، وينكحون، متنعمين بذلك بإجماع المسلمين، كما نطق به الكتاب والسنة، وإنما ينكر ذلك من ينكره من اليهود والنصارى‏.‏

وهذه الأجساد هي التي تبعث كما نطق به الكتاب والسنة‏.‏

وعيسى حيٌّ في السماء لم يمت بَعدُ، وإذا نزل من السماء لم يحكم إلا بالكتاب والسنة، لا بشىء يخالف ذلك، واللّه أعلم‏.‏

/قال شيخ الإسلام ـ قدسً اللَّهُ رُوحَهُ‏:‏

فَصـل

وأفضل الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم إبراهيم الخليل، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنه خَيْر البَرِيَّة‏)‏ ‏.‏

وكذلك قال العلماء، منهم‏:‏ الربيع بن خُثَيْم قال‏:‏ لا أفضل على نبينا أحدًا، ولا أفضل على إبراهيم بعد نبينا أحدًا‏.‏

/ سئِلَ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ فيمن يقول‏:‏ إن غير الأنبياء يبلغ درجتهم بحيث يأمنون مكر اللّه‏:‏ هل يأثم بهذا الاعتقاد‏؟‏

فأَجَـاب ‏:‏

من اعتقد أن في أولياء اللّه من لا يجب عليه اتباع المرسلين وطاعتهم فهو كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، مثل من يعتقد أن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يستغنى عن متابعته كما استغنى الخضر عن متابعة موسى، فإن موسى لم تكن دعوته عامة، بخلاف محمد صلى الله عليه وسلم فإنه مبعوث إلى كل أحد، فيجب على كل أحد متابعة أمره، وإذا كان من اعتقد سقوط طاعته عنه كافرًا، فكيف من اعتقد أنه أفضل منه، أو أنه يصير مثله‏!‏‏.‏

وأما من اعتقد أن من الأولياء من يعلم أنه من أهل الجنة، كما بشر غير واحد من الصحابة بالجنة، وكما قد يعرف اللّه بعض الأولياء أنه من أهل الجنة، فهذا لا يكفر‏.‏

ومع هذا، فلابد له من خشية اللّه ـ تعالى، واللّه أعلم‏.‏

/ سئلَ الشَّيْخُ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن رجل قال‏:‏ إن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ معصومون من الكبائر، دون الصغائر، فكفَّره رجل بهذه، فهل قائل ذلك مخطئ أو مصيب‏؟‏ وهل قال أحد منهم بعصمة الأنبياء مطلقًا‏؟‏ وما الصواب في ذلك‏؟‏

فَأَجَــاب‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، ليس هو كافرًا باتفاق أهل الدين، ولا هذا من مسائل السب المتنازع في استتابة قائله بلا نزاع، كما صرح بذلك القاضي عياض وأمثاله مع مبالغتهم في القول بالعصمة، وفي عقوبة السَّابِّ؛ ومع هذا فهم متفقون على أن القول بمثل ذلك ليس هو من مسائل السب والعقوبة، فضلا أن يكون قائل ذلك كافرًا، أو فاسقًا؛ فإن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر، هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر أبو الحسن الآمدي‏ [‏هو أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي، ويلقب بسيف الدين الآمدي، كان في أول اشتغاله حنبلي المذهب، ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعي، قام مدة ببغداد، ثم انحدر إلى الشام واشتغل بفنون المعقول، ثم انتقل إلى مصر، وله مصنفات كثيرة في أصول الفقه والدين والمنطق وغيرها، ولد سنة 551هـ وتوفي سنة 631 هـ]‏ أن هذا قول أكثر الأشعرية، وهو ـ أيضًا ـ قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل هو لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول، ولم ينقل عنهم ما يوافق القول‏.‏ ‏.‏ ‏.‏‏.‏[بياض قدر ستة أسطر]‏

/وإنما نقل ذلك القول في العصر المتقدم عن الرافضة، ثم عن بعض المعتزلة، ثم وافقهم عليه طائفة من المتأخرين‏.‏

وعامة ما ينقل عن جمهور العلماء، أنهم غير معصومين عن الإقرار على الصغائر ولا يقرون عليها، ولا يقولون‏:‏ إنها لا تقع بحال، وأول من نقل عنهم من طوائف الأمة القول بالعصمة مطلقًا، وأعظمهم قولًا لذلك الرافضةُ، فإنهم يقولون بالعصمة حتى ما يقع على سبيل النسيان والسهو والتأويل‏.‏

وينقلون ذلك إلى من يعتقدون إمامته، وقالوا بعصمة علىّ، والاثنى عشر، ثم الإسماعيلية الذين كانوا ملوك القاهرة، وكانوا يزعمون أنهم خلفاء علويون فاطميون، وهم عند أهل العلم من ذرية عُبَيد اللّه القَدَّاح، كانوا هم وأتباعهم يقولون بمثل هذه العصمة لأئمتهم ونحوهم، مع كونهم كما قال فيهم أبو حامد الغزالي ـ في كتابه الذي صنفه في الرد عليهم - قال‏:‏ ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض‏.‏

وقد صنف القاضي أبو يعلى وصف مذاهبهم في كتبه، وكذلك غير هؤلاء من علماء المسلمين، فهؤلاء وأمثالهم من الغلاة القائلين بالعصمة، وقد يُكفِّرون من ينكر القول بها، وهؤلاء الغالية هم كفار باتفاق المسلمين، فمن كفر القائلين بتجويز الصغائر عليهم كان مضاهيًا لهؤلاء الإسماعيلية، والنصيرية، والرافضة، والاثنى عشرية، ليس هو قول أحد من أصحاب أبي حنيفة، ولا مالك، ولا الشافعي، ولا المتكلمين ـ المنتسبين إلى السنة المشهورين ـ كأصحاب /أبي محمد عبد اللّه بن سعيد بن كُلاب، وأبي الحسن على بن إسماعيل الأشعري، وأبي عبد اللّه محمد بن كَرَّام [‏هو أبو عبد الله محمد بن كَرَّام السجستاني، شيخ الكَرّامية، ساقط الحديث على بدعه، كان يكثر عن الكذابين، قال عنه ابن حبان‏:‏ خذل حتى أخذ من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها‏]، وغير هؤلاء، ولا أئمة التفسير ولا الحديث، ولا التصوف‏.‏ ليس التكفير بهذه المسألة قول هؤلاء، فالمكفر بمثل ذلك يستتاب، فإن تاب وإلا عوقب على ذلك عقوبة تردعه وأمثاله عن مثل هذا، إلا أن يظهر منه ما يقتضى كفره وزندقته، فيكون حكمه حكم أمثاله‏.‏

وكذلك المُفَسِّق بمثل هذا القول يجب أن يُعَزَّر بعد إقامة الحجة عليه، فإن هذا تفسيق لجمهور أئمة الإسلام‏.‏

وأما التصويب والتخطئة في ذلك، فهو من كلام العلماء الحافظين من علماء المسلمين المنتسبين إلى السنة والجماعة، وتفصيل القول في ذلك يحتاج إلى بسط طويل لا تحتمله هذه الفتوى، واللّه أعلم‏.‏

/ سُئِلَ ـ رَحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ عن رجلين تنازعًا في أمر نبي اللّه عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ فقال أحدهما‏:‏ إن عيسى ابن مريم توفاه اللّه ثم رفعه إليه، وقال الآخر‏:‏ بل رفعه إليه حيا‏.‏ فما الصواب في ذلك‏؟‏ وهل رفعه بجسده، أو روحه أم لا‏؟‏ وما الدليل على هذا وهذا ‏؟‏ وما تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 55‏]‏‏؟‏

فَأَجَـابَ‏:‏

الحمد للّه، عيسى ـ عليه السلام ـ حي، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلًا، وإمامًا مقسطًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية‏)‏، وثبت في الصحيح عنه‏:‏ أنه ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، وأنه يقتل الدَّجَّال‏.‏ ومن فارقت روحه جسده لم ينزل جسده من السماء، وإذا أحيى فإنه يقوم من قبره‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏، فهذا دليل على أنه لم يَعْنِ بذلك الموت؛ إذ لو أراد بذلك الموت لكان عيسى في ذلك كسائر المؤمنين؛ فإن اللّه يقبض أرواحهم ويعرج بها إلى السماء، فعلم أن ليس في ذلك خاصية، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏، ولو /كان قد فارقت روحه جسده لكان بدنه في الأرض كبدن سائر الأنبياء، أو غيره من الأنبياء‏.‏

وقد قال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏157، 158‏]‏، فقوله هنا‏:‏ ‏{‏بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ‏}‏ يبين أنه رفع بدنه وروحه، كما ثبت في الصحيح أنه ينزل بدنه وروحه؛ إذ لو أريد موته لقال‏:‏ وما قتلوه وما صلبوه، بل مات‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ‏}‏ يبين أنه رفع بدنه وروحه، كما ثبت في الصحيح أنه ينزل بدنه وروحه‏.‏

ولهذا قال من قال من العلماء‏:‏ ‏{‏إِنِّي مُتَوَفِّيكَ‏}‏‏:‏ أي‏:‏ قابضك، أي‏:‏ قابض روحك وبدنك، يقال‏:‏ تَوَفَّيْتُ الحسابَ واستوفيتُه، ولفظ التَّوَفِّي لا يقتضي نفسه تَوفِّي الروح دون البدن، ولا تَوَفِّيهما جميعًا، إلا بقرينة منفصلة‏.‏

وقد يراد به توفي النوم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 61‏]‏، وقد ذكروا في صفة توفي المسيح ما هو مذكور في موضعه‏.‏ واللّه ـ تعالى ـ أعلم‏.‏

/ سُئلَ الشَّيخُ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏

هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن اللّه ـ تبارك وتعالى ـ أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه، ثم ماتا بعد ذلك ‏؟‏

فَأَجَـاب‏:‏

لم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث، بل أهل المعرفة متفقون على أن ذلك كذب مختلق، وإن كان قد روى في ذلك أبو بكر ـ يعني الخطيب ـ في كتابه [‏السابق واللاحق‏]‏، وذكره أبو القاسم السهيلي في [‏شرح السيرة] ‏بإسناد فيه مجاهيل، وذكره أبو عبد اللّه القرطبي في‏ [‏التذكرة]‏، وأمثال هذه المواضع، فلا نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر الموضوعات كذبًا، كما نص عليه أهل العلم، وليس ذلك في الكتب المعتمدة في الحديث، لا في الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد ونحو ذلك من كتب الحديث المعروفة، ولا ذكره أهل كتب المغازي والتفسير، وإن كانوا قد يروون الضعيف مع الصحيح؛ لأن ظهور كذب ذلك لا يخفى على متدين، فإن مثل هذا لو وقع لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فإنه من أعظم الأمور خرقًا للعادة من وجهين‏:‏

/من جهة إحياء الموتى، ومن جهة الإيمان بعد الموت، فكان نقل مثل هذا أولى من نقل غيره، فلما لم يروه أحد من الثقات علم أنه كذب‏.‏

والخطيب البغدادي هو في كتاب‏ [السابق واللاحق]‏ مقصوده أن يذكر من تقدم ومن تأخر من المحدثين عن شخص واحد، سواء كان الذي يروونه صدقًا أو كذبًا، وابن شاهين يروي الغَثَّ والسَّمِين، والسهيلي إنما ذكر ذلك بإسناد فيه مجاهيل‏.‏

ثم هذا خلاف الكتاب، والسنة الصحيحة والإجماع‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏

فبين اللّه تعالى‏:‏ أنه لا توبة لمن مات كافرًا، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 85‏]‏‏.‏

فأخبر أن سنته في عباده أنه لا ينفع الإيمان بعد رؤية البأس؛ فكيف بعد الموت‏؟‏ ونحو ذلك من النصوص‏.‏

وفي صحيح مسلم‏:‏ أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أين أبي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إن أباك في النار‏)‏‏.‏ فلما أدبر دعاه فقال‏:‏ ‏(‏إن أبي وأباك في النار‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم ـ أيضًا ـ أنه قال‏:‏ ‏(‏استأذنت ربي أن أزور قبر أمي، /فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تُذكِّر الآخرة‏)‏‏.‏

وفي الحديث ـ الذي في المسند وغيره ـ قال‏:‏ ‏(‏إن أمي مع أمك في النار‏)‏، فإن قيل‏:‏ هذا في عام الفتح والإحياء كان بعد ذلك في حجة الوداع؛ ولهذا ذكر ذلك من ذكره، وبهذا اعتذر صاحب التذكرة، وهذا باطل لوجوه‏:‏

الأول‏:‏ أن الخبر عما كان ويكون لا يدخله نسخ، كقوله في أبي لهب‏:‏ ‏{‏سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 3‏]‏، وكقوله في الوليد‏:‏ ‏{‏سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وكذلك في‏:‏ ‏(‏إن أبي وأباك في النار‏)‏ و ‏(‏إن أمي وأمك في النار‏)‏، وهذا ليس خبرًا عن نار يخرج منها صاحبها كأهل الكبائر؛ لأنه لو كان كذلك لجاز الاستغفار لهما، ولو كان قد سبق في علم اللّه إيمانهما لم ينهه عن ذلك، فإن الأعمال بالخواتيم، ومن مات مؤمنا فإن اللّه يغفر له، فلا يكون الاستغفار له ممتنعًا‏.‏

الثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه؛ لأنها كانت بطريقه بالحَجُون عند مكة عام الفتح، وأما أبوه فلم يكن هناك، ولم يزره؛ إذ كان مدفونًا بالشام في غير طريقه، فكيف يقال‏:‏ أحيى له ‏؟‏

الثالث‏:‏ أنهما لو كانا مؤمنين إيمانًا ينفع، كانا أحق بالشهرة والذكر من عميه‏:‏ حمزة والعباس، وهذا أبعد مما يقوله الجهال من الرافضة ونحوهم، /من أن أبا طالب آمن، ويحتجون بما في السيرة من الحديث الضعيف، وفيه أنه تكلم بكلام خفي وقت الموت‏.‏

ولو أن العباس ذكر أنه آمن لما كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ عمك الشيخ الضال كان ينفعك فهل نفعته بشىء‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏وجدته في غمرة من نار فشفعت فيه حتى صار في ضحضاح من نار، في رجليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار‏)‏‏.‏

هذا باطل مخالف لما في الصحيح وغيره، فإنه كان آخر شىء قاله‏:‏ هو على ملة عبد المطلب، وأن العباس لم يشهد موته، مع أن ذلك لو صح لكان أبو طالب أحق بالشهرة من حمزة والعباس، فلما كان من العلم المتواتر المستفيض بين الأمة ـ خلفًا عن سلف ـ أنه لم يذكر أبو طالب ولا أبواه في جملة من يذكر من أهله المؤمنين، كحمزة، والعباس، وعلي، وفاطمة، والحسن والحسين ـ رضي اللّه عنهم ـ كان هذا من أبين الأدلة على أن ذلك كذب‏.‏

الرابع‏:‏ أن اللّه تعالى قال‏:‏‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ‏}‏ الآية ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏‏.‏

فأمر بالتأسى بإبراهيم والذين معه، إلا في وعد إبراهيم لأبيه بالاستغفار، وأخبر أنه لما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه‏.‏ واللّه أعلم ‏.‏

/ سُئلَ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن هذه الأحاديث‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى مـوسى ـ عليه السلام ـ وهو يصلي في قبره، ورآه وهو يطوف بالبيت، ورآه في السماء، وكذلك بعض الأنبياء‏.‏ وهل إذا مات أحد يبقى له عمل، والحديث أنه ينقطع عمله‏؟‏ وهل ينتفع بهذه الصلاة والطواف‏؟‏ وهل رأى الأنبياء بأجسادهم في هذه الأماكن أم بأرواحهم‏؟‏

فأجَاب‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، أما رؤيا موسى ـ عليه السلام ـ في الطواف، فهذا كان رؤيا منام، لم يكن ليلة المعراج ـ كذلك جاء مفسرا ـ كما رأى المسيح أيضًا، ورأى الدجال‏.‏ وأما رؤيته ورؤية غيره من الأنبياء ليلة المعراج في السماء ـ لما رأى آدم في السماء الدنيا، ورأى يحيى وعيسى في السماء الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة ـ أو بالعكس، فهذا رأى أرواحهم مصورة في صور أبدانهم‏.‏

وقد قال بعض الناس‏:‏ لعله رأى نفس الأجساد المدفونة في القبور، وهذا ليس بشىء‏.‏

/ لكن عيسى صعد إلى السماء بروحه وجسده، وكذلك قد قيل في إدريس‏.‏

وأما إبراهيم وموسى وغيرهما، فهم مدفونون في الأرض‏.‏

والمسيح ـ صلى الله عليه وسلم وعلى سائر النبيين ـ لابد أن ينزل إلى الأرض على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيقتل الدجال، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة؛ ولهذا كان في السماء الثانية مع أنه أفضل من يوسف، وإدريس، وهارون؛ لأنه يريد النزول إلى الأرض قبل يوم القيامة، بخلاف غيره‏.‏

وآدم كان في سماء الدنيا؛ لأن نَسَم بنيه تعرض عليه ـ أرواح السعداء ـ والأشقياء لا تفتح لهم أبواب السماء، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ـ فلا بد إذا عرضوا عليه أن يكون قريبًا منهم‏.‏

وأما كونه رأى موسى قائما يصلي في قبره، ورآه في السماء أيضًا، فهذا لا منافاة بينهما، فإن أمر الأرواح من جنس أمر الملائكة، في اللحظة الواحدة تصعد، وتهبط كالملك، ليست في ذلك كالبدن‏.‏

وقد بسطت الكلام على أحكام الأرواح بعد مفارقة الأبدان في غير هذا الموضع، وذكرت بعض ما في ذلك من الأحاديث، والآثار، والدلائل‏.‏

وهذه الصلاة ونحوها مما يتمتع بها الميت، ويتنعم بها كما يتنعم أهل الجنة /بالتسبيح، فإنهم يُلْهَمون التسبيح كما يلهم الناس في الدنيا النَّفَس، فهذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل، بل نفس هذا العمل هو من النعيم الذي تتنعم به الأنفس وتتلذذ به‏.‏

وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له‏)‏، يريد به العمل الذي يكون له ثواب، لم يرد به نفس العمل الذي يتنعم به، فإن أهل الجنة يتنعمون بالنظر إلى اللّه، ويتنعمون بذكره وتسبيحه، ويتنعمون بقراءة القرآن، ويقال لقارئ القرآن‏:‏ اقرأ وارْقَ، ورتِّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها‏.‏

ويتنعمون بمخاطبتهم لربهم ومناجاته، وإن كانت هذه الأمور في الدنيا أعمالًا يترتب عليها الثواب فهي في الآخرة أعمال يتنعم بها صاحبها أعظم من أكله وشربه ونكاحه، وهذه كلها أعمال أيضًا والأكل والشرب والنكاح في الدنيا مما يؤمر به ويثاب عليه مع النية الصالحة، وهو في الآخرة نفس الثواب الذي يتنعم به‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

وهذا قدر ما احتملته هذه الورقة، فإن هذه المسائل لها بسط طويل‏.‏

/ سُئِلَ الشَّيْخُ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن الذبيح من ولد خليل اللّه إبراهيم ـ عليه السلام ـ هل هو إسماعيل، أو إسحاق‏؟‏

فَأَجَـاب‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، هذه المسألة فيها مذهبان مشهوران للعلماء، وكل منهما مذكور عن طائفة من السلف، وذكر أبو يعلى في ذلك روايتين عن أحمد، ونصر أنه إسحاق، إتباعًا لأبي بكر عبد العزيز، وأبو بكر اتبع محمد بن جرير‏.‏ ولهذا يذكر أبو الفرج ابن الجوزي أن أصحاب أحمد ينصرون أنه إسحاق، وإنما ينصره هذان، ومن اتبعهما، ويحكى ذلك عن مالك نفسه لكن خالفه طائفة من أصحابه‏.‏

وذكر الشريف أبو علي بن أبي يوسف‏:‏ أن الصحيح في مذهب أحمد أنه إسماعيل، وهذا هو الذي رواه عبد اللّه بن أحمد عن أبيه، قال‏:‏ مذهب أبي أنه إسماعيل، وفي الجملة فالنزاع فيها مشهور، لكن الذي يجب القطع به أنه إسماعيل، وهذا الذي عليه الكتاب والسنة والدلائل المشهورة، وهو الذي تدل عليه التوراة التي بأيدي أهل الكتاب‏.‏

/وأيضا، فإن فيها أنه قال لإبراهيم‏:‏ اذبح ابنك وحيدك‏.‏ وفي ترجمة أخرى‏:‏ بِكْرك، وإسماعيل هو الذي كان وحيده وبكره باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، لكن أهل الكتاب حرَّفوا، فزادوا إسحاق، فتلقى ذلك عنهم من تلقاه، وشاع عند بعض المسلمين أنه إسحاق، وأصله من تحريف أهل الكتاب‏.‏

ومما يدل على أنه إسماعيل قصة الذبيح المذكورة في سورة الصافات، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 101‏]‏، وقد انطوت البشارة على ثلاث‏:‏ على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ الحلم، وأنه يكون حليمًا‏.‏ وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فقال‏:‏ ‏{‏سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏‏؟‏ وقيل‏:‏ لم ينعت اللّه الأنبياء بأقل من الحلم، وذلك لعزة وجوده، ولقد نعت إبراهيم به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏، ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 75‏]‏ لأن الحادثة شهدت بحلمهما‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ‏] ‏‏{‏الصافات 107-113‏]‏‏.‏

فهذه القصة تدل على أنه إسماعيل من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه بشره بالذبيح وذكر قصته أولا، فلما استوفى في ذلك قال‏:‏ /‏{‏وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 112، 113‏]‏‏.‏

فبين أنهما بشارتان‏:‏ بشارة بالذبيح، وبشارة ثانية بإسحاق، وهذا بيّن‏.‏

الثاني‏:‏ أنه لم يذكر قصة الذبيح في القرآن إلا في هذا الموضع، وفي سائر المواضع يذكر البشارة بإسحاق خاصة، كما في سورة هود، من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 17‏]‏، فلو كان الذبيح إسحاق لكان خلفًا للوعد في يعقوب، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 28، 29‏]‏‏.‏

وقال تعالى في سورة الحجر‏:‏ ‏{‏قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ‏{‏‏[‏الحجر‏:‏ 53-55‏]‏، ولم يذكر أنه الذبيح، ثم لما ذكر البشارتين جميعًا‏:‏ البشارة بالذبيح والبشارة بإسحاق بعده، كان هذا من الأدلة على أن إسحاق ليس هو الذبيح‏.‏

ويؤيد ذلك أنه ذكر هبته وهبة يعقوب لإبراهيم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 72‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 27‏]‏، ولم يذكر اللّه الذبيح‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أنه ذكر في الذبيح أنه غلام حليم، ولما ذكر البشارة بإسحاق ذكر البشارة بغلام عليم في غير هذا الموضع، والتخصيص لابد له من حكمة، /وهذا مما يقوي اقتران الوصفين، والحلم هو مناسب للصبر الذي هو خلق الذبيح‏.‏

وإسماعيل وصف بالصبر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 85‏]‏، وهذا أيضًا وجه ثالث فإنه قال في الذبيح‏:‏ ‏{‏يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 102‏]‏، وقد وصف اللّه إسماعيل أنه من الصابرين، ووصف اللّه ـ تعالى ـ إسماعيل أيضًا بصدق الوعد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 54‏]‏؛ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ أن البشارة بإسحاق كانت معجزة؛ لأن العجوز عقيم؛ ولهذا قال الخليل ـ عليه السلام‏:‏ ‏{‏أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏54‏]‏، وقالت امرأته‏:‏‏}‏ أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 72‏]‏، وقد سبق أن البشارة بإسحاق في حال الكِبَر، وكانت البشارة مشتركة بين إبراهيم وامرأته‏.‏

وأما البشارة بالذبيح، فكانت لإبراهيم ـ عليه السلام ـ وامتحن بذبحه دون الأم المبشرة به، وهذا مما يوافق ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الصحيح وغيره‏:‏ من أن إسماعيل لما ولدته هاجر غارت سارة، فذهب إبراهيم /بإسماعيل وأمه إلى مكة، وهناك أمر بالذبح‏.‏ وهذا مما يؤيد أن هذا الذبيح دون ذلك‏.‏

ومما يدل على أن الذبيح ليس هو إسحاق، أن اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 71‏]‏، فكيف يأمر بعد ذلك بذبحه‏؟‏ والبشارة بيعقوب تقتضى أن إسحاق يعيش ويولد له يعقوب، ولا خلاف بين الناس أن قصة الذبيح كانت قبل ولادة يعقوب، بل يعقوب إنما ولد بعد موت إبراهيم ـ عليه السلام ـ وقصة الذبيح كانت في حياة إبراهيم بلا ريب‏.‏

ومما يدل على ذلك‏:‏ أن قصة الذبيح كانت بمكة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة كان قرنا الكبش في الكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للسادن‏:‏ ‏(‏إني آمرك أن تخمر قرني الكبش فإنه لا ينبغي أن يكون في القبلة ما يلهي المصلي‏)‏‏.‏

ولهذا جعلت مني محلا للنسك من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهما اللذان بنيا البيت بنص القرآن‏.‏

ولم ينقل أحد أن إسحاق ذهب إلى مكة، لا من أهل الكتاب، ولا غيرهم، لكن بعض المؤمنين من أهل الكتاب يزعمون أن قصة الذبح كانت بالشام، فهذا افتراء‏.‏ فإن هذا لو كان ببعض جبال الشام لعرف ذلك / الجبل، وربما جعل مَنْسَكًا كما جعل المسجد الذي بناه إبراهيم وما حوله من المشاعر‏.‏

وفي المسألة دلائل أخرى على ما ذكرناه، وأسئلة أوردها طائفة؛ كابن جرير، والقاضي أبي يعلى، والسهيلي، ولكن لا يتسع هذا الموضع لذكرها والجواب عنها، واللّه ـ عز وجل ـ أعلم‏.‏

والحمد للّه رب العالمين‏.‏ وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا‏.

وَسُئلَ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن ‏‏الخضر‏‏ وإلياس، هل هما معمران‏؟‏ بينوا لنا ـ رحمكم اللّه تعالى‏.‏

فأجاب‏:‏

إنهما ليسا في الأحياء، ولا معمران، وقد سأل إبراهيم الحربي أحمد بن حنبل عن تعمير الخضر وإلياس، وأنهما باقيان يريان ويروى عنهما، فقال الإمام أحمد‏:‏ من أحال على غائب لم ينصف منه، وما ألقى هذا إلا شيطان‏.‏

وسئل البخاري عن الخضر وإلياس‏:‏ هل هما في الأحياء‏؟‏ فقال‏:‏ كيف يكون هذا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الأرض أحد‏؟‏‏)‏‏.‏

وقال أبو الفرج ابن الجوزي‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 34‏]‏ وليس هما في الأحياء‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ سُئلَ الشَّيْخُ ـ رَحمَهُ اللَّهُ‏:‏

هل كان الخضر ـ عليه السلام ـ نبيًا أو وليًا ‏؟‏ وهل هو حي إلى الآن‏؟‏ وإن كان حيًا فما تقولون فيما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لو كان حيًا لزارني‏)‏ هل هذا الحديث صحيح أم لا‏؟‏

فأجَـاب‏:‏

أما نبوته‏:‏ فمن بعد مبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه ولا إلى غيره من الناس، وأما قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فقد اختلف في نبوته، ومن قال‏:‏ إنه نبي، لم يقل‏:‏ إنه سلب النبوة، بل يقول‏:‏ هو كإلياس نبي، لكنه لم يوح إليه في هذه الأوقات، وترك الوحي إليه في مدة معينة ليس نفيًا لحقيقة النبوة، كما لو فتر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء مدة رسالته‏.‏

وأكثر العلماء على أنه لم يكن نبيًا، مع أن نبوة من قبلنا يقرب كثير منها من الكرامة والكمال في الأمة، وإن كان كل واحد من النبيين أفضل من كل /واحد من الصديقين كما رتبه القرآن، وكما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر الصديق‏)‏، وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن كان الرجل ليسمع الصوت فيكون نبيًا‏)‏‏.‏

وفي هذه الأمة من يسمعه ويرى الضوء وليس بنبي؛ لأن ما يراه ويسمعه يجب أن يعرضه على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه تيقن أن الذي جاء من عند اللّه يقين لا يخالطه ريب، ولا يحوجه أن يشهد عليه بموافقة غيره‏.‏

وأما حياته‏:‏ فهو حي‏.‏ والحديث المذكور لا أصل له، ولا يعرف له إسناد، بل المروي في مسند الشافعي وغيره‏:‏ أنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن قال‏:‏ إنه لم يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد قال ما لا علم له به، فإنه من العلم الذي لا يحاط به‏.‏

ومن احتج على وفاته بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد‏)‏ فلا حجة فيه، فإنه يمكن أن يكون الخضر إذ ذاك على وجه الأرض‏.‏

ولأن الدجال ـ وكذلك الجساسة ـ الصحيح أنه كان حيا موجودا /على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو باق إلى اليوم لم يخرج، وكان في جزيرة من جزائر البحر‏.‏

فما كان من الجواب عنه كان هو الجواب عن الخضر، وهو أن يكون لفظ الأرض لم يدخل في هذا الخبر، أو يكون أراد صلى الله عليه وسلم الآدميين المعروفين، وأما من خرج عن العادة فلم يدخل في العموم، كما لم تدخل الجن، وإن كان لفظًا ينتظم الجن والإنس‏.‏ وتخصيص مثل هذا من مثل هذا العموم كثير معتاد‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسُئلَ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل يعلم وقت الساعة ‏؟‏

فأَجَــاب‏:‏

أما الحديث المسؤول عنه، كونه صلى الله عليه وسلم يعلم وقت الساعة، فلا أصل له، ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحديد وقت الساعة نص أصلًا، بل قد قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏ أي‏:‏ خفى على أهل السموات والأرض، وقال تعالى لموسى‏:‏ ‏{‏إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏15‏]‏‏.‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ أكاد أخفيها من نفسي فكيف أطلع عليها‏؟‏

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ـ وهو في مسلم من حديث عمر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له‏:‏ متى الساعة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما المسؤول عنها بأعلم من السائل‏)‏‏.‏ فأخبر أنه ليس بأعلم بها من السائل، وكان السائل في صورة أعرابي، ولم يعلم أنه جبريل إلا بعد أن ذهب وحين أجابه لم يكن يظنه إلا أعرابيا، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال عن نفسه‏:‏ إنه ليس بأعلم بالساعة من / أعرابي، فكيف يجوز لغيره أن يدعي علم ميقاتها‏؟‏‏!‏ وإنما أخبر الكتاب والسنة بأشراطها، وهي علاماتها، وهي كثيرة تقدم بعضها، وبعضها لم يأت بعد‏.‏

ومن تكلم في وقتها المعين، مثل الذي صنف كتابًا سماه ‏[‏الدر المنظم في معرفة الأعظم‏] وذكر فيه عشر دلالات بين فيها وقتها، والذين تكلموا على ذلك من [‏حروف المعجم‏] والذي تكلم في [‏عنقاء مغرب] وأمثال هؤلاء، فإنهم وإن كان لهم صورة عظيمة عند أتباعهم، فغالبهم كاذبون مفترون، وقد تبين لديهم من وجوه كثيرة أنهم يتكلمون بغير علم؛ وإن ادعوا في ذلك الكشف ومعرفة الأسرار، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏].‏

/  سُئلَ شَيْخُ الإِسْلاَم عن صالحي بني آدم، والملائكة، أيهما أفضل ‏؟‏

فَأَجـاب‏:‏

بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية؛ فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهون عما يلابسه بنو آدم، مستغرقون في عبادة الرب، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر‏.‏

وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة، فيصير صالحو البشر أكمل من حال الملائكة‏.‏

قال ابن القيم‏:‏ وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل، وتتفق أدلة الفريقين، ويصالح كل منهم على حقه‏.‏

/  وسُئلَ عن المطيعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل هم أفضل من الملائكة‏؟‏

فأَجَـاب‏:‏

قد ثبت عن عبد اللّه بن عمرو أنه قال‏:‏ إن الملائكة قالت‏:‏ يا رب، جعلت بني آدم يأكلون في الدنيا ويشربون ويتمتعون، فاجعل لنا الآخرة كما جعلت لهم الدنيا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏لا أفعل‏)‏‏.‏ ثم أعادوا عليه فقال‏:‏ ‏(‏لا أفعل‏)‏‏.‏ ثم أعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا فقال‏:‏ ‏(‏وعزتي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له‏:‏ كن فكان‏)‏‏.‏ ذكره عثمان ابن سعيد الدارمي، ورواه عبد اللّه بن أحمد في كتاب[‏السنن‏]‏عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا‏.‏

وعن عبد اللّه بن سلام أنه قال‏:‏ ما خلق اللّه خلقًا أكرم عليه من محمد، فقيل له‏:‏ ولا جبريل ولا ميكائيل ‏؟‏ فقال للسائل‏:‏ أتدري ما جبريل وما ميكائيل‏؟‏ إنما جبريل وميكائيل خلق مسخر كالشمس والقمر، وما خلق اللّه خلقًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما علمت عن أحد من الصحابة ما يخالف ذلك‏.‏ وهذا هو المشهور عند المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو‏:‏ أن الأنبياء والأولياء أفضل من الملائكة‏.‏

ولنا في هذه المسألة [‏مصنف‏] مفرد ذكرنا فيه الأدلة من الجانبين‏.‏

/ سُئلَ الشَّيْخُ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ عن آدم لما خلقه اللّه ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته‏:‏ هل سجد ملائكة السماء والأرض، أم ملائكة الأرض خاصة‏؟‏ وهل كان جبرائيل وميكائيل مع من سجد ‏؟‏ وهل كانت الجنة التي سكنها جنة الخلد الموجودة ‏؟‏ أم جنة في الأرض خلقها اللّه له ‏؟‏ ولما أهبط هل أهبط من السماء إلى الأرض، أم من أرض إلى أرض مثل بني إسرائيل‏؟‏

فأَجَــاب‏:‏

الحمد للّه، بل أسجد له جميع الملائكة كما نطق بذلك القرآن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 30‏]‏، فهذه ثلاث صيغ مقررة للعموم وللاستغراق، فإن قوله‏:‏ ‏{‏الْمَلآئِكَةُ‏}‏ يقتضي جميع الملائكة، فإن اسم الجمع المعرف بالألف واللام يقتضى العموم كقوله‏:‏ ‏(‏رب الملائكة والروح‏)‏ فهو رب جميع الملائكة‏.‏

الثاني‏:‏ ‏{‏كُلُّهُمْ‏}‏، وهذا من أبلغ العموم‏.‏ الثالث‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَجْمَعُونَ‏}‏ وهذا توكيد للعموم‏.‏

فمن قال‏:‏ إنه لم يسجد له جميع الملائكة، بل ملائكة الأرض، فقد رد القرآن /بالكذب والبهتان، وهذا القول ونحوه ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى؛ وإنما هو من أقوال الملاحدة المتفلسفة، الذين يجعلون [‏الملائكة‏] قوى النفس الصالحة، و[‏الشياطين‏] قوى النفس الخبيثة، ويجعلون سجود الملائكة طاعة القوى للعقل، وامتناع الشياطين عصيان القوى الخبيثة للعقل؛ ونحو ذلك من المقالات التي يقولها أصحاب [‏رسائل إخوان الصفا‏]‏ وأمثالهم من القرامطة الباطنية ومن سلك سبيلهم من ضلال المتكلمة والمتعبدة‏.‏ وقد يوجد نحو هذه الأقوال في أقوال المفسرين التي لا إسناد لها يعتمد عليه‏.‏

ومذهب المسلمين، واليهود، والنصارى، ما أخبر اللّه به في القرآن، ولم يكن في المأمورين بالسجود أحد من الشياطين، لكن أبوهم إبليس هو كان مأمورًا فامتنع وعصى، وجعله بعض الناس من الملائكة لدخوله في الأمر بالسجود، وبعضهم من الجن؛ لأن له قبيلًا وذرية، ولكونه خلق من نار والملائكة خلقوا من نور‏.‏

والتحقيق أنه كان منهم باعتبار صورته، وليس منهم باعتبار أصله ولا باعتبار مثاله، ولم يخرج من السجود لآدم أحد من الملائكة لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا غيرهما‏.‏

وما ذكره صاحب خواص القرآن وأمثاله من خلاف فأقوالهم باطلة، قد بينا فسادها وبطلانها بكلام مبسوط ليس هذا موضعه‏.‏

وهذا مما استدل به أهل السنة على أن آدم وغيره من الأنبياء والأولياء /أفضل من جميع الملائكة؛ لأن اللّه أمر الملائكة بالسجود له إكرامًا له؛ ولهذا قال إبليس‏:‏ ‏{‏قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 62‏]‏، فدل على أن آدم كرم على من سجد له‏.‏

و‏[‏الجنة‏] التي أسكنها آدم وزوجته عند سلف الأمة، وأهل السنة والجماعة هي‏:‏ جنة الخلد، ومن قال‏:‏ إنها جنة في الأرض بأرض الهند، أو بأرض جدة، أو غير ذلك، فهو من المتفلسفة والملحدين، أو من إخوانهم المتكلمين المبتدعين، فإن هذا يقوله من يقوله من المتفلسفة والمعتزلة‏.‏

والكتاب والسنة يردان هذا القول‏.‏ وسلف الأمة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 34-36‏]‏‏.‏ فقد أخبر أنه سبحانه أمرهم بالهبوط وأن بعضهم عدو لبعض ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ‏}‏‏.‏

وهذا يبين أنهم لم يكونوا في الأرض، وإنما أهبطوا إلى الأرض؛ فإنهم لو كانوا في الأرض وانتقلوا إلى أرض أخرى ـ كانتقال قوم موسى من أرض إلى أرض ـ لكان مستقرهم ومتاعهم إلى حين في الأرض قبل الهبوط وبعده؛ وكذلك قال في الأعراف لما قال إبليس‏:‏ ‏{‏أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12، 13‏]‏‏.‏

/فقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا‏}‏ يبين اختصاص السماء بالجنة بهذا الحكم؛ فإن الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏منها‏}‏ عائد إلى معلوم غير مذكور في اللفظ، وهذا بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61‏]‏، فإنه لم يذكر هناك ما أهبطوا فيه، وقال هنا‏:‏ ‏{‏اهْبِطُواْ‏}‏ لأن الهبوط يكون من عُلُوٍّ إلى سُفْل وعند أرض السُّراة حيث كان بنو إسرائيل حيال السراة المشرفة على المصر الذي يهبطون إليه‏.‏ ومن هبط من جبل إلى واد قيل له‏:‏ هبط‏.‏

وأيضًا، فإن بني إسرائيل كانوا يسيرون ويرحلون، والذي يسير ويرحل إذا جاء بلدة يقال‏:‏ نزل فيها؛ لأن في عادته أنه يركب في سيره، فإذا وصل نزل عن دوابه‏.‏

قال‏:‏ نزل العسكر بأرض كذا، ونزل القُفَّل‏ [‏القُفَّل‏:‏ الرُّفقة والجماعة في السفر‏] ‏بأرض كذا؛ لنزولهم عن الدواب‏.‏ ولفظ النزول كلفظ الهبوط، فلا يستعمل هبط إلا إذا كان من علو إلى سفل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُواْ‏}‏ الآيتان ‏[‏الأعراف‏:‏ 23، 24‏]‏، فقوله هنا بعد قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏ 24‏]‏ يبين أنهم هبطوا إلى الأرض من غيرها، وقال‏:‏ ‏{‏قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 25‏]‏ دليل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك بمكان فيه يحيون وفيه يموتون، ومنه يخرجون، وإنما صاروا إليه لما أهبطوا من الجنة‏.‏

/ والنصوص في ذلك كثيرة وكذلك كلام السلف والأئمة‏.‏

وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏احتج آدم وموسى فقال موسى‏:‏ يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك اللّه بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، فلماذا أخرجتنا وذريتك من الجنة‏؟‏ فقال له آدم‏:‏ أنت موسى الذي اصطفاك اللّه برسالته وكلامه فهل تجد في التوراة‏:‏ وعصى آدم ربه فغوى‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فلماذا تلومني على أمر قدره اللّه علىَّ قبل أن أخلق‏؟‏ فقال‏:‏ فحج آدم موسى‏)‏، وموسى إنما لام آدم؛ لما حصل له وذريته بالخروج من الجنة من المشقة والنكد، فلو كان ذلك بستانًا في الأرض، لكان غيره من بساتين الأرض يعوض عنه‏.‏

وآدم ـ عليه السلام ـ احتج بالقدر؛ لأن العبد مأمور على أن يصبر على ما قدره اللّه من المصائب، ويتوب إليه، ويستغفره من الذنوب والمعائب‏.‏ واللّه أعلم‏.

قَالَ شَيخُ الإسْلام‏:‏

فَصــل

في المسألة المشهورة بين الناس، في ‏[‏التفضيل بين الملائكة والناس‏] قال‏:‏ الكلام إما أن يكون في التفضيل بين الجنس‏:‏ الملك، والبشر، أو بين صالحي الملك والبشر‏.‏

أما الأول، وهو أن يقال‏:‏ أيما أفضل‏:‏ الملائكة، والبشر‏؟‏ فهذه كلمة تحتمل أربعة أنواع‏:‏

النَّوعُ الأَول‏:‏

أن يقال‏:‏ هل كل واحد من آحاد الناس أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة‏؟‏ فهذا لا يقوله عاقل، فإن في الناس‏:‏ الكفار، والفجار، والجاهلين، والمستكبرين، والمؤمنين، وفيهم من هو مثل البهائم والأنعام السائمة، بل الأنعام أحسن حالًا من هؤلاء، كما نطق بذلك القرآن في مواضع، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 22‏]‏، وقال / تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ شّرَّ بدَّوّابٌَ عٌندّ بلَّهٌ بَّذٌينّ كّفّرٍوا فّهٍمً لا يٍؤًمٌنٍونّ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 55‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏، والدواب جمع دابة، وهو كل ما دب في سماء وأرض من إنس وجن، وملك وبهيمة، ففي القرآن ما يدل على تفضيل البهائم على كثير من الناس في خمس آيات‏.‏

وقد وضع ابن المرزبان كتاب [‏تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب‏] وقد جاء في ذلك من المأثور ما لا نستطيع إحصاءه، مثل ما في مسند أحمد‏:‏ ‏(‏رب مركوبة أكثر ذكرًا من راكبها‏)‏‏.‏ وفضل البهائم عليهم من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن البهيمة لا سبيل لها إلى كمال وصلاح أكثر مما تصنعه، والإنسان له سبيل لذلك، فإذا لم يبلغ صلاحه وكماله الذي خلق له، بان نقصه وخسرانه من هذا الوجه‏.‏

وثانيها‏:‏ أن البهائم لها أهواء وشهوات، بحسب إحساسها وشعورها، ولم تؤت تمييزًا وفرقانا بين ما ينفعها ويضرها، والإنسان قد أوتى ذلك‏.‏ وهذا الذي يقال‏:‏ الملائكة لهم عقول بلا شهوات، والبهائم لها شهوات بلا عقول، والإنسان له شهوات وعقل‏.‏ فمن غلب عقله شهوته، فهو أفضل من الملائكة، أو مثل الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه‏.‏

/وثالثها‏:‏ أن هؤلاء لهم العقاب والنكال، والخزي على ما يأتونه من الأعمال الخبيثة، فهذا يقتل، وهذا يعاقب، وهذا يقطع، وهذا يعذب ويحبس، هذا في العقوبات المشروعة، وأما العقوبات المقدرة فقوم أغرقوا، وقوم أهلكوا بأنواع العذاب، وقوم ابتلوا بالملوك الجائرة؛ تحريقًا، وتغريقًا، وتمثيلًا، وخنقا، وعمى‏.‏ والبهائم في أمان من ذلك‏.‏

ورابعها‏:‏ أن لفسقة الجن والإنس في الآخرة من الأهوال والنار والعذاب والأغلال وغير ذلك مما أمنت منه البهائم، ما بين فضل البهائم على هؤلاء إذا أضيف إلى حال هؤلاء‏.‏

وخامسها‏:‏ أن البهائم جميعها مؤمنة باللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم، مُسَبِّحة بحمده قانتة له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏إنه ليس على وجه الأرض شىء إلا وهو يعلم أني رسول اللّه، إلا فَسَقَة الجن والإنس‏)‏‏.‏

النَوعُ الثَّاني‏:‏

أنه يقال‏:‏ مجموع الناس أفضل من مجموع الملائكة من غير توزيع الأفراد، وهذا على القول بتفضيل صالحي البشر على الملائكة فيه نظر، لا علم لي بحقيقته، فإنا نفضل مجموع القرن الثاني على القرن الثالث، مع علمنا أن كثيرًا من أهل القرن الثالث أفضل من كثير من أهل القرن الثاني‏.‏

/النَّوعُ الثَّالِث‏:‏

أنا إذا قابلنا الفاضل بالفاضل، والذي يلي الفاضل بمن يليه من الجنس الآخر، فأي القبيلين أفضل‏؟‏ فهذا مع القول بتفضيل صالحي البشر يقال‏:‏ لا شك أن المفضولين من الملائكة أفضل من كثير من البشر، وفاضل البشر أفضل من فاضليهم، لكن التفاوت الذي بين فاضل الطائفتين أكثر، والتفاوت بين مفضولهم هذا غير معلوم، واللّه أعلم بخلقه‏.‏

النَّوعُ الرَّابع‏:‏

أن يقال‏:‏ حقيقة الملك والطبيعة الملكية أفضل، أم حقيقة البشر والطبيعة البشرية‏؟‏ وهذا كما أنا نعلم أن حقيقة الحي إذ هو حي أفضل من الميت، وحقيقة القوة والعلم من حيث هي كذلك أفضل من حقيقة الضعف والجهل‏.‏ وحقيقة الذكر أفضل من حقيقة الأنثى، وحقيقة الفرس أفضل من حقيقة الحمار، وكان في نوع المفضول ما هو خير من كثير من أعيان النوع الفاضل؛ كالحمار والفأرة والفرس الزمن، والمرأة الصالحة مع الرجل الفاجر، والقوى الفاجر مع الضعيف الزَّمِن‏.‏

والوجه في انحصار القسمة في هذه الأنواع ـ فإن كثيرًا من الكلمات المهمة تقع الفتيا فيها مختلفة والرأي مشتبها، لفقد التمييز والتفضيل ـ أن كل شىء إما أن نقيده من جهة الخصوص، أو العموم، أو الإطلاق‏.‏ فإذا قلت‏:‏ بشر / وملك‏.‏ وإما أن تريد هذا البشر الواحد فيكون خاصًا، أو جميع جنس البشر فيكون عامًا، أو تريد البشر مطلقًا مجردًا عن قيد العموم، والخصوص، وضبطه القليل والكثير، والنوع الأول في التفضيل عمومًا وخصوصًا، والثاني عمومًا، والثالث خصوصًا، والرابع في الحقيقة المطلقة المجردة‏.‏

فنقول حينئذ‏:‏ المسألة على هذا الوجه لست أعلم فيها مقالة سابقة مفسرة، وربما ناظر بعض الناس على تفضيل الملك، وبعضهم على تفضيل البشر، وربما اشتبهت هذه المسألة بمسألة التفضيل بين الصالح وغيره‏.‏

لكن الذي سنح لي ـ واللّه أعلم بالصواب ـ أن حقيقة الملك أكمل وأرفع وحقيقة الإنسان أسهل وأجمع‏.‏

وتفسير ذلك‏:‏ أنا إذا اعتبرنا الحقيقتين وصفاتهما النفسية، والتبعية اللازمة، الغالبة الحياة، والعلم، والقدرة‏:‏ في اللذات والشهوات، وجدنا أولًا خلق الملك أعظم صورة، ومحله أرفع، وحياته أشد، وعلمه أكثر، وقواه أشد، وطهارته ونزاهته أتم، ونيل مطالبه أيسر وأتم، وهو عن المنافي والمضاد أبعد، لكن تجد هذه الصفات للإنسان ـ بحسب حقيقته ـ منها أوفر حظًا ونصيبًا من الحياة والخلق، والعلم والقدرة والطهارة، وغير ذلك‏.‏

وله أشياء ليست للملك من إدراكه دقيق الأشياء ـ حسا، وعقلا ـ وتمتعه بما يدركه ببدنه وقلبه، وهو يأكل ويشرب وينكح، ويتمنى، ويتغذى، /ويتفكر، إلى غير ذلك من الأحوال التي لا يشاركه فيها الملك، لكن حظ الملك من القدر المشترك الذي بينهما أكثر، وما اشتركا فيه من الأمور أفضل بكثير مما اختص به الإنسان‏.‏

مثاله‏:‏ مثل رجل معه مائة دينار، وآخر معه خمسون درهما، أو خمسون دينارًا، أو خمسون فلسًا، وإذا كان الأمر كذلك ففصل الجواب كما سبق‏.‏

وإن أردت الإطلاق، فالحقيقة الملكية بلوازمها أفضل من الحقيقة الإنسانية بلوازمها، هذا لا شك فيه، فإنما يلزم حقيقة الإنسان من حياة وحس، وعلم وعمل، ونيل لذة وإدراك شهوة، ليست بشىء‏.‏ وإنما تعددت أصنافه إلى ما يشبه حقيقة الملك، كحال من علم من كل شىء طرفًا ليس بالكثير، إلى حال من أتقن العلم باللّه وبأسمائه وآياته، ولا يشبه حال من معه درهم، إلى حال من معه درة، ولا يشبه حال من يسوس الناس كلهم، إلى حال من يسوس إنسانا وفرسا‏.‏

وقد دل على هذا دلالة بينة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 70‏]‏، فدل على أنهم لم يفضلوا على الجميع، وقوله‏:‏ ‏{‏مِّنَ‏}‏ للتبعيض‏.‏ فإن قلت‏:‏ هذا الاستدلال مفهوم للمخالف، وأنت مخالف لهذا، منازع فيه‏.‏

/ فيقال لك‏:‏ تخصيص الكثير بالذكر لا يدل على مخالفة غيره بنفي، ولا إثبات، وأيضا فإن مفهومه‏:‏ أنهم لم يفضلوا على ما سوى الكثير، فإذا لم يفضلوا فقد يساوون بهم، وقد يفضل أولئك عليهم، فإن الأحوال ثلاثة‏:‏ إما أن يفضلوا على من بقى، أو يفضل أولئك عليهم، أو يساوون بهم‏.‏

قال‏:‏ واختلاف الحقائق والذوات لابد أنها تؤثر في اختلاف الأحكام والصفات، وإذا اختلفت حقيقة البشر والملك، فلابد أن يكون أحد الحقيقتين أفضل، فإن كونهما متماثلتين متفاضلتين ممتنع‏.‏

وإذا ثبت أن أحدهما أفضل بهذه القضية المعقولة، وثبت عدم فضل البشر بتلك الكلمة الإلهية، ثبت فضل الملك، وهو المطلوب‏.‏

وقد ذكر جماعة من المنتسبين إلى السنة‏:‏ أن الأنبياء وصالح البشر أفضل من الملائكة‏.‏ وذهبت المعتزلة إلى تفضيل الملائكة على البشر، وأتباع الأشعري على قولين‏:‏ منهم من يفضل الأنبياء والأولياء، ومنهم من يقف ولا يقطع فيهما بشىء‏.‏

وحكى عن بعض متأخريهم أنه مال إلى قول المعتزلة، وربما حكى ذلك عن بعض من يدعى السنة ويواليها‏.‏

وذكر لي عن بعض من تكلم في أعمال القلوب أنه قال‏:‏ أما الملائكة المدبرون للسموات والأرض وما بينهما والموكلون ببني آدم، فهؤلاء أفضل من / هؤلاء الملائكة‏.‏ وأما الكَرُوبيُّون الذين يرتفعون عن ذلك فلا أحد أفضل منهم، وربما خص بعضهم نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏ واستثناؤه من عموم البشر، إما تفضيلًا على جميع أعيان الملائكة، أو على المدبرين منهم أمر العالم‏.‏

هذا ما بلغني من كلمات الآخرين في هذه المسألة، وكنت أحسب أن القول فيها محدث حتى رأيتها أثرية سلفية صحابية، فانبعثت الهمة إلى تحقيق القول فيها، فقلنا حينئذ بما قاله السلف، فروى أبو يعلي الموصلي في‏ [‏كتاب التفسير‏] المشهور له عن عبد اللّه ابن سلام ـ وكان عالمًا بالكتاب الأول، والكتاب الثاني؛ إذ كان كتابيًا، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بحسن الخاتمة، ووصية معاذ عند موته، وأنه أحد العلماء الأربعة الذين يبتغي العلم عندهم ـ قال‏:‏ ما خلق اللّه خلقًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ الحديث عنه‏.‏

قلت‏:‏ ولا جبرائيل، ولا ميكائيل‏؟‏ قال‏:‏ يا بن أخي، أو تدري ما جبرائيل وميكائيل‏؟‏ إنما جبرائيل وميكائيل خلق مسخر، مثل‏:‏ الشمس، والقمر، وما خلق اللّه ـ تعالى ـ خلقًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وروى عبد اللّه في [‏التفسير‏] وغيره عن مَعْمَر، عن زيد بن أسلم؛ أنه قال‏:‏ قالت الملائكة‏:‏ يا ربنا، جعلت لبني آدم الدنيا، يأكلون فيها ويشربون، فاجعل لنا الآخرة‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏وعزتي لا أجعل صالح ذرية من خلقتُ بيدي كَمَنْ قلت له كن فكان‏)‏‏.‏

/ وكذلك قصة سجود الملائكة كلهم أجمعين لآدم، ولعن الممتنع عن السجود له، وهذا تشريف وتكريم له‏.‏

وقد قال بعض الأغبياء‏:‏ إن السجود إنما كان للّه وجعل آدم قبلة لهم، يسجدون إليه كما يسجد إلى الكعبة، وليس في هذا تفضيل له عليهم، كما أن السجود إلى الكعبة ليس فيه تفضيل للكعبة على المؤمن عند اللّه، بل حرمة المؤمن عند اللّه أفضل من حرمتها، وقالوا‏:‏ السجود لغير اللّه محرم، بل كفر‏.‏

والجواب‏:‏ أن السجود كان لآدم بأمر اللّه وفرضه بإجماع من يسمع قوله ويدل على ذلك وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ قوله‏:‏ لآدم، ولم يقل‏:‏ إلى آدم‏.‏ وكل حرف له معنى، ومن التمييز في اللسان أن يقال‏:‏ سجدت له، وسجدت إليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 37‏]‏ وقال ‏{‏وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وأجمع المسلمون على أن السجود لغير اللّه محرم، وأما الكعبة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس، ثم صلى إلى الكعبة، وكان يصلى إلى عنزَة [ ‏العَنَزَة‏:‏ رُمَيْح بين العصا والرُّمح‏]، ولا يقال‏:‏ لعنزة، وإلى عمود وشجرة، ولا يقال‏:‏ لعمود ولا لشجرة، والساجد للشيء يخضع له بقلبه، ويخشع له بفؤاده، وأما الساجد إليه فإنما يولي وجهه وبدنه إليه ظاهرًا، كما يولى وجهه إلى بعض /النواحي إذا أمه، كما قال‏:‏ ‏{‏فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 144‏]‏‏.‏

والثاني‏:‏ أن آدم لو كان قبلة لم يمتنع إبليس من السجود، أو يزعم أنه خير منه؛ فإن القبلة قد تكون أحجارًا، وليس في ذلك تفضيل لها على المصلين إليها، وقد يصلي الرجل إلى عنزة وبعير، وإلى رجل، ولا يتوهم أنه مفضل بذلك، فمن أي شىء فر الشيطان‏؟‏ هذا هو العجب العجيب‏!‏‏!‏

والثالث‏:‏ أنه لو جعل آدم قبلة في سجدة واحدة لكانت القبلة وبيت المقدس أفضل منه بآلاف كثيرة؛ إذ جعلت قبلة دائمة في جميع أنواع الصلوات، فهذه القصة الطويلة التي قد جعلت علمًا له، ومن أفضل النعم عليه، وجاءت إلى العالم بأن اللّه رفعه بها، وامتن عليه، ليس فيها أكثر من أنه جعله كالكعبة في بعض الأوقات‏!‏‏!‏ مع أن بعض ما أوتيه من الإيمان والعلم، والقرب من الرحمن أفضل بكثير من الكعبة، والكعبة إنما وضعت له ولذريته، أفيجعل من جسيم النعم عليه أو يشبه به في شىء نزرًا قليلًا جدًا‏؟‏‏!‏ هذا ما لا يقوله عاقل‏.‏

وأما قولهم‏:‏ لا يجوز السجود لغير اللّه، فيقال لهم‏:‏ إن قيلت هذه الكلمة على الجملة فهي كلمة عامة، تنفي بعمومها جواز السجود لآدم، وقد دل دليل خاص على أنهم سجدوا له، والعام لا يعارض ما قابله من الخاص‏.‏

وثانيها‏:‏ أن السجود لغير اللّه حرام علينا وعلى الملائكة‏.‏ أما الأول فلا دليل وأما الثاني فما الحجة فيه‏؟‏

/وثالثها‏:‏ أنه حرام أمر اللّه به، أو حرام لم يأمر به، والثاني حق ولا شفاء فيه، وأما الأول فكيف يمكن أن يحرم بعد أن أمر اللّه ـ تعالى ـ به‏؟‏

ورابعها‏:‏ أبو يوسف وإخوته خروا له سجدًا، ويقال‏:‏ كانت تحيتهم، فكيف يقال‏:‏

إن السجود حرام مطلقًا ‏؟‏ وقد كانت البهائم تسجد للنبي صلى الله عليه وسلم، والبهائم لا تعبد اللّه‏.‏ فكيف يقال‏:‏ يلزم من السجود لشىء عبادته‏؟‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعِظَمِ حقه عليها‏)‏ ومعلوم أنه لم يقل‏:‏ لو كنت آمرا أحدًا أن يعبد‏.‏

وسابعها‏:‏ وفيه التفسير أن يقال‏:‏ أما الخضوع والقنوت بالقلوب والاعتراف بالربوبية والعبودية، فهذا لا يكون على الإطلاق إلا للّه ـ سبحانه وتعالى ـ وحده، وهو في غيره ممتنع باطل‏.‏

وأما السجود فشريعة من الشرائع؛ إذ أمرنا اللّه ـ تعالى ـ أن نسجد له، ولو أمرنا أن نسجد لأحد من خلقه غيره لسجدنا لذلك الغير ـ طاعة للّه عز وجل ـ إذ أحب أن نعظم من سجدنا له، ولو لم يفرض علينا السجود لم يجب البتة فعله، فسجود الملائكة لآدم عبادة للّه وطاعة له، وقربة يتقربون بها إليه، وهو لآدم تشريف وتكريم وتعظيم‏.‏ وسجود أخوة يوسف له تحية وسلام، ألا ترى أن يوسف لو سجد لأبويه تحية لم يكره له‏.‏

/ ولم يأت أن آدم سجد للملائكة، بل لم يؤمر آدم وبنوه بالسجود إلا للّه رب العالمين، ولعل ذلك ـ واللّه أعلم بحقائق الأمور ـ لأنهم أشرف الأنواع، وهم صالحو بني آدم ليس فوقهم أحد يحسن السجود له إلا للّه رب العالمين، وهم أكفاء بعضهم لبعض، فليس لبعضهم مزية بقدر ما يصلح له السجود، ومن سواهم فقد سجد لهم من الملائكة للأب الأقوم، ومن البهائم للابن الأكرم‏.‏

وأما قولهم‏:‏ لم يسبق لآدم ما يوجب الإكرام له بالسجود، فلغو من القول، هذى به بعض من اعتزل الجماعة، فإن نعم اللّه ـ تعالى ـ وأياديه وآلاءه على عباده ليست بسبب منهم، ولو كانت بسبب منهم فهو المنعم بذلك السبب، فهو المنعم به ويشكرهم على نعمه، وهو ـ أيضًا ـ باطل على قاعدتهم، لا حاجة لنا إلى بيانه ههنا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ يَسْجُدُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 206‏]‏ فإنه إن سلم أنه يفيد الحصر، فالقصد منه ـ واللّه أعلم ـ الفضل بينهم وبين البشر الذين يشركون بربهم ويعبدون غيره، فأخبرهم أن الملائكة لا تعبد غيره، ثم هذا عام وتلك الآية خاصة فيستثنى آدم، ثم يقال‏:‏ السجود على ضربين‏:‏ سجود عبادة محضة، وسجود تشريف‏.‏ فأما الأول‏:‏ فلا يكون إلا للّه، وأما الثاني‏:‏ فلم قلت‏:‏ إنه كذلك‏؟‏ والآية محمولة على الأول توفيقًا بين الدلائل‏.‏

وأما السؤال الثاني، فروى عن بعض الأولين‏:‏ أن الملائكة الذين /سجدوا لآدم ملائكة في الأرض فقط، لا ملائكة السموات‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ ملائكة السموات دون الكَرُوبِيِّين، وانتحى ذلك بعض المتأخرين، واستنكر سجود الأعلين من الملائكة لآدم مع عدم التفاتهم إلى ما سوى اللّه، ورووا في ذلك‏:‏ ‏(‏إن مِن خَلْقِ اللّه خَلْقًا لا يدرون‏:‏ أخُلِقَ آدم أم لا ‏؟‏‏)‏‏.‏

ونزع بقوله‏:‏ ‏{‏أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏ والعالون هم ملائكة السماء، وملائكة السماء لم يؤمروا بالسجود لآدم، فاعلم أن هذه المقالة أولا ليس معها ما يوجب قبولها، لا مسموع ولا معقول، إلا خواطر وسَوَانِح [ ‏جمع السَّانح، وهو ما يعرض على الإنسان، وأصله‏:‏ من سنح لي الشىء إذا عرض، فإذا كان هذا الشىء ـ طائرًا وخلافه - يعرض من جهة اليمين سمى السانح وكان العرب يتيمنون به، وعكسه البارح‏]، ووساوس مادتها من عرش إبليس، يستفزهم بصوته ليرد عنهم النعمة التي حرص على ردها عن أبيهم قديمًا، أو مقالة قد قالها من يقول الحق والباطل، لكن معنا ما يوجب ردها من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه خلاف ما عليه العامة من أهل العلم بالكتاب والسنة، وإذا كان لابد من التقليد فتقليدهم أولى‏.‏

وثانيها‏:‏ أنه خلاف ظاهر الكتاب العزيز، وخلاف نصه، فإن الاسم المجموع المعرف بالألف واللام يوجب استيعاب الجنس، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 34‏]‏، فسجود الملائكة يقتضى جميع الملائكة، هذا مقتضى اللسان الذي نزل به القرآن، فالعدول عن موجب القول العام إلى الخصوص لابد له من دليل يصلح له، وهو معدوم‏.‏

/وثالثها‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏{‏فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ‏}‏‏]‏الحجر‏:‏30‏]‏ فلو لم يكن الاسم الأول يقتضى الاستيعاب والاستغراق، لكان توكيده بصيغة كل موجبة لذلك ومقتضية له، ثم لو لم يفد تلك الإفادة، لكان قوله‏:‏ ‏{‏أَجْمَعُونَ‏}‏ توكيدًا وتحقيقًا بعد توكيد وتحقيق، ومـن نازع في موجب الأسماء العامة فإنه لا ينازع فيها بعد توكيدها بما يفيد العموم، بل إنما يجاء بصيغة التوكيد قطعًا لاحتمال الخصوص وأشباهه‏.‏

وقد بلغني عن بعض السلف أنه قال‏:‏ ما ابتدع قوم بدعة إلا في القرآن ما يردها، ولكن لا يعلمون‏.‏ فلعل قوله‏:‏ ‏{‏كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ‏}‏ جىء به لزعم زاعم يقول‏:‏ إنما سجد له بعض الملائكة لا كلهم، وكانت هذه الكلمة ردًا لمقالة هؤلاء‏.‏ ومن اختلج في سره وجه الخصوص بعد هذا التحقيق والتوكيل فليعز نفسه في الاستدلال بالقرآن والفهم، فإنه لا يثق بشىء يؤخذ منه، ياليت شعري ‏!‏ لو كانت الملائكة كلهم سجدوا وأراد اللّه أن يخبرنا بذلك، فأي كلمة أتم وأعم، أم يأتي قول يقال‏:‏ أليس هذا من أبين البيان‏؟‏

ورابعها‏:‏ أن هذه الكلمة تكررت في القرآن، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة وأسجد لك ملائكته، وكذلك في محاجة موسى وآدم، ومن الناس من يقول‏:‏ إن القول العام إذا قرن به الخاص وجب أن يقرن به البيان، فلا يجوز تأخيره عنه، لئلا يقع السامع في اعتقاد الجهل؛ ولم يقترن بشىء من هذه الكلمات دليل تخصيص، فوجب القطع بالعموم‏.‏

وقال آخرون ـ وهو الأصوب‏:‏ يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب / لكن بعد البحث عن دليل التخصيص، واللّه أعلم‏.‏ فيجب القول بالعموم، وإذا كانت القصة قد تكررت وليس فيها ما يدل على الخصوص فليس دعوى الخصوص فيها من البهتان‏.‏

وأما إنكارهم لسجود الكَروبِيِّين فليس بشىء؛ لأنهم سجدوا طاعة وعبادة لربهم، وزاد قائل‏:‏ ذلك أنهم أفضل من آدم إذا ثبت أنهم لم يسجدوا، والحكايات المرسلة لا تقيم حقًا ولا تهدم باطلًا‏.‏ وتفسيرهم‏{‏العالين‏}‏ بالكروبيين، قول في كتاب اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ بلا علم، ولا يعرف ذلك عن إمام متبع، ولا في اللفظ دليل عليه، وقيل‏:‏ ‏{‏أَسْتَكْبَرْتَ‏}‏ أطلبت أن تكون كبيرًا من هذا الوقت‏؟‏ أم كنت عاليًا قبل ذلك‏؟‏ ولا حاجة بنا إلى تفسير كلام اللّه بآرائنا، واللّه أعلم بتفسيره‏.‏

وههنا سؤال ثالث وهو‏:‏ أن السجود له، قد يكون الساجدون سجدوا له مع فضلهم عليه، فإن الفاضل قد يخدم المفضول، فنقول‏:‏

اعلم أن منفعة الأعلى للأدنى غير مستنكرة، فإن سيد القوم خادمهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل الناس، وأنفع الناس للناس، لكن منفعته في الحقيقة يعود إليه ثوابها، وتمام التقرب إلى اللّه يحصل بنفع خلقه، فهذا يصلح أن يورد على من احتج بتدبيرهم لنا، ففضلهم علينا لكثرة منفعتهم لنا، وأما نفس السجود فلا منفعة فيه للمسجود له إلا مجرد تعظيم وتشريف وتكريم، ولا يصلح البتة أن يكون من هو أفضل أسفل ممن دونه وتحته في الشرف، والمحقق، لا المتوهم، فافهم هذا فإن تحته سرا‏.‏

/الدليل الثاني‏:‏ قوله قصصًا عن إبليس‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 62‏]‏ فإن هذا نص في تكريم آدم على إبليس؛ إذ أمر بالسجود له‏.‏

الدليل الثالث‏:‏ أن اللّه ـ تعالى ـ خلق آدم بيده، كما ذكر ذلك في الكتاب والسنة، والملائكة لم يخلقهم بيده بل بكلمته، وهذا يقوله جميع من يدعى الإسلام ـ سنيهم ومبتدعهم ـ بل وعليه أهل الكتاب، فإن الناس في يدي اللّه على ثلاثة أقوال‏:‏

أما أهل السنة فيقولون‏:‏ يدا اللّه صفتان من صفات ذاته، حكمها حكم جميع صفاته؛ من حياته وعلمه، وقدرته وإرادته، وكلامه‏.‏ فيثبتون جميع صفاته التي وصف بها نفسه، ووصفه بها أنبياؤه، وإن شاركت أسماء صفاته أسماء صفات غيره‏.‏ كما أن له أسماء قد يسمى بها غيره، مثل‏:‏ رؤوف، رحيم، عليم سميع، بصير، حليم، صبور، شكور، قدير، مؤمن، علي، عظيم، كبير، مع نفي المشابهة في الحقيقة والمماثلة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، جمعت هذه الآية بين الإثبات والتنزيه، ونسبة صفاته إليه كنسبة خلقه إليه، والنسبة والإضافة تشابه النسبة والإضافة‏.‏

ومن هذا الوجه جاء الاشتراك في أسمائه وأسماء صفاته، كما شبهت الرؤية برؤية الشمس والقمر، تشبيها للرؤية لا للمرئى، كما ضرب مثله مع عباده المملوكين كمثل بعض خلقه مع مملوكيهم، وله المثل الأعلى في السموات، فتدبر /هذا فإنه مَجْلاة شُبْهَة ومَصْفَاة كَدَر، فجميع ما نسمعه، وينسب إليه، ويضاف من الأسماء والصفات، هو كما يليق باللّه، ويصلح لذاته‏.‏

والفريقان الآخران ـ أهل التشبيه والتمثيل‏:‏ منهم من يقول‏:‏ يد كيدي ـ تعالى اللّه عن ذلك ـ وأهل النفي والتعطيل يقولون‏:‏ اليدان هما‏:‏ النعمتان والقدرتان، واللّه أكبر كبيرًا‏.‏

وبكل حال، اتفق هؤلاء كلهم على أن لآدم فضيلة ومزية ليست لغيره؛ إذ خلقه بيده‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن ذلك معدود في النعم التي أنعم اللّه بها على آدم حين قال له موسى‏:‏ ‏(‏خلقك اللّه بيده‏)‏‏.‏ وكذلك يقال له يوم القيامة، وإنما ذكروا ذلك له في النعم التي خصه اللّه بها من بين المخلوقين دون الذي شورك فيها‏.‏ فهذا بيان واضح دليل على فضله على سائر الخلق، كما ذكر زيد بن أسلم أن اللّه ـ تعالى ـ قال للملائكة‏:‏ ‏(‏لا أجعل صالح ذرية من خَلَقْتُ بِيَديّ كمن قُلْتُ له كن فكان‏)‏‏.‏

الدليل الرابع‏:‏ ما احتج به بعض أصحابنا على تفضيل الأنبياء على الملائكة بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 33‏]‏،

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 32‏]‏ واسم ‏{‏الْعَالَمِينَ‏}‏ يتناول الملائكة والجن والإنس، وفيه نظر؛ لأن أصناف العالمين قد يراد به / جميع أصناف الخلق كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏، وقد يراد به الآدميون فقط على اختلاف أصنافهم، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 165‏]‏، ‏{‏أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 80‏]‏ وهم كانوا لا يأتون البهائم ولا الجن‏.‏

وقد يراد بالعالمين أهل زمن واحد، كما في قوله‏:‏ ‏{‏اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ‏{‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ‏}‏ الآية، تحتمل جميع أصناف الخلق، ويحتمل أن المراد بنو آدم فقط‏.‏ وللمحتج بها أن يقول‏:‏ اسم ‏{‏الْعَالَمِينَ‏}‏ عام لجميع أصناف المخلوقات التي بها يعلم اللّه، وهي آيات له ودلالات عليه، لاسيما أولو العلم منهم، مثل الملائكة، فيجب إجراء الاسم على عمومه إلا إذا قام دليل يوجب الخصوص‏.‏

وقد احتج أيضًا بقوله ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ‏}‏الآية ‏[‏الإسراء‏:‏70‏]‏‏.‏ وهو دليل ضعيف بل هو بالضد كما قررناه‏.‏

الدليل الخامس‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏30‏]‏، وفيها دليل على تفضيل الخليفة من وجهين‏:‏ أولهما‏:‏ أن الخليفة يفضل على من هو خليفة عليه، وقد كان في الأرض ملائكة، وهذا غايته أن يفضل على من في الأرض من الملائكة‏.‏ وثانيهما‏:‏ أن الملائكة طلبت من اللّه ـ تعالى ـ أن يكون / الاستخلاف فيهم، والخليفة منهم، حيث قالوا‏:‏ ‏{‏إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏ فلولا أن الخلافة درجة عالية أعلى من درجاتهم لما طلبوها وغبطوا صاحبها‏.‏

الدليل السابع‏:‏ تفضيل بني آدم عليهم بالعلم حين سألهم اللّه ـ عز وجل ـ عن علم الأسماء فلم يجيبوه؛ واعترفوا أنهم لا يحسنونها فأنبأهم آدم بذلك، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏‏.‏

والدليل الثامن‏:‏ وهو أول الأحاديث ما رواه حماد بن سلمة عن أبي المِهْزَم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لَزَوَال الدنيا على اللّه أهون من قتل رجل مؤمن، والمؤمن أكرم على اللّه من الملائكة الذين عنده‏)‏‏.‏

وهذا نص في أن المؤمنين أكرم على اللّه من الملائكة المقربين‏.‏

ثم ذكر ما رواه الخلال عن أبي هريرة‏:‏ خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وذكر كلامًا قال في آخره‏:‏ ‏(‏ادْنُو، ووَسِّعوا لمن خلفكم‏)‏‏.‏ فدنا الناس وانضم بعضهم إلى بعض‏.‏ فقال رجل‏:‏ أنوسع للملائكة أو للناس‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏للملائكة، إنهم إذا كانوا معكم لم يكونوا من بين أيديكم ولا من خلفكم، ولكن عن أيمانكم وشمائلكم‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ ولم لا يكونون من بين أيدينا ومن خلفنا‏؟‏ أمن فضلنا عليهم أو من فضلهم علينا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم، أنتم أفضل من الملائكة‏)‏‏.‏

/ رواه الخلال، وفيه القطع بفضل البشر على الملائكة، لكن لا يعرف حال إسناده، فهو موقوف على صحة إسناده‏.‏

وروى عبد اللّه بن أحمد في ‏[ ‏كتاب السنة‏] عن عروة بن رُوَيْم قال‏:‏ أخبرني الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة قالوا‏:‏ ربنا خلقتنا وخلقت بني آدم، فجعلتهم يأكلون ويشربون، ويلبسون ويأتون النساء، ويركبون الدواب، وينامون ويستريحون، ولم تجعل لنا شيئًا من ذلك، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة‏.‏

وذكر الحديث مرفوعًا ـ كما تقدم موقوفًا ـ عن زيد بن أسلم عن أبيه‏.‏ وزيد بن أسلم زيد في علمه وفقهه وورعه، حتى إن كان على بن الحسين ليدع مجالس قومه ويأتي مجلسه، فلامه الزهري فى ذلك فقال‏:‏ إنما يجلس حيث ينتفع، أو قال‏:‏ يجد صلاح قلبه‏.‏

وقد كان يحضر مجلسه نحو أربعمائة طالب للعلم، أدنى خصلة فيهم الباذل ما في يده من الدنيا، ولا يستأثر بعضهم على بعض، فلا يقول مثل هذا القول إلا عن‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ [‏بياض‏]‏ بين والكذب على اللّه ـ عز وجل ـ أعظم من الكذب على رسوله‏.‏

وأقل ما في هذه الآثار أن السلف الأولين كانوا يتناقلون بينهم‏:‏ أن صالحي البشر أفضل من الملائكة من غير نكير منهم لذلك، ولم يخالف أحد /منهم في ذلك، إنما ظهر الخلاف بعد تشتت الأهواء بأهلها، وتفرق الآراء، فقد كان ذلك كالمستقر عندهم‏.‏

الدليل الحادي عشر‏:‏ أحاديث المباهاة مثل‏:‏ أن اللّه ـ تعالى ـ ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا وعشية عرفة فيباهي ملائكته بالحاج، وكذلك يباهي بهم المصلين، يقول‏:‏ ‏(‏ انظروا إلى عبادي، قد قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى ‏)‏، وكلا الحديثين في صحيح مسلم، والمباهاة لا تكون إلا بالأفاضل‏.‏

فإن قيل ‏:‏ هذه الأخبار رواها آحاد غير مشهورين، ولا هي بتلك الشهرة، فلا توجب علمًا، والمسألة علمية‏.‏

قلنا‏:‏ أولا‏:‏ من قال‏:‏ إن المطلق في هذه القضية اليقين الذي لا يمكن نقيضه، بل يكفي فيها الظن الغالب، وهو حاصل‏.‏

ثم ما المراد بقوله‏:‏ علمية‏؟‏ أتريد أنه لا علم ‏؟‏ فهذا مسلم‏.‏ ولكن كل عقل راجح يستند إلى دليل فإنه علم، وإن كان فرقة من الناس لا يسمون علمًا إلا ما كان يقينًا لا يقبل الانتقاض، وقد قال تعالى ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ‏}‏ ‏[‏الممتحنة ‏:‏ 10‏]‏ وقد استوفي القول في ذلك في غير هذا الموضع، فإن أريد علمية؛ لأن المطلوب الاستيقان، فهذا لغو من القول لا دليل عليه، ولو كان حقًا لوجب الإمساك عن الكلام في كل أمر غير علمي إلا باليقين، وهو تهافت بين‏.‏

ثم نقول‏:‏ هي بمجموعها وانضمام بعضها إلى بعض ومجيئها من طرق /متباينة، قد توجب اليقين لأولى الخبرة بعلم الإسناد، وذوي البصيرة بمعرفة الحديث ورجاله، فإن هذا علم اختصوا به كما اختص كل قوم بعلم، وليس من لوازم حصول العلم لهم حصوله لغيرهم، إلا أن يعلموا ما علموا مما به يميزون بين صحيح الحديث وضعيفه‏.‏

والعلوم ـ على اختلاف أصنافها وتباين صفاتها ـ لا توجب اشتراك العقلاء فيها، لاسيما السمعيات الخبريات، وإن زعم فرقة من أولى الجدل أن الضروريات يجب الاشتراك فيها، فإن هذا حق في بعض الضروريات، لا في جميعها، مع تجويزنا عدم الاشتراك في شىء من الضروريات، لكن جرت سنة الاشتراك بوقوع الاشتراك في بعضها‏.‏ فغلط أقوام فجعلوا وجوب الاشتراك في جميعها، فجحدوا كثيرًا من العلم الذي اختص به غيرهم‏.‏

ثم نقول‏:‏ لو فرضنا أنها لا تفيد العلم وإنما تفيد ظنًا غالبًا، أو أن المطلوب هو الاستيقان، فنقول ‏:‏ المطلوب حاصل بغير هذه الأحاديث، وإنما هي مؤكدة مؤيدة لتجتمع أجناس الأدلة على هذه المقالة‏.‏

الدليل الثاني عشر‏:‏ قد كان السلف يحدثون الأحاديث المتضمنة فضل صالحي البشر على الملائكة، وتروى على رؤوس الناس، ولو كان هذا منكرًا لأنكروه، فدل على اعتقادهم ذلك‏.‏

وهذا إن لم يفد اليقين القاطع، فإن بعض الظن لم يقصر عن القوى/ الغالب، وربما اختلف ذلك باختلاف الناس واختلاف أحوالهم‏.‏

الدليل الثالث عشر‏:‏ وهو البحث الكاشف عن حقيقة المسألة ـ وهو أن نقول‏:‏ التفضيل إذا وقع بين شيئين فلا بد من معرفة الفضيلة ما هي‏؟‏، ثم ينظر أيهما أولى بها ‏؟‏

وأيضا، فإنا إنما تكلمنا في تفضيل صالحي البشر إذا كملوا ووصلوا إلى غايتهم وأقصى نهايتهم، وذلك إنما يكون إذا دخلوا الجنة، ونالوا الزلفى، وسكنوا الدرجات العلى، وحياهم الرحمن وخصهم بمزيد قربه، وتجلى لهم، يستمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم، وقامت الملائكة في خدمتهم بإذن ربهم‏.‏

فلينظر الباحث في هذا الأمر، فإن أكثر الغالطين لما نظروا في الصنفين رأوا الملائكة بعين التمام والكمال، ونظروا الآدمي وهو في هذه الحياة الخسيسة الْكَدِرَة، التي لا تزن عند اللّه جناح بعوضة وليس هذا بالإنصاف‏.‏

فأقول‏:‏ فضل أحد الذاتين على الأخرى إنما هو بقربها من اللّه ـ تعالى ـ ومن مزيد اصطفائه وفضل اجتبائه لنا، وإن كنا نحن لا ندرك حقيقة ذلك‏.‏

هذا على سبيل الإجمال، وعلى حسب الأمور التي هي في نفسها خبر محض، وكمال صرف، مثل‏:‏ الحياة والعلم والقدرة، والزكاة والطهارة، والطيب والبراءة من النقائص والعيوب، فنتكلم على الفضلين‏:‏

أما الأول‏:‏ فإن جنة عدن خلقها اللّه ـ تعالى ـ وغرسها بيده، ولم يطلع على /ما فيها ملكًا مقربا، ولا نبيًا مرسلًا، وقال لها‏:‏ تكلمي، فقالت‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1‏]‏‏.‏ جاء ذلك في أحاديث عديدة، وأنه ينظر إليها في كل سحر، وهي داره، فهذه كرامة اللّه تعالى لعباده المؤمنين، التي لم يطلع عليها أحد من الملائكة‏.‏ ومعلوم أن الأعلين مطلعون على الأسفلين من غير عكس، ولا يقال‏:‏ هذا في حق المرسلين، فإنها إنما بنيت لهم، لكن لم يبلغوا بعد إبان سكناها وإنما هي معدة لهم، فإنهم ذاهبون إلى كمال، ومنتقلون إلى علو وارتفاع، وهو جزاؤهم وثوابهم‏.‏

وأما الملائكة فإن حالهم اليوم شبيهة بحالهم بعد ذلك، فإن ثوابهم متصل وليست الجنة مخلوقة، وتصديق هذا قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 17]‏‏.‏

فحقيقة ما أعده اللّه لأوليائه غيب عن الملائكة، وقد غيب عنهم أولًا حال آدم في النشأة الأولى وغيرها‏.‏

وفضل عباد اللّه الصالحين يبين فضل الواحد من نوعهم، فالواحد من نوعهم إذا ثبت فضلهم على جميع الأعيان والأشخاص، ثبت فضل نوعهم على جميع الأنواع؛ إذ من الممتنع ارتفاع شخص من أشخاص النوع المفضول إلى أن يفوق جميع الأشخاص والأنواع الفاضلة، فإن هذا تبديل الحقائق وقلب الأعيان عن صفاتها النفسية، لكن ربما فاق بعض أشخاص النوع الفاضل مع /امتياز ذلك عليه بفضل نوعه وحقيقته، كما أن في بعض الخيل ما هو خير من بعض الخيل، ولا يكون خيرًا من جميع الخيل‏.‏

إذا تبين هذا، فقد حدَّثَ العلماء المرضيون وأولياؤه المقبولون‏:‏ أن محمدًا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يجلسه ربه على العرش معه‏.‏

روى ذلك محمد بن فُضَيل، عن ليث، عن مجاهد، في تفسير‏:‏ ‏{‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 79‏]‏ وذكر ذلك من وجوه أخرى مرفوعة وغير مرفوعة‏.‏ قال ابن جرير‏:‏ وهذا ليس مناقضًا لما استفاضت به الأحاديث من أن المقام المحمود هو الشفاعة، باتفاق الأئمة من جميع من ينتحل الإسلام ويدعيه، لا يقول‏:‏ إن إجلاسه على العرش منكر ـ وإنما أنكره بعض الجهمية ـ ولا ذكره في تفسير الآية منكر، وإذا ثبت فضل فاضلنا على فاضلهم ثبت فضل النوع على النوع ـ أعنى صالحنا عليهم‏.‏

وأما الذوات، فإن ذات آدم خلقها اللّه بيده، وخلقها اللّه على صورته ونفخ فيه من روحه، ولم يثبت هذا لشىء من الذوات، وهذا بحر يغرق فيه السابح، لا يخوضه إلا كل مؤيد بنور الهداية، وإلا وقع إما في تمثيل، أو في تعطيل‏.‏ فليكن ذو اللب على بصيرة أن وراء علمه مرماة بعيدة، وفوق كل ذي علم عليم‏.‏ وليوقن كل الإيقان بأن ما جاءت به الآثار النبوية حق ـ ظاهرًا وباطنًا ـ وإن قصر عنه عقله ولم يبلغه علمه ‏{‏فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 23‏]‏ فلا تلجَنَّ باب إنكار، ورد وإمساك وإغماض ـ ردا /لظاهره وتعجبًا من باطنه ـ حفظًا لقواعدك التي كتبتها بقواك وضبطتها بأصولك التي عقلتك عن جَنَاب مولاك‏.‏

إياك مما يخالف المتقدمين من التنزيه وتَوَقّ التمثيل والتشبيه، ولعمري إن هذا هو الصراط المستقيم، الذي هو أَحَدَّ من السيف، وأدق من الشعر، ومن لم يجعل اللّه له نورًا فما له من نور‏.‏

وأما الصفات التي تتفاضل، فمن ذلك الحياة السرمدية والبقاء الأبدي في الدار الآخرة وليس للملك أكثر من هذا، وإن كانت حياتنا هذه منغوصة بالموت فقد أسلفت أن التفضيل إنما يقع بعد كمال الحقيقتين، حتى لا يبقى إلا البقاء وغير ذلك من العلم الذي امتازت به الملائكة‏.‏

فنقول‏:‏ غير منكر اختصاص كل قبيل من العلم بما ليس للآخر، فإن الوحي للرسل على أنحاء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 51‏]‏، فبين أن الكلام للبشر على ثلاثة أوجه‏:‏ منها واحد يكون بتوسط الملك‏.‏

ووجهان آخران ليس للملك فيهما وحي، وأين الملك من ليلة المعراج، ويوم الطور، وتعليم الأسماء وأضعاف ذلك‏؟‏

ولو ثبت أن علم البشر في الدنيا لا يكون إلا على أيدى الملائكة ـ وهو واللّه باطل ـ فكيف يصنعون بيوم القيامة‏؟‏‏!‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ /‏(‏فيفتح اللّه علىَّ من محامده والثناء عليه بأشياء يلهمنيها، لم يفتحها على أحد قبلي‏)‏‏.‏

وإذا تبين هذا، أن العلم مقسوم من الله، وليس كما زعم هذا الغبي بأنه لا يكون إلا بأيدي الملائكة على الإطلاق، وهو قول بلا علم، بل الذي يدل عليه القرآن أن اللّه ـ تعالى ـ اختص آدم بعلم لم يكن عند الملائكة، وهو علم الأسماء الذي هو أشرف العلوم، وحكم بفضله عليهم لمزيد العلم، فأين العدول عن هذا الموضع إلى بنيات الطريق‏؟‏ ومنها القدرة‏.‏

وزعم بعضهم أن الملك أقوى وأقدر، وذكر قصة جبرائيل بأنه شديد القوى، وأنه حمل قرية قوم لوط على ريشة من جناحه، فقد آتى اللّه بعض عباده أعظم من ذلك، فأغرق جميع أهل الأرض بدعوة نوح، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه لأبَرّهُ، ورُبَّ أشْعَثَ أغْبَرَ مدفوع بالأبواب لو أقسم على اللّه لأبَرَّهُ‏)‏‏!‏ وهذا عام في كل الأشياء، وجاء تفسير ذلك في آثار‏:‏ إن من عباد اللّه من لو أقسم على اللّه أن يزيل جبلًا، أو الجبال عن أماكنها لأزالها، وألا يقيم القيامة لما أقامها، وهذا مبالغة‏.‏

ولا يقال‏:‏ إن ذلك يفضل بقوة خلقت فيه، وهذا بدعوة يدعوها؛ لأنهما في الحقيقة يؤولان إلى واحد، هو مقصود القدرة ومطلوب القوة، وما من /أجله يفضل القوى على الضعيف، ثم هب أن هذا في الدنيا فكيف تصنعون في الآخرة ‏؟‏ وقد جاء في الأثر‏:‏ ‏(‏يا عبدي، أنا أقول للشىء كن فيكون، أطعني أجعلك تقول للشىء كن فيكون، يا عبدي، أنا الحي الذي لا يموت، أطعني أجعلك حيًا لا تموت‏)‏، وفي أثر‏:‏ ‏(‏أن المؤمن تأتيه التُّحَفُ من اللّه‏:‏ من الحي الذي لا يموت إلى الحي الذي لا يموت‏)‏ فهذه غاية ليس وراءها مرمى، كيف لا، وهو باللّه يسمع، وبه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشى، فلا يقوم لقوته قوة‏؟‏‏!‏

وأما الطهارة والنزاهة، والتقديس والبراءة عن النقائص والمعائب، والطاعة التامة الخاصة للّه، التي ليس معها معصية ولا سهو ولا غفلة، وإنما أفعالهم وأقوالهم على وفق الأمر، فقد قال قائل‏:‏ من أين للبشر هذه الصفات‏؟‏ وهذه الصفات على الحقيقة هي أسباب الفضل، كما قيل‏:‏ لا أعدل بالسلامة شيئًا‏.‏ فالجواب من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أنا إذا نظرنا إلى هذه الأحوال في الآخرة، كانت في الآخرة للمؤمنين على أكمل حال وأتم وجه، وقد قدمنا أن الكلام ليس في تفضيلهم في هذه الحياة فقط، بل عند الكمال والتمام والاستقرار في دار الحيوان، وفيه وجه قاطع لكل ما كان من جنس هذا الكلام، فأين هم من أقوام تكون وجوههم مثل القمر ومثل الشمس، لا يبولون ولا يتمخطون، ولا يبصقون، ما فيهم ذرة من العيب ولا من النقص‏؟‏‏!‏

الوجه الثاني‏:‏ أن هذا بعينه هو الدليل على فضل الآدمي، والملائكة /مخلوقون على طريقة واحدة، وصفة لازمة، لا سبيل إلى انفكاكهم عنها، والبشر بخلاف ذلك‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن ما يقع من صالحي البشر من الزلات والهفوات ترفع لهم به الدرجات، وتبدل لهم السيئات حسنات، فإن اللّه يحب التوابين ويحب المتطهرين، ومنهم من يعمل سيئة تكون سبب دخول الجنة، ولو لم يكن العفو أحب إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه، وكذلك فرحه بتوبة عبيده، وضحكه من علم العبد أنه لا يغفر الذنوب إلا اللّه، فافهم هذا فإنه من أسرار الربوبية، وبه ينكشف سبب مواقعة المقربين الذنوب‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ ما روى‏:‏ ‏(‏أن الملائكة لما استعظمت خطايا بني آدم ألقى اللّه ـ تعالى ـ على بعضهم الشهوة فواقعوا الخطيئة‏)‏، وهو احتجاج من اللّه ـ تعالى ـ على الملائكة، وأما العبادة فقد قالوا‏:‏ إن الملائكة دائمو العبادة والتسبيح، ومنهم قيام لا يقعدون، وقعود لا يقومون، وركوع لا يسجدون، وسجود لا يركعون‏}‏يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونََ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏20‏]‏

والجواب‏:‏ أن الفضل بنفس العمل وجودته، لا بقدره وكثرته، كما قال تعالى ‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏{‏‏[‏الكهف‏:‏ 7‏]‏، وقال ‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 30‏]‏، ورب تسبيحة من إنسان أفضل من ملء الأرض من عمل غيره، وكان إدريس يرفع له في اليوم مثل عمل جميع أهل /الأرض، وإن الرجلين ليكونان في الصف وأجر ما بين صلاتهما كما بين السماء والأرض‏.‏

وقد روى‏:‏ ‏(‏أن أنِينَ المذنبين أحب إلىَّ من زَجَل المسبحين‏)‏‏.‏

وقد قالوا‏:‏ إن علماء الآدميين مع وجود المنافى والمضاد أحسن وأفضل، ثم هم في الحياة الدنيا وفي الآخرة يلهمون التسبيح، كما يلهمون النَّفَسَ، وأما النفع المتعدى، والنفع للخلق، وتدبير العالم، فقد قالوا ‏:‏ هم تجري أرزاق العباد على أيديهم، وينزلون بالعلوم والوحي، ويحفظون ويمسكون وغير ذلك من أفعال الملائكة‏.‏

والجواب‏:‏ أن صالح البشر لهم مثل ذلك وأكثر منه، ويكفيك من ذلك شفاعة الشافع المشفع في المذنبين، وشفاعته في البشر كي يحاسبوا، وشفاعته في أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة‏.‏ ثم بعد ذلك تقع شفاعة الملائكة، وأين هم من قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏ الأنبياء‏:‏ 107‏]‏ ‏؟‏ وأين هم من الذين ‏:‏ ‏{‏وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ‏}‏‏[‏الحشر‏:‏ 9‏]‏ ‏؟‏ وأين هم ممن يدعون إلى الهدى ودين الحق؛ ومن سَنَّ سُنَّة حسنة‏؟‏ وأين هم من قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إن من أمتي من يشفع في أكثر من ربيعة ومُضَر‏)‏ ‏؟‏ وأين هم من الأقطاب، والأوتاد، والأغواث، والأبدال، والنجباء‏؟‏‏.‏

فهذا ـ هداك اللّه ـ وجه التفضيل بالأسباب المعلومة، ذكرنا منه أنموذجًا / نهجنا به السبيل، وفتحنا به الباب إلى درك فضائل الصالحين، من تدبر ذلك، وأوتى منه حظًا رأى وراءَ ذلك ما لا يحصيه إلا اللّه، وإنما عدل عن ذلك قوم لم يكن لهم من القول والعلم إلا ظاهره، ولا من الحقائق إلا رسومها، فوقعوا في بدع وشبهات، وتاهوا في مواقف ومجازات، وها نحن نذكر ما احتجوا به‏.‏

الحجة الأولى‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 172‏]‏، والذي يريد إثبات ذل الأعاظم، وانقياد الأكابر، إنما يبدأ بالأدنى فالأدنى مترقيًا إلى الأعلى فالأعلى، ليرقى المخاطب في فهم عظمة من انقيد له، وأطيع درجة درجة، وإلا فلو فوجئ بانقياد الأعظم ابتداء، لما حصل تبين مراتب العظمة، ولوقع ذكر الأدنى بعد ذلك ضائعًا، بل يكون رجوعًا ونقصًا‏.‏

ولهذا جرت فطرة الخلق أن يقال‏:‏ فلان لا يأتيني، وفلان يأتيني، أي كيف يستنكف عن الإتيان إلى‏؟‏ وفلان أكرم منه وأعظم، وهو يأتيني، ولا يقال ‏:‏ لا يأبي فلان أن يكرمك، ولا من هو فوقه‏.‏ فالانتقال من المسيح إلى الملائكة دليل على فضلهم، كيف وقد نعتوا بالقرب الذي هو عين الفضائل‏؟‏‏!‏

والجواب‏:‏ زعم القاضي أن هذا ليس من عطف الأعلى على الأدنى، وإنما هو عطف ساذج‏.‏ قال‏:‏ وذلك أن قومًا عبدوا المسيح وزعموا أنه ابن اللّه ـ سبحانه ـ وقومًا عبدوا الملائكة وزعموا أنها بنات اللّه، كما حكى اللّه ـ تعالى ـ /عن الفريقين فبين اللّه ـ تعالى ـ في هذه أن هؤلاء الذين عبدتموهم من دوني هم عبادي لن يستنكفوا عن عبادتي، وأنهما لو استنكفا عن عبادتي لعذبتهما عذابًا أليما، والمسيح هو الظاهر وهو من نوع البشر، وهذا الكلام فيه نظر، واللّه أعلم بحقيقته‏.‏

ثم نقول‏:‏ إن كان هذا هو المراد فلا كلام، وإن أريد أن الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، فاعلم ـ نور اللّه قلبك وشرح صدرك للإسلام ـ أن للملائكة خصائص ليست للبشر، لا سيما في الدنيا‏.‏ هذا ما لا يستريب فيه لبيب، أنهم اليوم على مكان، وأقرب إلى اللّه، وأظهر جسومًا، وأعظم خلقًا، وأجمل صورًا، وأطول أعمارًا، وأيمن آثارًا، إلى غير ذلك من الخصال الحميدة، مما نعلمه ومما لا نعلمه‏.‏

وللبشر ـ أيضًا ـ خصائص ومزايا، لكن الكلام في مجموع كل واحدة من المزيتين أيهما أفضل ‏؟‏ هذا طريق ممهد لهذه الآية وما بعدها‏.‏ وهو وراء ذلك، فحيث جرى ما يوجب تفضيل الملك فلما تميزوا به، واختصوا به من الأمور التي لا تنبغي لمن دونهم فيها أن يتفضل عليهم فيما هو من أسبابها‏.‏

وذلك أن المسيح لو فرض استنكافه عن عبادة اللّه، فإنما هو لما أيده اللّه من الآيات، كما أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى وغير ذلك؛ ولأنه خرج في خلقه عن بني آدم، وفي عزوفه عن الدنيا، وما فيها‏:‏ أعطى الزهد‏.‏ وما من صفة من هذه الصفات إلا والملائكة أظهر منه فيها، فإنهم كلهم خلقوا من /غير أبوين ومن غير أم، وقد كان فرس جبريل يحيى به التراب الذي يمر عليه ؛وعلم ما يدخر العباد في بيوتهم على الملائكة سهل‏.‏

وفي حديث أبرص، وأقرع، وأعمى‏:‏ ‏(‏أن الملك مسح عليهم فبرؤوا ‏)‏ فهذه الأمور التي من أجلها عبد المسيح، وجعل ابن اللّه ـ عز وجل ـ للملائكة منها أوفر نصيب، وأعلى منها، وأعظم مما للمسيح، وهم لا يستنكفون عن عبادته، فهو أحق خلق ألا يستنكف، وأما القرب من اللّه والزلفى لديه فأمور وراء هذه الآيات‏.‏ وأيضا، فأقصى ما فيها تفضيلهم على المسيح؛ إذ هو في هذه الحياة الدنيا، وأما إذا استقر في الآخرة وكان ما كان مما لست أذكر، فمن أين يقال‏:‏ إنهم هناك أفضل منه‏؟‏

الحجة الثانية‏:‏ قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 50‏]‏ ومثله في هود، فالاحتجاج في هذا من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه قرن استقرار خزائنه، وعلم الغيب بنفي القول بأنه ملك، وسلبها عن نفسه في نسق واحد، فإذا كان حال من يعلم الغيب، ويقدر على الخزائن أفضل من حال من لا يكون كذلك، وجب أن يكون حال الملك أفضل من حال من ليس بملك، وإن كان نبيا كما في الآية‏.‏

وثانيها‏:‏ أنه إنما نفى عن نفسه حالا أعظم من حاله الثابتة، ولم ينف حالًا / دون حاله، لأن من اتصف بالأعلى فهو على ما دونه أقدر، فدل على أن حال الملك أفضل من حاله أن يكون ملكًا وهو المطلوب‏.‏

وثالثها‏:‏ ما ذكر القاضي أنه لولا ما استقر في نفوس المخاطبين من أن الملك أعظم؛ لما حسن مواجهتهم بسلب شىء هو دون مرتبته، وهذا الاعتقاد الذي كان في نفوس المخاطبين أمر قرروا عليه، ولم ينكره عليهم، فثبت أنه حق‏.‏

والجواب من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه نفى أن يكون عالمًا بالغيب وعنده خزائن اللّه، ونفى أن يكون ملكًا لا يأكل ولا يشرب ولا يتمتع، وإذا نفى ذلك عن نفسه لم يجب أن يكون الملك أفضل منه، ألا ترى أنه لو قال‏:‏ ولا أنا كاتب، ولا أنا قارئ، لم يدل على أن الكاتب والقارئ أفضل ممن ليس بكاتب ولا قارئ، فلم يكن في الآية حجة‏.‏

وأيضا، ما قال القاضي‏:‏ إنهم طلبوا صفات الألوهية، وهي العلم والقدرة والغنى‏:‏ وهي أن يكون عالمًا بكل شىء، قديرًا على كل شىء، غنيًا عن كل شىء، فسلب عن نفسه صفات الألوهية، ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏، وقال تعالى‏:‏ محتجًا عنه‏:‏ ‏{‏وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 20‏]‏، فكأنهم أرادوا منه صفة الملائكة أن يكون /متلبسًا بها، فإن الملائكة صُمَّد لا يأكلون ولا يشربون، والبشر لهم أجواف يأكلون ويشربون؛ فكان الأمر إلى هذه الصفة، وهذا بين إن شاء اللّه‏.‏

وثانيها‏:‏ أن الآخر أكمل في أمر من الأمور، فنفى عن نفسه حال الملك في ذلك، ولم يلزم أن يكون له فضيلة يمتاز بها، وقد تقدم مثل هذا فيما ذكر من حال الملك وعظمته، وأنه ليس للبشر من نوعه مثله، ولكن لِمَ لمْ تقل‏:‏ من غير نوعه للبشر ما هو أفضل منه‏؟‏

ولهذا إذا سئل الإنسان عما يعجز عنه، قد يقول‏:‏ لست بملك، وإن كان المؤمن أفضل من حال الجن، والملك من الملوك‏.‏

وثالثها‏:‏ أن أقصى ما فيه تفضيل الملك في تلك الحال، ولو سلم ذلك لم ينف أن يكون فيما بعد أفضل من الملك؛ولهذا تزيد قدرته وعلمه وغناه في الآخرة، وهذا كما لو قال الصبي‏:‏ لا أقول‏:‏ إني شيخ، ولا أقول‏:‏ إني عالم، ومن الممكن ترقيه إلى ذلك، وأكمل منه‏.‏

الحجة الثالثة‏:‏ قول إبليس لآدم وحواء‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 20‏]‏ تقديره‏:‏ كراهة أن تكونا أو لئلا تكونا، فلولا أن كونهما ملكين حالة هي أكمل من كونهما بشرين؛ لما أغراهما بها، ولما ظنا أنها هي الحالة العليا؛ ولهذا قرنها بالخلود، والخالد أفضل من الفاني، والملك أطول حياة من الآدمي، فيكون أعظم عبادة وأفضل من الآدمي‏.‏

/والجواب من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ ما ذكره القاضي أن قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ‏}‏ ظن أن الملائكة خير منهما، كما ظن أنه خير من آدم وكان مخطئا‏.‏ وقوله ‏:‏ ‏{‏أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ‏}‏ ظنًا منه أنهما يؤثران الخلود، لما في ذلك من السلامة من الأمراض والأسقام والأوجاع، والآفات والموت؛ لأن الخالد في الجنة هذه حاله، ولم يخرج هذا مخرج التفضيل على الأنبياء‏.‏ ألا ترى أن الحور والولدان المخلوقين في الجنة خالدون فيها وليسوا بأفضل من الأنبياء‏.‏

وثانيها‏:‏ أن الملك أفضل من بعض الوجوه، وكذلك الخلود آثر عندهما فمالا إليه‏.‏

وثالثها‏:‏ أن حالهما تلك كانت حال ابتداء لا حال انتهاء، فإنهما في الانتهاء قد صارا إلى الخلود الذي لا حظر فيه ولا معه، ولا يعقبه زوال، وكذلك يصيران في الانتهاء إلى حال هي أفضل وأكمل من حال الملك، الذي أراداها أولًا، وهذا بين‏.‏

الحجة الرابعة‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 75‏]‏، فبدأ بهم، والابتداء إنما يكون بالأفضل والأشرف، فالأفضل والأشرف، كما بدأ بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏، فبدأ بالأكمل والأفضل‏.‏

/والجواب‏:‏ أن الابتداء قد يكون كثيرًا بغير الأفضل، بل يبتدأ بالشىء لأسباب متعددة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏، ولم يدل ذلك على أن نوحًا أفضل من إبراهيم، والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل؛ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏‏[‏الأحزاب‏:‏ 35‏]‏، لا يدل على أن المسلم أفضل من المؤمن، فلعله ـ واللّه أعلم ـ إنما بدأ بهم؛لأن الملائكة أسبق خلقًا ورسالة؛فإنهم أرسلوا إلى الجن والإنس، فذكر الأول، فالأول، في الخلق، والرسالة على ترتيبهم في الوجود‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 49‏]‏، والذكور أفضل من الإناث، وقال‏:‏ ‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 1‏]‏، ‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا‏}‏ الآيات ‏[‏الشمس ‏:‏ 1‏]‏، و‏{‏فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 68‏]‏، إلى غير ذلك، ولم يدل التقديم في شىء من هذه المواضع على فضل المبدوء به، فعلم أن التقديم ليس لازمًا للفضل‏.‏

الحجة الخامسة‏:‏ قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 31‏]‏، فدل على أن الملك أفضل من البشر، وهن إنما أردن أن يتبين لهن حال هي أعظم من حال البشر‏.‏

وقد أجابوا عنه بجوابين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهن لم يعتقدن أن الملائكة أحسن من جميع النبيين وإن لم يروهم لمخبر /أخبرهم فسكن إلى خبره، فلما هالهن حسنه قلن‏:‏‏{‏مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ‏}‏ لأن هذا الحسن ليس بصفة بشر‏.‏

وثانيهما‏:‏ أنهن اعتقدن أن الملائكة خير من النبيين، فكان هذا الاعتقاد خطأ منهن، ولا يقال إنه لما لم يقرن بالإنكار دل على أنه حق، فإن قولهن ‏{‏مَا هَـذَا بَشَرًا ً‏}‏ خطأ‏.‏ وقولهن‏:‏ ‏{‏إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ‏}‏ خطأ أيضًا في غيبتهن عنه أنه بشر وإثباتهن أنه ملك، وإن لم يقرن بالإنكار، دل على أنه حق، وأن قولهن‏:‏ ‏{‏مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ‏}‏ خطأ في نفيهن عنه البشرية وإثباتهن له الملائكية، وإن لم يقرن بالإنكار لغيبة عقولهن عند رؤيته، فلم يلمن في تلك الحال على ذلك‏.‏

وأقول ـ أيضًا ـ‏:‏ إن النسوة لم يكن يقصدن أنه نبي، بل ولا أنه من الصالحين إذ ذاك، ولم يشهدن له فضلًا على غيره من البشر في الصلاح والدين، وإنما شهدن بالفضل في الجمال والحسن، وسَبَاهُنّ جماله فَشَبَّهْنه بحال الملائكة، وليس هذا من التفضيل في شىء من الذي نريد‏.‏

ثم نقول‏:‏ إذا كان التفضيل بالجمال حقًا، فقد ثبت أن أهل الجنة تدخـل الزُّمْرَةُ الأولى ووجوههم كالشمس، والذين يَلُونهم كالقمر‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ الحديث، فهذه حال السعداء عند المنتهى، وإن كان في الجمال والملك تفضيل، فإنما هو في هذه الحياة الدنيا؛ لعلم علمه النساء وأكثر الناس‏.‏

/وأما ما فضل اللّه عباده الصالحين، وما أعده اللّه من الكرامة، فأكثر الناس عنه بِمَعْزِل، ليس لهم نظر إليه، وكذلك ما آتاهم اللّه من العلم الذي غَبَطَتْهُم الملائكة به من أول ما خلقهم، وهو مما به يفضلون، فهذا الجواب وما قبله‏.‏

الحجة السادسة‏:‏ قوله تعالى‏:‏‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 19ـ21‏]‏، فهذه صفة جبرائيل‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 22‏]‏، فوصف جبرائيل بالكرم والرسالة، والقوة والتمكين عنده، وأنه مطاع وأنه أمين، فوصفه بهذه الصفات الفاضلة ثم عطف عليه بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ‏}‏فأضاف الرسول البشرى إلينا وسلب عنه الجنون، وأثبت له رؤية جبرائيل، ونفى عنه البخل والتهمة، وفي هذا تفاوت عظيم بين البشر والملائكة، وبين الصفات والنِّعَم، وهذا قاله بعض المعتزلة، زَلَّ به عن سواء السبيل‏.‏

والجواب‏:‏ أولا‏:‏ أين هو من قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏ إلى آخرها ‏[‏الشرح‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 1، 2‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا‏}‏ الآيات ‏[‏الفتح‏:‏ 1‏]‏، و‏{‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 79‏]‏ ‏؟‏

وأين هو عن قصة المعراج التي تأخر فيها جبرائيل عن مقامه‏؟‏ ثم أين هو عن الخلَّة‏؟‏ وهو التقريب؛ فهذا نزاع من لم يُقَدِّر النبي صلى الله عليه وسلم قَدْرَه‏.‏

/ ثم نقول ثانيًا‏:‏ لما كان جبرائيل هو الذي جاء بالرسالة، وهو صاحب الوحي وهو غيب عن الناس، لم يروه بأبصارهم، ولم يسمعوا كلامه بآذانهم، وزعم زاعمون أن الذي يأتيه شيطان يعلمه ما يقول، أو أنه إنما يعلمه إياه بعض الإنس‏.‏

أخبر اللّه العباد أن الرسول الذي جاء به، ونعته أحسن النعت، وبين حاله أحسن البيان، وذلك كله إنما هو تشريف لمحمد صلى الله عليه وسلم، ونفي عنه ما زعموه، وتقرير للرسالة؛ إذ كان هو صاحبه الذي يأتيه بالوحي، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ ‏[‏ التكوير‏:‏ 19‏]‏ أي‏:‏ أن الرسول البشري لم ينطق به من عند نفسه، وإنما هو مبلغ يقول ما قيل له، فكان في اسم الرسول إشارة إلى محض التوسط والسعاية‏.‏

ثم وصفه بالصفات التي تنفي كل عيب، من القوة والمكنة، والأمانة والقرب من اللّه ـ سبحانه ـ فلما استقر حال الرسول الملكي، بين أنه من جهته وأنه لا يجىء إلا بالخير‏.‏

وكان الرسول البشري معلوم ظاهره عندهم، وهو الذي يبلغهم الرسالة، ولولا هؤلاء لما أطاقوا الأخذ عن الرسول الملكي، وإنما قال‏:‏ ‏{‏صاحبكم‏}‏ إشارة إلى أنه قد صحبكم سنين قبل ذلك، ولا سابقة له بما تقولون فيه وترمونه، من الجنون والسحر وغير ذلك، وأنه لولا سابقته وصحبته إياكم لما استطعتم الأخذ عنه، ألا تسمعه يقول‏:‏ /‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 9‏]‏ ـ تمييزًا ـ من المرسلين، ثم حقق رسالته بأنه رأى جبرائيل، وأنه مؤتمن على ما يأخذه عنه، فقام أمر الرسالة بهاتين الصفتين، وجاء على الوجه الأبلغ والأكمل والأصلح‏.‏

وقد احتجوا بآيات تقدم التنبيه على مقاصدها؛ من وصف الملائكة بالتسبيح، والطاعة، والعبادة وغير ذلك‏.‏

الحجة السابعة‏:‏ الحديث المشهور الصحيح عن اللّه ـ عز وجل ـ أنه قال‏:‏ ‏(‏من ذَكَرَنِي في نَفْسِه ذكرته في نَفْسي، ومن ذكرني في مَلأ ذكرته في مَلأ خير منه‏)‏‏.‏

والملأ الذي يذكر اللّه الذاكر فيه، هم‏:‏ الملائكة وقد نطق الحديث بأنهم أفضل من الملأ الذين يذكر العبد فيهم ربه، وخير منهم، وقد قال بعضهم‏:‏ وكم من ملأ ذكر اللّه فيه والرسول حاضر فيهم، بل وقع ذلك في مجالس الرسول كلهم، فأين العدول عن هذا الحديث الصحيح‏؟‏‏!‏

الجواب‏:‏ أن هذا الحديث صحيح، وهو أجود وأقوى ما احتجوا به، وقد أجابوا عنه بوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أضعف من الآخر، وهو أن الخبر يجوز أن يرجع إلى الذِّكْر، لا إلى المذكور فيهم، تقديره ذكرته ذكرًا خيرًا من ذكره؛ لأن ذكر اللّه كلامه، وهذا ليس بشيء، فإن الخبر مجرور صفة للملأ، وقد وصل بقوله‏:‏ منهم، ولم يقل‏:‏ منه، ولولا ذلك المعنى لقيل‏:‏ ذكرته في ملأ خيرًا /منه بالنصب، وصلة الضمير الذكر‏.‏ وهذا من أوضح الكلام لمن له فقه بالعربية ونعوذ باللّه من التنطع‏.‏

وثانيهما‏:‏ أنه محمول على ملأ خير منه ليس فيهم نبي، فإن الحديث عام عمومًا مقصودًا شاملًا، كيف لا، والأنبياء والأولياء هم أهل الذكر، ومجالسهم مجالس الرحمة‏؟‏ فكيف يجيء استثناؤهم‏؟‏

لكن هنا أوجه متوجهة‏:‏

أحدها‏:‏ أن الملأ الأعلى الذين يذكر اللّه من ذكره فيهم ـ هم صفوة الملائكة وأفضلهم، والذاكر فيهم للعبد هو اللّه‏.‏ يقال‏:‏ ينبغى أن يفرض على موازنة أفضل بني آدم يجتمعون في مجلس نبيه صلى الله عليه وسلم، وإن كان أفضل البشر، لكن الذين حوله ليس أفضل من بقى من البشر الفضلاء، فإن الرسل والأنبياء، أفضل منهم‏.‏

وثانيها‏:‏ أن مجلس أهل الأرض إن كان فيه جماعة من الأنبياء يذكر العبد فيهم ربه، فاللّه ـ تعالى ـ يذكر العبد في جماعات من الملائكة أكثر من أولئك، فيقع الخير للكثرة التي لا يقوم لها شيء، فإن الجماعة كلما كثروا كانوا خيرًا من القليل‏.‏

وثالثها‏:‏ أنه لعله في الملأ الأعلى جماعة من الأنبياء يذكر اللّه العبد فيهم؛ فإن أرواحهم هناك‏.‏

/ ورابعها‏:‏ أن من الناس من فرق بين الخير والأفضل، فيقال‏:‏ الخير للأنفع‏.‏

وخامسها‏:‏ أنه لا يدل على أن الملأ الأعلى أفضل من هؤلاء الذاكرين إلا في هذه الدنيا، وفي هذه الحال؛ لأنهم لم يكملوا بعد، ولم يصلحوا أن يصيروا أفضل من الملأ الأعلى، فالملأ الأعلى خير منهم في هذه الحالة، كما يكون الشيخ العاقل خيرًا من عامة الصبيان؛ لأنه إذ ذاك فيه من الفضل ما ليس في الصبيان، ولعل في الصبيان في عاقبته أفضل منه بكثير، ونحن إنما نتكلم على عاقبة الأمر ومستقره‏.‏

فليتدبر هذا، فإنه جواب معتمد إن شاء اللّه، واللّه ـ سبحانه ـ أعلم بحقائق خلقه وأفاضلهم، وأحكم في تدبيرهم، ولا حول ولا قوة إلا باللّه‏.‏ هذا ما تيسر تعليقه وأنا عَجْلان، في حين من الزمان، واللّه المستعان، وهو المسؤول أن يهدي قلوبنا ويسدد ألسنتنا وأيدينا، والحمد للّه رب العالمين‏.

سُئلَ شَيخُ الإسْلام ـ رحمَه اللَّه ـ عن‏ [‏خديجة‏] و[‏عائشة‏]‏ أمي المؤمنين، أيتهما أفضل ‏؟‏

فأجَـاب‏:‏

بأن سبق خديجة، وتأثيرها في أول الإسلام، ونصرها، وقيامها في الدين، لم تشركها فيه عائشة، ولا غيرها من أمهات المؤمنين‏.‏

وتأثير عائشة في آخر الإسلام، وحمل الدين، وتبليغه إلى الأمة، وإدراكها من العلم ما لم تشركها فيه خديجة، ولا غيرها مما تميزت به عن غيرها‏.‏

/وقال شيخ الإِسْلام ـ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏

فَصْــل

وأفضل نساء هذه الأمة [‏خديجة‏]، و‏[‏عائشة‏]، و[‏فاطمة‏].‏

وفي تفضيل بعضهن على بعض نزاع، وتفصيل ليس هذا موضعه‏.‏ وخديجة وعائشة من أزواجه‏.‏

فإذا قيل بهذا الاعتبار‏:‏ إن جملة ‏[‏أزواجه‏] أفضل من جملة [‏بناته‏] كان صحيحًا؛ لأن أزواجه أكثر عددًا، والفاضلة فيهن أكثر من الفاضلة في بناته‏.‏

/وقال شَيْخُ الإِسْلام‏:‏

فَصْــل

وأما نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقل‏:‏ إنهن أفضل من العشرة إلا أبو محمد ابن حزم، وهو قول شاذ لم يسبقه إليه أحد، وأنكره عليه من بلغه من أعيان العلماء، ونصوص الكتاب والسنة تبطل هذا القول‏.‏

وحجته التي احتج بها فاسدة؛ فإنه احتج على ذلك بأن المرأة مع زوجها في درجته في الجنة، ودرجة النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الدرجات فيكون أزواجه في درجته، وهذا يوجب عليه أن يكون أزواجه أفضل من الأنبياء جميعهم، وأن تكون زوجة كل رجل من أهل الجنة أفضل ممن هو مثله، وأن يكون من يطوف على النبي صلى الله عليه وسلم من الِولْدان، ومن يزوج به من الحور العِين أفضل من الأنبياء والمرسلين، وهذا كله مما يَعْلَم بطلانه عمومُ المؤمنين‏.‏

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏فَضْلُ عائشة على النساء كَفضْلِ الثريد على سائر الطعام‏)‏ فإنما ذكر فضلها على النساء فقط‏.‏ وقد ثبت /في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏كَمُلَ من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا عدد قليل، إما اثنتان أو أربع‏)‏، وأكثر أزواجه لسْنَ من ذلك القليل‏.‏

والأحاديث المفضلة للصحابة كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا‏)‏‏:‏ يدل على أنه ليس في الأرض أهل، لا من الرجال ولا من النساء، أفضل عنده من أبي بكر، وكذلك ما ثبت في الصحيح عن على أنه قال‏:‏ خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، وما دل على هذا من النصوص التي لا يتسع لها هذا الموضع‏.‏

وبالجملة، فهذا قول شاذ لم يسبق إليه أحد من السلف، وأبو محمد مع كثرة علمه وتبحره، وما يأتي به من الفوائد العظيمة، له من الأقوال المنكرة الشاذة ما يعجب منه كما يعجب مما يأتي به من الأقوال الحسنة الفائقة، وهذا كقوله‏:‏ إن مريم نبية، وإن آسية نبية، وإن أم موسى نبية‏.‏

وقد ذكر القاضي أبو بكر، والقاضي أبو يعلى، وأبو المعالي، وغيرهم‏:‏ الإجماع على أنه ليس في النساء نبية، والقرآن والسنة دَلا على ذلك، كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 109‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 75‏]‏، ذكر أن غاية ما انتهت إليه أمه الصديقيةُ، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

/وَقَالَ شَيخُ الإِسْلام‏:‏

فَصـل

وأما أبو بكر والخضر، فهذا يبني على نبوة الخضر‏.‏ وأكثر العلماء على أنه ليس بنبي، وهو اختيار أبي علي بن أبي موسى وغيره من العلماء‏.‏ فعلى هذا أبو بكر وعمر أفضل منه‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنه نبي، واختاره أبو الفرج ابن الجوزي وغيره‏.‏ فعلى هذا هو أفضل من أبي بكر، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وعيسى ابن مريم هما أفضل منه بالاتفاق، ومحمد في أول هذه الأمة وعيسى في آخرها‏.‏

/ وَسُئلَ ـ رَحمَهُ اللَّه ـ عن رجلين اختلفا‏.‏ فقال أحدهما‏:‏ أبو بكر الصديق، وعمر ابـن الخطاب ـ رضي اللّه عنهما ـ أعلم، وأفقه من على بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه‏.‏ وقال الآخر‏:‏ بل على بن أبي طالب أعلم، وأفقه من أبي بكر وعمر، فأي القولين أصوب‏؟‏ وهل هذان الحديثان‏:‏ وهما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أقْضَاكُم علي‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏أنا مدينة العلم، وعلي بابها‏)‏ صحيحان‏؟‏ وإذا كانا صحيحين، فهل فيهما دليل أن عليا أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر ـ رضي اللّه عنهم أجمعين ‏؟‏ وإذا ادعى مدع‏:‏ أن إجماع المسلمين على أن عليا ـ رضي اللّه عنه ـ أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر ـ رضي اللّه عنهم أجمعين ـ يكون محقًا أو مخطئًا‏؟‏

فأَجَــاب‏:‏

الحمد للّه، لم يقل أحد من علماء المسلمين المعتبرين‏:‏ أن عليّا أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر، بل ولا من أبي بكر وحده‏.‏ ومدعي الإجماع على ذلك من أجهل الناس، وأكذبهم بل ذكر غير واحد من العلماء إجماع العلماء على أن أبا بكر الصديق أعلم من علي‏:‏ منهم الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني، المروذي ـ أحد أئمة السنة من أصحاب الشافعي ـ ذكر في كتابه‏:‏‏]‏تقويم الأدلة على الإمام‏[‏ /إجماع علماء السنة على أن أبا بكر أعلم من علي‏.‏ وما علمت أحدًا من الأئمة المشهورين ينازع في ذلك‏.‏

وكيف وأبو بكر الصديق كان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم يفتي، ويأمر، وينهى، ويقضي، ويخطب‏؟‏‏!‏ كما كان يفعل ذلك إذا خرج هو وأبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام، ولما هاجرا جميعًا، ويوم حنين، وغير ذلك من المشاهد والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت يقره على ذلك، ويرضى بما يقول، ولم تكن هذه المرتبة لغيره‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مشاورته لأهل العلم، والفقه، والرأي من أصحابه، يقدم في الشورى أبا بكر، وعمر‏.‏ فهما اللذان يتقدمان في الكلام، والعلم بحضرة الرسول عليه السلام على سائر أصحابه، مثل قصة مشاورته في أسرى بدر، فأول من تكلم في ذلك أبو بكر، وعمر، وكذلك غير ذلك‏.‏

وقد روى في الحديث أنه قال لهما‏:‏ ‏(‏إذا اتفقتما على أمر لم أخالفكما‏)‏ ولهذا كان قولهما حجة في أحد قولي العلماء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ـ وهذا بخلاف قول عثمان، وعلي‏.‏

وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏ اقتدوا باللذين من بعدي‏:‏ أبي بكر وعمر‏)‏‏.‏ ولم يجعل هذا لغيرهما، بل ثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏عليكم بسُنَّتِي، وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنَّواجذ، وإياكم ومُحْدَثات /الأمور، فإن كل بدعة ضلالة‏)‏ فأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين‏.‏ وهذا يتناول الأئمة الأربعة‏.‏ وخص أبا بكر وعمر بالاقتداء بهما‏.‏ ومرتبة المقتدي به في أفعاله، وفيما سنه للمسلمين، فوق سنة المتبع فيما سنه فقط‏.‏ وفي صحيح مسلم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا معه في سفر فقال‏:‏ ‏(‏إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا‏)‏‏.‏

وقد ثبت عن ابن عباس‏:‏ أنه كان يفتي من كتاب اللّه، فإن لم يجد فبما سنه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجد أفتى بقول أبي بكر وعمر؛ ولم يكن يفعل ذلك بعثمان وعلي‏.‏ و‏ [‏ابن عباس‏]‏ حبر الأمة، وأعلم الصحابة، وأفقههم في زمانه، وهو يفتي بقول أبي بكر وعمر، مقدمًا لقولهما على قول غيرهما من الصحابة‏.‏ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏اللّهم فقههُ في الدين وعَلمه التأويل‏)‏‏.‏

وأيضًا فأبو بكر وعمر، كان اختصاصهما بالنبي صلى الله عليه وسلم فوق اختصاص غيرهما‏.‏ وأبو بكر كان أكثر اختصاصًا‏.‏ فإنه كان يَسْمُرُ عنده عامة الليل يحدثه في العلم والدين، ومصالح المسلمين‏.‏ كما روى أبو بكر بن أبي شيبة‏:‏ حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عَلْقَمَة عن عمر قال‏:‏ كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسمر عند أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين وأنا معه‏.‏

وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر‏:‏ أن أصحاب الصُّفَّة كانوا /ناسًا فقراء؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، أو بسادس‏)‏، وأن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق نبي اللّه صلى الله عليه وسلم بعشرة؛ وأن أبا بكر تَعَشَّى عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صليت العشاء، ثم رجع، فلبث حتى نَعَسَ رسول اللّه صلىالله عليه وسلم ، فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء اللّه‏.‏ قالت امرأته‏:‏ ما حبسك عن أضيافك‏؟‏ قال‏:‏ أو ما عشيتهم‏؟‏ قالت‏:‏ أبوا حتى تجىء‏.‏ عرضوا عليهم العشاء فغلبوهم‏.‏ وذكر الحديث‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏كان يتحدث إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى الليل‏)‏‏.‏

وفي سفر الهجرة لم يصحبه غير أبي بكر، ويوم بدر لم يبق معه في العريش غيره وقال‏:‏ ‏(‏ إِنَّ أَمَنَّ الناس علينا في صُحْبَتِه وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلا‏)‏‏.‏ وهذا من أصح الأحاديث المستفيضة في الصحاح من وجوه كثيرة‏.‏

وفي الصحيحين عن أبي الدرداء قال‏:‏ كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما صاحبكم فقد غامر‏)‏ فسلم، وقال‏:‏ إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه، ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى عليَّ، فأتيتك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏يغفر اللّه لك ثلاثًا‏)‏ ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فلم يجده، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يَتَمَعَّر وغَضِب حتى /أشفق أبو بكر، وقال‏:‏ أنا كنت أظلم يا رسول اللّه، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اللّه بعثني إليكم، فقلتم‏:‏ كذبت وقال‏:‏ أبو بكر صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي، فهل أنتم تاركو لي صاحبي‏)‏‏.‏ فما أوذي بعدها‏.‏ قال البخاري‏:‏ غامر‏:‏ سبق بالخير‏.‏

وفي الصحيحين عن ابن عباس قال‏:‏ وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون، ويثنون، ويصلون عليه قبل أن يرفع؛ وأنا فيهم فلم يرعني إلا رجل قد أخذ بمَنْكِبي من ورائي، فالتفت فإذا هو على، وترحم على عمر، وقال‏:‏ ما خلفت أحدًا أحب إلى أن ألقي اللّه ـ عز وجل ـ بعمله منك، وايم اللّه، إن كنت لأظن أن يجعلك اللّه مع صاحبيك‏.‏ وذلك أني كنت كثيرًا ما أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏جئت أنا وأبوبكر وعمر، ودخلت أنا وأبوبكر وعمر، وخرجت أنا وأبوبكر وعمر‏)‏، فإن كنت أرجو، أو أظن أن يجعلك اللّه معهما‏.‏

وفي الصحيحين وغيرهما‏:‏ أنه لما كان يوم أحد قال أبو سفيان ـ لما أصيب المسلمون‏:‏ أفى القوم محمد‏؟‏ أفي القوم محمد‏؟‏ أفي القوم محمد‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لاتجيبوه‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ أفي القوم ابن أبي قحافة‏؟‏ أفي القوم ابن أبي قحافة‏؟‏ أفي القوم ابن أبي قحافة‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تجيبوه‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ أفي القوم ابن الخطاب‏؟‏ أفي القوم ابن الخطاب‏؟‏ أفي القوم ابن الخطاب‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تجيبوه‏)‏‏.‏ فقال لأصحابه‏:‏ أما هؤلاء فقد /كفيتموهم‏.‏ فلم يملك عمر نفسه أن قال‏:‏ كذبت عدو اللّه‏!‏ إن الذين عددت لأحياء، وقد بقى لك ما يسوؤك‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ الحديث‏.‏ فهذا أمير الكفار في تلك الحال إنما سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبى بكر وعمر دون غيرهم؛ لعلمه بأنهم رؤوس المسلمين‏:‏ النبي ووزيراه‏.‏

ولهذا سأل الرشيد مالك بن أنس عن منزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فقال‏:‏ منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته‏.‏ وكثرة الاختصاص، والصحبة، مع كمال المودة، والائتلاف، والمحبة، والمشاركة في العلم والدين، تقتضى أنهما أحق بذلك من غيرهما‏.‏ وهذا ظاهر بين لمن له خبرة بأحوال القوم‏.‏

أما الصِّدِّيق، فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنها غيره ـ حتى بينها لهم ـ لم يحفظ له قول مخالف نصًا‏.‏ هذا يدل على غاية البراعة، وأما غيره فحفظت له أقوال كثيرة خالفت النص؛ لكون تلك النصوص لم تبلغهم‏.‏

والذي وجد من موافقة عمر للنصوص أكثر من موافقة علىّ، وهذا يعرفه من عَرَف مسائل العلم، وأقوال العلماء فيها‏.‏ وذلك مثل‏:‏ نفقة المتوفى عنها زوجها‏:‏ فإن قول عمر هو الذي وافق النص، دون القول الآخر، وكذلك [‏مسألة الحرام‏]‏ قول عمر، وغيره فيها، هو الأشبه بالنصوص من القول الآخر، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏قد كان في الأمم /قبلكم مُحَدَّثُون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏رأيت كأني أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الرِّيَّ يخرج من أظفاري ثم ناولت فضلي عمر‏)‏ فقالوا‏:‏ ما أوَّلْتَه يا رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏العلم‏)‏ ‏[‏مُحدَّثون‏:‏ أي ملهمون‏.‏ والملْهَم‏:‏ هو الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به حدْسًا وفِراسة، وهو نوع يختص به الله عز وجل من يشاء من عباده‏]‏ وفي الترمذي وغيره أنه قال‏:‏ ‏(‏لو لم أُبْعَثْ فيكم لبُعِثَ عمر‏)‏‏.‏

وأيضًا فإن الصِّدِّيقَ استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على [‏الصلاة‏] التي هي عمود الإسلام، وعلى إقامة ‏[المناسك‏] التي ليس في مسائل العبادات أشكل منها، وأقام المناسك قبل أن يحج النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فنادى ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُرْيَان، فأردفه بعلي بن أبي طالب لينبذ العهد إلى المشركين، فلما لحقه قال‏:‏ أمير، أو مأمور‏؟‏ قال‏:‏ بل مأمور‏.‏ فأمر أبا بكر على عليِّ بن أبي طالب، وكان علي ممن أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمع ويطيع في الحج وأحكام المسافرين، وغير ذلك لأبي بكر، وكان هذا بعد غزوة تبوك التي استخلف عليًا فيها على المدينة، ولم يكن بقي بالمدينة من الرجال إلا منافق، أو معذور، أو مذنب، فلحقه على فقال‏:‏ أتخلفني مع النساء والصبيان‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أما ترضى أن تكون مِنِّي بمنزلة هارون من موسى‏؟‏‏)‏‏.‏

بين بذلك أن استخلاف علىٍّ على المدينة لا يقتضى نقص المرتبة؛ فإن موسى قد استخلف هارون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم دائما يستخلف رجالًا، لكن كان يكون بها رجال‏.‏ وعام تبوك خرج النبي صلى الله عليه وسلم بجميع المسلمين ولم يأذن لأحد في التخلف عن الغزاة؛ لأن العدو كان شديدًا، والسفر / بعيدًا، وفيها أنزل اللّه سورة براءة‏.‏

وكتاب أبي بكر في الصدقات أجمع الكتب وأوجزها؛ ولهذا عمل به عامة الفقهاء‏.‏ وكتاب غيره فيه ما هو متقدم منسوخ، فدل ذلك على أنه أعلم بالسنة الناسخة‏.‏ وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال‏:‏ وكان أبو بكر أعلمنا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وأيضًا، فالصحابة في زمن أبي بكر لم يكونوا يتنازعون في مسألة إلا فصـلها بينهم أبو بكر وارتفع النزاع، فلا يعرف بينهم في زمانه مسألة واحـدة تنازعوا فيها إلا ارتفع النزاع بينهم بسببه، كتنازعهم في وفاته صلى الله عليه وسلم، ومدفنه، وفي ميراثه، وفي تجهيز جيش أسامة، وقتال مانعي الزكاة، وغير ذلك من المسائل الكبار، بل كان خليفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيهم‏:‏ يعلمهم، ويُقَوِّمهم، ويبين لهم ما تزول معه الشبهة، فلم يكونوا معه يختلفون‏.‏

وبعده لم يبلغ علم أحد وكماله علم أبي بكر وكماله؛ فصاروا يتنازعون في بعض المسائل‏.‏ كما تنازعوا في الجدَّ والإخوة، وفي الحرام، وفي الطلاق الثلاث، وفي غير ذلك من المسائل المعروفة مما لم يكونوا يتنازعون فيه على عهد أبي بكر، وكانوا يخالفون عمر، وعثمان، وعليًا في كثير من أقوالهم، ولم يعرف أنهم خالفوا أبا بكر في شيء مما كان يفتى فيه ويقضى‏.‏ وهذا يدل على غاية العلم‏.‏

وقام مقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأقام الإسلام؛ فلم يخل بشيء منه، بل أدخل الناس من الباب الذي خرجوا منه مع كثرة المخالفين من المرتدين وغيرهم، وكثرة الخاذلين، فكمل به من علمهم ودينهم ما لا يقاومه فيه /أحد، حتى قام الدين كما كان‏.‏ وكانوا يسمون أبا بكر خليفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم بعد هذا سموا عمر وغيره أمير المؤمنين‏.‏ قال السهيلي وغيره من العلماء‏:‏ ظهر قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏ في أبي بكر‏:‏ في اللفظ، كما ظهر في المعنى فكانوا يقولون‏:‏ محمد رسول اللّه وأبو بكر خليفة رسول اللّه، ثم انقطع هذا الاتصال اللفظي بموته، فلم يقولوا لمن بعده‏:‏ خليفة رسول اللّه‏.‏

وأيضًا فعلي بن أبي طالب تعلَّم من أبي بكر بعض السنة؛ بخلاف أبي بكر، فإنه لم يتعلم من علي بن أبي طالب، كما في الحديث المشهور الذي في السنن حديث صلاة التوبة عن علي قال‏:‏ كنت إذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم حديثا ينفعني اللّه منه بما شاء أن ينفعني، فإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته، وحدثني أبو بكر ـ وصدق أبو بكر ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يذنب ذنبًا ثم يتوضأ ويُحسن الوضوء ويصلي ركعتين ويستغفر اللّه، إلا غفر اللّه له‏)‏‏.‏

ومما يبين لك هذا أن أئمة علماء الكوفة‏:‏ الذين صحبوا عمر وعليا كعلقمة، والأسود، وشُريْح القاضي، وغيرهم، كانوا يرجحون قول عمر على قول علي‏.‏ وأما تابعو أهل المدينة ومكة والبصرة، فهذا عندهم أظهر وأشهر من أن يُذْكر، وإنما الكوفة ظهر فيها فقه على وعلمه بحسب مقامه فيها مدة خلافته‏.‏

وكل شيعة عليّ الذين صحبوه لا يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر /وعمر، لا في فقه، ولا علم، ولا غيرهما؛ بل كل شيعته، الذين قاتلوا معه عدوه، كانوا مع سائر المسلمين، يقدمون أبا بكر وعمر، إلا من كان عليّ ينكر عليه ويذمه، مع قلتهم في عهد عليّ وخمولهم، كانوا ثلاث طوائف‏:‏

طائفة غلت فيه، كالتي ادعت فيه الإلهية، وهؤلاء حرقهم علىّ بالنار‏.‏

وطائفة كانت تَسُبُّ أبا بكر، وكان رأسهم عبد اللّه بن سبأ، فلما بلغ عليا ذلك طلب قتله، فهرب منه‏.‏

وطائفة كانت تُفَضِّلُه على أبي بكر وعمر، قال‏:‏ لا يبلغني عن أحد منكم أنه فضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري‏.‏ وقد روى عن علي من نحو ثمانين وجها وأكثر أنه قال على منبر الكوفة‏:‏ خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر‏.‏ وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من رواية رجال هَمْدَان خاصة ـ التي يقول فيها علي‏:‏

ولو كنت بوابًا على باب جنة ** لقلت لهمدان ادخلي بسلام

من رواية سفيان الثوري عن مُنْذِر الثوري وكلاهما من همدان‏.‏ رواه البخاري عن محمد بن كثير‏.‏ قال‏:‏ حدثنا سفيان الثوري حدثنا جامع بن شَدَّاد، حدثنا أبو يعلى منذر الثوري، عن محمد ابن الحنفية قال‏:‏ قلت لأبي‏:‏ يا أبت، من خير الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فقال‏:‏ يا بني، أو ما تعرف ‏؟‏‏!‏ فقلت‏:‏ لا‏.‏ فقال‏:‏ أبو بكر‏.‏ قلت‏:‏ ثم من ‏؟‏ قال‏:‏ ثم عمر‏.‏

/وهذا يقوله لابنه، الذي لا يتقيه، ولخاصته، ويتقدم بعقوبة من يفضله عليهما‏.‏ والمتواضع لا يجوز له أن يتقدم بعقوبة كل من قال الحق، ولا يجوز أن يسميه مفتريًا‏.‏ ورأس الفضائل العلم، وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة وغيرهم، فإنه أعلم منه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ‏}[‏الزمر‏:‏ 9‏]‏، والدلائل على ذلك كثيرة، وكلام العلماء في ذلك كثير‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏أقضاكم عليّ‏)، لم يروه أحد من أهل الكتب الستة، ولا أهل المسانيد المشهورة، لا أحمد، ولا غيره بإسناد صحيح ولا ضعيف، وإنما يروى من طريق من هو معروف بالكذب، ولكن قال عمر بن الخطاب‏:‏ أبيٌّ أقرؤنا، وعليٌّ أقضانا، وهذا قاله بعد موت أبي بكر‏.‏

والذي في الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت‏)‏ وليس فيه ذكر عليّ، والحديث الذي فيه ذكر علي ـ مع ضعفه ـ فيه أن معاذ بن جبل أعلم بالحلال والحرام، وزيد بن ثابت أعلم بالفرائض‏.‏ فلو قدر صحة هذا الحديث، لكان الأعلم بالحلال والحرام أوسع علمًا من الأعلم بالقضاء؛ لأن الذي يختص بالقضاء إنما هو فصل الخصومات في الظاهر مع جواز أن يكون الباطن بخلافه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو ما أسمع‏.‏ فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار‏)‏ فقد أخبر سيد القضاة أن قضاءه /لا يحل الحرام، بل يحرم على المسلم أن يأخذ بقضائه ما قضى له به من حق الغير‏.‏ وعلم الحلال والحرام يتناول الظاهر والباطن‏:‏ فكان الأعلم به أعلم بالدين‏.‏

وأيضًا، فالقضاء نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ الحكم عند تَجَاحُد الخَصْمَين، مثل‏:‏ أن يدعي أحدهما أمرًا يكذبه الآخر فيه فيحكم فيه بالبينة ونحوها‏.‏

والثاني‏:‏ ما لا يتجاحدان فيه ـ يتصادقان ـ ولكن لا يعلمان ما يستحق كل منهما كتنازعهما في قسم فريضة، أو فيما يجب لكل من الزوجين على الآخر، أو فيما يستحقه كل من الشريكين، ونحو ذلك‏.‏

فهذا الباب هو من أبواب الحلال والحرام، فإذا أفتاهما من يرضيان بقوله كفاهما ذلك، ولم يحتاجا إلى من يحكم بينهما، وإنما يحتاجان إلى حاكم عند التجاحد، وذاك إنما يكون في الأغلب مع الفجور، وقد يكون مع النسيان؛ فأما الحلال والحرام فيحتاج إليه كل أحد من بَرٍّ وفاجر، وما يختص بالقضاء لا يحتاج إليه إلا قليل من الأبرار‏.‏

ولهذا لما أمر أبو بكر عمر أن يقضي بين الناس، مكث حَوْلًا لم يتحاكم اثنان في شيء، ولو عدَّ مجموع ما قضى النبي صلى الله عليه وسلم من هذا النوع لم يبلغ عشر حكومات، فأين هذا من كلامه في الحلال والحرام الذي هو قوَام دين الإسلام يحتاج إليه الخاص والعام‏.‏

/وقوله‏:‏ ‏(‏أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل‏)‏ أقرب إلى الصحة باتفاق علماء الحديث من قوله‏:‏ ‏(‏أقضاكم علي‏)‏ لو كان مما يحتج به، وإذا كان ذلك أصح إسنادًا، وأظْهر دلالة، علم أن المحتج بذلك ـ على أن عليا أعلم من معاذ بن جبل ـ جاهل ـ فكيف من أبي بكر وعمر اللذين هما أعلم من معاذ بن جبل‏؟‏‏!‏ مع أن الحديث الذي فيه ذكر معاذ وزيد يضعفه بعضهم، ويحسنه بعضهم‏.‏ وأما الحديث الذي فيه ذكر على فإنه ضعيف‏.‏

وأما حديث‏:‏ ‏(‏أنا مدينة العلم‏)‏ فأضعف وأوهى؛ ولهذا إنما يعد في الموضوعات المكذوبات، وإن كان الترمذي قد رواه؛ ولهذا ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وبين أنه موضوع من سائر طرقه‏.‏

والكذب يعرف من نفس مَتْنِه، لا يحتاج إلى النظر في إسناده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان ‏(‏مدينة العلم‏)‏ لم يكن لهذه المدينة إلا باب واحد، ولا يجوز أن يكون المبلغ عنه واحدًا، بل يجب أن يكون المبلغ عنه أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب، ورواية الواحد لا تفيد العلم إلا مع قرائن، وتلك القرائن إما أن تكون منتفية؛ وإما أن تكون خفية عن كثير من الناس، أو أكثرهم فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنة المتواترة، بخلاف النقل المتواتر، الذي يحصل به العلم للخاص والعام‏.‏

وهذا الحديث إنما افتراه زنديق، أو جاهل، ظنه مدحًا، وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في علم الدين ـ إذا لم يبلغه إلا واحد من الصحابة‏.‏

/ ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر، فإن جميع مدائن المسلمين بلغهم العلم عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من غير طريق على ـ رضى الله عنه ـ أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهم ظاهر، وكذلك أهل الشام والبصرة، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن على إلا شيئًا قليلًا، وإنما غالب علمه كان في أهل الكوفة، ومع هذا فقد كانوا تعلموا القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان، فضلا عن خلافة علي‏.‏

وكان أفقه أهل المدينة، وأعلمهم، تعلموا الدين في خلافة عمر، وقبل ذلك لم يتعلم أحد منهم من علي شيئًا إلا من تعلم منه لما كان باليمن، كما تعلموا ـ حينئذ ـ من معاذ ابن جبل‏.‏ وكان مقام معاذ بن جبل في أهل اليمن وتعليمه لهم أكثر من مقام علي وتعليمه؛ ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ أكثر مما رووه عن على، وشُرَيْح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ‏.‏

ولما قدم علي الكوفة كان شريح قاضيا فيها قبل ذلك‏.‏ وعليّ وجد على القضاء في خلافته شريحًا وعبيدة السلماني، وكلاهما تفقه على غيره‏.‏

فإذا كان علم الإسلام انتشر في مدائن الإسلام بالحجاز، والشام، واليمن، والعراق، وخراسان، ومصر، والمغرب قبل أن يقدم إلى الكوفه، ولما صار إلى الكوفة عامة ما بلغة من العلم بلغه غيره من الصحابة، ولم يختص على بتبليغ شيء من العلم إلا وقد اختص غيره بما هو أكثر منه‏.‏

/ فالتبليغ العام الحاصل بالولاية، حصل لأبي بكر وعمر وعثمان منه أكثر مما حصل لعلي‏.‏

وأما الخاص فابن عباس كان أكثر فتيًا منه، وأبو هريرة أكثر رواية منه، وعلي أعلم منهما، كما أن أبا بكر وعمر وعثمان أعلم منهما ـ أيضًا ـ فإن الخلفاء الراشدين قاموا من تبليغ العلم العام بما كان الناس أحوج إليه مما بلغه من بلغ بعض العلم الخاص‏.‏

وأما ما يرويه أهل الكذب والجهل من اختصاص علي بعلم انفرد به عن الصحابة فكله باطل، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قيل له‏:‏ هل عندكم من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شيء‏؟‏ فقال‏:‏ لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتية اللّه عبدًا في كتابه وما في هذه الصحيفة وكان فيها عقول الديات ـ أي‏:‏ أسنان الإبل التي تجب فيه الدية ـ وفيها فكاك الأسير، وفيها‏:‏ لا يقتل مسلم بكافر‏.‏

وفي لفظ‏:‏ هل عهد إليكم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شيئًا لم يعهده إلى الناس‏؟‏ فنفى ذلك‏.‏ إلى غير ذلك من الأحاديث عنه التي تدل على أن كل من ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه بعلم فقد كذب عليه‏.‏

وما يقوله بعض الجهال أنه شرب من غسل النبي صلى الله عليه وسلم فأورثه علم الأولين والآخرين، من أقبح الكذب البارد، فإن شرب غسل الميت ليس بمشروع، ولا شرب علي شيئًا، ولو كان هذا يوجب العلم لشركه في ذلك كل من حضر‏.‏ ولم يرو هذا أحد من أهل العلم‏.‏

/وكذلك ما يذكر‏:‏ أنه كان عنده علم باطن امتاز به عن أبي بكر، وعمر، وغيرهما، فهذا من مقالات الملاحدة الباطنية، ونحوهم، الذين هم أكفر منهم، بل فيهم من الكفر ما ليس في اليهود، والنصارى، كالذين يعتقدون إلهيته، ونبوته، وأنه كان أعلم من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان معلمًا للنبي صلى الله عليه وسلم في الباطن، ونحو هذه المقالات، التي إنما يقولها الغلاة في الكفر والإلحاد‏.‏ واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.‏

/ سُئلَ شَيخُ الإسْلام ـ رحمهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ عن رجل متمسك بالسنة ويحصل له ريبة في تفضيل الثلاثة على عليّ، لقوله ـ عليه السلام ـ له‏:‏ ‏(‏أنت مني وأنا منك‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏أنت مني بمنزلة هارون من موسى‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏لأعطين الراية رجلا يحب اللّه ورسوله‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ إلخ ‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏من كنت مولاه فعليّ مولاه‏)‏، ‏(‏اللهم وال من والاه وعاد من عاداه‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ إلخ‏)‏ ، وقوله‏:‏ ‏(‏أذكِّركُم اللّه في أهل بيتي‏)‏، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 61‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ‏}‏ الآية‏[‏الإنسان‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ‏}‏ الآية ‏[‏الحج‏:‏ 19‏]‏‏.‏

فَأجَــابَ‏:‏

يجب أن يعلم أولًا‏:‏ أن التفضيل إذا ثبت للفاضل من الخصائص ما لا يوجد مثله للمفضول، فإذا استويا وانفرد أحدهما بخصائص كان أفضل، وأما الأمور المشتركة فلا توجب تفضيله على غيره‏.‏

وإذا كان كذلك، ففضائل الصديق ـ رضي اللّه عنه ـ التي تميز بها لم يشركه /فيها غيره، وفضائل عليّ مشتركة، وذلك أن قوله‏:‏ ‏(‏لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏لا يبقى في المسجد خَوْخَة إلا سُدَّتْ، إلا خَوْخَة أبي بكر‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إن أمَنَّ الناس على في صحبته وذات يده أبو بكر‏)‏ وهذا فيه ثلاث خصائص لم يشركه فيها أحد‏:‏

الأولى‏:‏ أنه ليس لأحد منهم عليه في صحبته وماله مثل ما لأبي بكر‏.‏

الثانية‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏لا يبقى في المسجد‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ إلخ‏)‏، وهذا تخصيص له دون سائرهم، وأراد بعض الكذابين أن يروي لعلي مثل ذلك، والصحيح لا يعارضه الموضوع‏.‏

الثالثة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏لو كنت متخذًا خليلًا‏)‏ نص في أنه لا أحد من البشر استحق الخُلَّة لو أمكنت إلا هو، ولو كان غيره أفضل منه لكان أحق بها لو تقع‏.‏

وكذلك أمره له أن يصلي بالناس مدة مرضه من الخصائص، وكذلك تأميره له في المدينة على الحج؛ ليقيم السنة ويمحق آثار الجاهلية فإنه من خصائصه، وكذلك قوله في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏ادع أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابًا‏)‏ وأمثال هذه الأحاديث كثيرة تبين أنه لم يكن في الصحابة من يساويه‏.‏ وأما قوله‏:‏‏)‏أنت مني وأنا منك‏)‏، فقد قالها لغيره وقالها لسلمان والأشعريين‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏56‏]‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏من غَشَّنَا فليس منا، ومن حمل علينا السلاح فليس منا‏)‏، يقتضي أن من يترك /هذه الكبائر يكون منا، فكل مؤمن كامل الإيمان فهو من النبي والنبي منه، وقوله في ابنة حمزة‏:‏ ‏(‏أنت مني وأنا منك‏)‏ وقوله لزيد‏:‏ ‏(‏أنت أخونا ومولانا‏)‏ لا يختص بزيد، بل كل مواليه كذلك‏.‏

وكذلك قوله‏:‏‏(‏ لأعطين الراية‏.‏‏.‏‏.‏إلخ ‏)‏‏.‏هو أصح حديث يروى في فضله، وزاد فيه بعض الكذابين‏:‏ أنه أخذها أبو بكر وعمر فهربا، وفي الصحيح أن عمر قال‏:‏ ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، فهذا الحديث رد على الناصبة الواقعين في على، وليس هذا من خصائصه، بل كل مؤمن كامل الإيمان يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏54‏]‏، وهم الذين قاتلوا أهل الردة وإمامهم أبو بكر، وفي الصحيح‏:‏ أنه سأله‏:‏ أي الناس أحب إليك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏عائشة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فمن الرجال‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أبوها‏)‏، وهذا من خصائصه‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏أما تَرْضَى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى‏)‏ قاله في غزوة تبوك لما استخلفه على المدينة، فقيل‏:‏ استخلفه لبغضه إياه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا استخلف رجلًًًًا من أمته، وكان بالمدينة رجال من المؤمنين القادرين، وفي غزوة تبوك لم يأذن لأحد فلم يتخلف أحد إلا لعذر، أو عاص‏.‏ فكان ذلك الاستخلاف ضعيفًًًًا فطعن به المنافقون بهذا السبب، فبين له‏:‏ أني لم أستخلفك لنقص عندي، فإن موسى استخلف هارون وهو شريكه في الرسالة، أفما ترضى بذلك‏؟‏ ومعلوم أنه استخلف غيره قبله وكانوا منه بهذه /المنزلة، فلم يكن هذا من خصائصه، ولو كان هذا الاستخلاف أفضل من غيره لم يخف على عليٍّ ولحقه يبكي‏.‏

ومما بين ذلك‏:‏ أنه بعد هذا أمَّر عليه أبا بكر سنة تسع، وكونه بعثه لنبذ العهود ليس من خصائصه؛ لأن العادة لما جرت أنه لا ينبذ العهود ولا يعقدها إلا رجل من أهل بيته، فأي شخص من عترته نبذها حصل المقصود، ولكنه أفضل بني هاشم بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فكان أحق الناس بالتقدم من سائرهم، فلما أمَّر أبا بكر بعد قوله‏:‏ ‏(‏أما ترضى‏.‏‏.‏‏.‏إلخ‏)‏، علمنا أنه لا دلالة فيه على أنه بمنزلة هارون من كل وجه، وإنما شبهه به في الاستخلاف خاصة، وذلك ليس من خصائصه‏.‏

وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بإبراهيم وعيسى، وشبه عمر بنوح وموسى ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لما أشارا في الأسرى، وهذا أعظم من تشبيه على بهارون، ولم يوجب ذلك أن يكونا بمنزلة أولئك الرسل، وتشبيه الشىء بالشىء ـ لمشابهته في بعض الوجوه ـ كثير في الكتاب والسنة وكلام العرب‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏)‏ فهذا ليس في شىء من الأمهات؛ إلا في الترمذي، وليس فيه إلا‏:‏ ‏(‏من كنت مولاه فعلى مولاه‏)‏، وأما الزيادة فليست في الحديث‏.‏ وسئل عنها الإمام أحمد فقال‏:‏ زيادة كوفية، ولا ريب أنها كذب لوجوه‏:‏

/أحدها‏:‏ أن الحق لا يدور مع مُعَيَّن إلا النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لو كان كذلك لوجب اتباعه في كل ما قال، ومعلوم أن عليًا ينازعه الصحابة وأتباعه في مسائل وجد فيها النص يوافق من نازعه؛ كالمتوفى عنها زوجها وهي حامل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ اللهم انصر من نصره‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ‏)‏، خلاف الواقع، قاتل معه أقوام يوم ‏]‏صِفِّين‏]‏ فما انتصروا، وأقوام لم يقاتلوا فما خذلوا [‏كسعد‏] ‏الذي فتح العراق لم يقاتل معه، وكذلك أصحاب معاوية، وبني أمية الذين قاتلوه، فتحوا كثيرًا من بلاد الكفار ونصرهم اللّه‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏اللّهم وال من والاه وعاد من عاداه‏)‏ مخالف لأصل الإسلام ؛ فإن القرآن قد بين أن المؤمنين إخوة مع قتالهم وبغي بعضهم على بعض‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏من كنت مولاه فعلي مولاه ‏)‏ فمن أهل الحديث من طعن فيه كالبخاري وغيره، ومنهم من حسنه، فإن كان قاله فلم يرد به ولاية مختصًا بها، بل ولاية مشتركة، وهي ولاية الإيمان التي للمؤمنين، والموالاة ضد المعاداة، ولا ريب أنه يجب موالاة المؤمنين على سواهم، ففيه رد على النواصب‏.‏

وحديث‏(‏التصدق بالخاتم في الصلاة‏)‏ كذب باتفاق أهل المعرفة، وذلك مبين بوجوه كثيرة مبسوطة في غير هذا الموضع‏.‏

وأما قوله‏:‏ يوم غَدِيرَخُمٍّ‏:‏ ‏(‏أذكركم اللّه في أهل بيتي‏)‏ ، فليس من الخصائص /بل هو مساو لجميع أهل البيت، وأبعد الناس عن هذه الوصية الرافضة، فإنهم يعادون العباس وذريته؛ بل يعادون جمهور أهل البيت ويعينون الكفار عليهم ‏.‏

وأما آية [‏المباهلة‏]‏ فليست من الخصائص، بل دعا عليًا وفاطمة وابنيهما، ولم يكن ذلك لأنهم أفضل الأمة، بل لأنهم أخص أهل بيته، كما في حديث الكساء‏:‏ ‏(‏اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرِّجْسَ وطهرهم تطهيرًا‏)‏‏.‏

فدعا لهم وخصهم‏.‏ و‏[‏الأنفس‏] يعبر عنها بالنوع الواحد، كقوله‏:‏ ‏{‏ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏12‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏54‏]‏ أي‏:‏ يقتل بعضكم بعضًا، وقوله‏:‏ ‏(‏أنت مِنِّي وأنا منك‏)‏ ليس المراد أنه من ذاته، ولاريب أنه أعظم الناس قدرًا من الأقارب، فله من مزية القرابة والإيمان ما لا يوجد لبقية القرابة فدخل في ذلك المباهلة، وذلك لا يمنع أن يكون في غير الأقارب من هو أفضل منه؛ لأن المباهلة وقعت في الأقارب، وقوله‏:‏ ‏{‏هَذَانِ خَصْمَانِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏[‏الحج‏:‏19‏]‏، فهي مشتركة بين علي، وحمزة، وعبيدة، بل وسائر البدريين يشاركونهم فيها‏.‏

وأما سورة‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ‏}‏ ‏[‏سورة الإنسان‏]‏ فمن قال‏:‏ إنها نزلت فيه وفي فاطمة وابنيهما فهذا كذب؛ لأنها مكية والحسن والحسين إنما ولدا في المدينة، وبتقدير صحته فليس فيه أنه من أطعم مسكينًًًًا ويتيما وأسيرًا أفضل الصحابة، بل الآية عامة مشتركة فيمن فعل هذا، وتدل على استحقاقه للثواب على هذا العمل، مع أن غيره من الأعمال من الإيمان باللّه والصلاة في وقتها والجهاد أفضل منه‏.‏

وَسُئِلَ عمن يقول‏:‏

لا أفضل على عليٍّ غيره، وإذا ذكر‏[‏علي]‏ صلى عليه مفردًا، هل يجوز له أن يخصه بالصلاة دون غيره‏؟‏

فَأَجَــابَ‏:‏

ليس لأحد أن يخص أحدًا بالصلاة عليه دون النبي صلى الله عليه وسلم، لا أبا بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا عليًا، ومن فعل ذلك فهو مبتدع، بل إما أن يصلي عليهم كلهم أو يدع الصلاة عليهم كلهم‏.‏

بل المشروع أن يقول‏:‏ ‏(‏اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد‏)‏‏.‏

ومن قال‏:‏ لا أُفَضِّل عَلَى عَلِيّ غيره فهو مخطئ مخالف للأدلة الشرعية‏.‏

واللّه أعلم‏.‏

/ سُئِلَ عن قول الشيخ أبي محمد عبد اللّه بن أبي زيد في آخر عقيدته‏:‏ وأن خير القرون القرن الذين رأوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏.‏ وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي‏.‏ فما الدليل على تفضيل أبي بكر على عمر‏؟‏ وتفضيل عمر على عثمان، وعثمان على عليّ ‏؟‏ فإذا تبين ذلك، فهل تجب عقوبة من يفضل المفضول على الفاضل أم لا‏؟‏ بينوا لنا ذلك بيانا مبسوطًًًًا مأجورين، إن شاء الله تعالى‏.‏

فَأجَاب‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، أما تفضيل أبي بكر، ثم عمر علَى عثمان وعلي، فهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين المشهورين بالإمامة في العلم والدين، من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، وهو مذهب مالك وأهل المدينة، والليث بن سعد، وأهل مصر، والأوزاعي، وأهل الشام، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سَلَمة، وأمثالهم من أهل العراق‏.‏ وهو مذهب الشافعي وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام الذين لهم لسان صدق في الأمة‏.‏ وحكى مالك إجماع أهل المدينة على ذلك فقال‏:‏ ما أدركتُ أحدًا ممن أقتدى به يشك في تقديم أبي بكر وعمر‏.‏

/وهذا مستفيض عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب‏.‏ وفي صحيح البخاري عن محمد ابن الحنفية؛ أنه قال لأبيه على بن أبي طالب‏:‏ يا أبت مَن خيُر الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ يا بني، أو ما تعرف‏؟‏‏!‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ أبو بكر‏.‏ قلت‏:‏ ثم من‏؟‏ قال‏:‏ عمر‏.‏ ويروى هذا عن علي بن أبي طالب من نحو ثمانين وجها، وأنه كان يقوله على منبر الكوفة؛ بل قال‏:‏ لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حَدَّ المفْتَرِى‏.‏ فمن فضله على أبي بكر وعمر جلد بمقتضى قوله ـ رضي اللّه عنه ـ ثمانين سوطًًًًا‏.‏

وكان سفيان يقول‏:‏ من فضل علياً على أبي بكر، فقد أزْرَى‏ [‏أي‏:‏ حطَّ من شأنهم] ‏بالمهاجرين، وما أرى أنه يصعد له إلى اللّه عمل ـ وهو مقيم على ذلك‏.‏ وفي الترمذي، وغيره روى هذا التفضيل‏:‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين؛ إلا النبيين والمرسلين‏)‏‏.‏ وقد استفاض في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه‏:‏ من حديث أبي سعيد، وابن عباس، وجندب بن عبد اللّه، وابن الزبير، وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لو كنت متخذًًًًا من أهل الأرض خليلًًًًا لاتخذت أبا بكر خليلًًًًا، ولكن صاحبكم خليل اللّه‏)‏ يعني‏:‏ نفسه‏.‏

وفي الصحيح أنه قال على المنبر‏:‏ ‏(‏إن أمنَّ الناس علىَّ في صحبته، وذات يده، أبو بكر، ولو كنت متخذًًًًا من أهل الأرض خليلًًًًا لاتخذت أبا بكر خليلًًًًا، ولكن صاحبكم خليل اللّه‏.‏ ألا لا يبقين في المسجد خوخة إلا سُدَّتْ إلا خَوْخة / أبي بكر‏)‏‏.‏ وهذا صريح في أنه لم يكن عنده من أهل الأرض من يستحق المخالَّة لو كانت ممكنة من المخلوقين إلا أبا بكر‏.‏ فعلم أنه لم يكن عنده أفضل منه، ولا أحب إليه منه، وكذلك في الصحيح أنه قال عمرو بن العاص‏:‏ أي الناس أحب إليك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏عائشة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فمن الرجال‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أبوها‏)‏‏.‏

وكذلك في الصحيح أنه قال لعائشة‏:‏ ‏(‏ادعى لي أباك وأخاك، حتى أكتب لأبي بكر كتابًا لا يختلف عليه الناس من بعدي، ثم قال‏:‏ يَأْبَي اللّه والمؤمنون إلا أبا بكر‏)‏، وفي الصحيح عنه أن امرأة قالت‏:‏ يا رسول اللّه، أرأيت إن جئتُ فلم أجدك ـ كأنها تعني الموت ـ قال‏:‏ ‏(‏فَأْتى أبا بكر‏)‏‏.‏ وفي السنن عنه أنه قال‏:‏‏(‏اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر‏)‏‏.‏ وفي الصحيح عنه أنه كان في سفر فقال‏:‏ ‏(‏إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا‏)‏‏.‏ وفي السنن عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏رأيت كأني وضعت في كفة والأمة في كفة، فَرَجَحتُ بالأمة، ثم وضع أبو بكر في كفة والأمة في كفة، فرجح أبو بكر، ثم وضع عمر في كفة والأمة في كفة، فرجح عمر‏)‏‏.‏

وفي الصحيح أنه كان بين أبي بكر وعمر كلام، فطلب أبو بكر من عمر أن يستغفر له فلم يفعل‏.‏ فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏اجلس يا أبا بكر، يغفر اللّه لك‏)‏ وندم عمر، فجاء إلى منزل أبي بكر فلم يجده، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، إني جئت إليكم، فقلت‏:‏ إني رسول اللّه، فقلتم‏:‏ كذبت، وقال أبو بكر‏:‏ صدقت‏.‏ فهل أنتم تاركو لي صاحبي‏؟‏ فهل أنتم تاركو لي صاحبي‏؟‏ فهل أنتم تاركو لي /صاحبي‏؟‏‏)‏ فما أوذي بعدها‏.‏ وقد تواتر في الصحيح والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرض قال‏:‏ ‏(‏مروا أبا بكر فليصل بالناس‏)‏ مرتين، أو ثلاثًًًًا، حتى قال‏:‏ ‏(‏إنكن لأنتن صواحب يوسف‏!‏ مروا أبا بكر أن يصلي بالناس‏)‏‏.‏

فهذا التخصيص، والتكرير، والتوكيد ـ في تقديمه في الإمامة على سائر الصحابة مع حضور عمر وعثمان وعلى وغيرهم ـ مما بين للأمة تقدمه عنده صلى الله عليه وسلم على غيره‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ أن جنازة عمر لما وضعت جاء على بن أبي طالب يتخلل الصفوف، ثم قال‏:‏ لأرجو أن يجعلك اللّه مع صاحبيك، فإني كثيرًا ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر‏)‏‏.‏ فهذا يبين ملازمتهما للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ في مدخله، ومخرجه، وذهابه‏.‏

ولذلك قال مالك للرشيد‏:‏ لما قال له‏:‏ يا أبا عبد اللّه، أخبرني عن منزلة أبي بكر، وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد وفاته، فقال‏:‏ شفيتني يا مالك‏.‏ وهذا يبين أنه كان لهما من اختصاصهما بصحبته، ومؤازرتهما له على أمره، ومباطنتهما، مما يعلمه بالاضطرار كل من كان عالمًًًًا بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأقواله، وأفعاله، وسيرته مع أصحابه‏.‏

ولهذا لم يتنازع في هذا أحد من أهل العلم بسيرته وسنته وأخلاقه، وإنما /ينفي هذا أو يقف فيه من لا يكون عالمًا بحقيقة أمور النبي صلى الله عليه وسلم ـ وإن كان له نصيب من كلام أو فقه أو حساب أو غير ذلك ـ أو من يكون قد سمع أحاديث مكذوبة تناقض هذه الأمور المعلومة بالاضطرار عند الخاصة من أهل العلم، فتوقف في الأمر، أو رجح غير أبي بكر‏.‏

وهذا كسائر الأمور المعلومة بالاضطرار عند أهل العلم بسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ وإن كان غيرهم يشك فيها، أو ينفيها، كالأحاديث المتواترة عندهم في شفاعته، وحوضه، وخروج أهل الكبائر من النار، والأحاديث المتواترة عندهم‏:‏ في الصفات، والقدر، والعلو، والرؤية، وغير ذلك من الأصول التي اتفق عليها أهل العلم بسنته، كما تواترت عندهم عنه، وإن كان غيرهم لا يعلم ذلك، كما تواتر عند الخاصة ـ من أهل العلم عنه ـ الحكم بالشُّفْعَة، وتحليف المدعى عليه، ورجم الزاني المحصن، واعتبار النِّصَاب في السرقة، وأمثال ذلك من الأحكام التي ينازعهم فيها بعض أهل البدع‏.‏

ولهذا كان أئمة الإسلام متفقين على تبديع من خالف في مثل هذه الأصول، بخلاف من نازع في مسائل الاجتهاد التي لم تبلغ هذا المبلغ في تواتر السنن عنه، كالتنازع بينهم في الحكم بشاهد ويمين، وفي القَسامة، والقُرْعَة، وغير ذلك من الأمور التي لم تبلغ هذا المبلغ‏.‏

وأما عثمان، وعلىُّ، فهذه دون تلك، فإن هذه كان قد حصل فيها نزاع /فإن سفيان الثوري وطائفة من أهل الكوفة، رجحوا عليًًًًا على عثمان، ثم رجع عن ذلك سفيان وغيره‏.‏ وبعض أهل المدينة توقف في عثمان وعلى، وهي إحدى الروايتين عن مالك، لكن الرواية الأخرى عنه تقديم عثمان على عليٍّ، كما هو مذهب سائر الأئمة؛ كالشافعي، وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد بن حنبل، وأصحابه، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام‏.‏

حتى إن هؤلاء تنازعوا فيمن يقدم عليًًًًا على عثمان، هل يعد من أهل البدعة‏؟‏ على قولين‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏.‏ وقد قال أيوب السخْتيَانِيّ، وأحمد بن حنبل، والدارقطني‏:‏ من قَدَّمَ عليًًًًا على عثمان فقد أزْرَى بالمهاجرين والأنصار‏.‏ وأيوب هذا إمام أهل السنة، وإمام أهل البصرة، روى عنه مالك في الموطأ، وكان لا يروى عن أهل العراق ‏.‏ وروى أنه سئل عن الرواية عنه، فقال‏:‏ ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه‏.‏ وذكره أبو حنيفة فقال‏:‏ لقد رأيته قعد مقعدًا في مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ما ذكرته إلا اقشعر جسمي‏.‏

والحجة لهذا ما أخرجاه في الصحيحين وغيرهما، عن ابن عمر؛ أنه قال‏:‏ كنا نفاضل على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ كنا نقول أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان‏.‏ وفي بعض الطرق يبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره‏.‏

وأيضًا، فقد ثبت بالنقل الصحيح ـ في صحيح البخاري وغير البخاري ـ أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما جعل الخلافة شوري في ستة أنفس؛عثمان، وعلى، /وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف ـ ولم يدخل معهم سعيد بن زيد وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وكان من بني عدي ـ قبيلة عمرـ وقال عن ابنه عبد اللّه‏:‏ يحضركم عبد اللّه وليس له في الأمر شىء ووصى أن يصلي صهيب بعد موته، حتى يتفقوا على واحد‏.‏

فلما توفى عمر واجتمعوا عند المنبر، قال طلحة‏:‏ ما كان لي من هذا الأمر فهو لعثمان‏.‏ وقال الزبير‏:‏ ما كان لي من هذا الأمر فهو لعلي‏.‏ وقال سعد‏:‏ ما كان لي من هذا الأمر فهو لعبد الرحمن بن عوف‏.‏ فخرج ثلاثة وبقى ثلاثة‏.‏ فاجتمعوا، فقال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ يخرج منا واحد، ويولي واحدًا، فسكت عثمان، وعلى‏.‏ فقال عبد الرحمن‏:‏ أنا أخرج‏.‏ وروى أنه قال‏:‏ عليه عهد اللّه وميثاقه أن يولي أفضلهما ‏.‏ ثم قام عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام بلياليها يشاور المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان، ويشاور أمهات المؤمنين، ويشاور أمراء الأمصارـ فإنهم كانوا في المدينة حجوا مع عمر وشهدوا موته ـ حتى قال عبد الرحمن بن عوف‏:‏ إن لي ثلاثًًًًا ما اغتمضت بنوم‏.‏ فلما كان اليوم الثالث قال لعثمان‏:‏ عليك عهد اللّه وميثاقه، إن وليتك لتعدلن، ولئن وليت عليًًًًا لتسمعن ولتطيعن‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ وقال لعلي‏:‏ عليك عهد اللّه وميثاقه إن وليتك لتعدلن، ولئن وليت عثمان لتسمعن ولتطيعن‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ إني رأيت الناس لا يعدلون بعثمان، فبايعه على، وعبد الرحمن، وسائر المسلمين؛ بيعة رضًا، واختيار من غير رغبة أعطاهم إياها، ولا رهبة خوفهم بها‏.‏

/وهذا إجماع منهم على تقديم عثمان على علي‏.‏ فلهذا قال أيوب، وأحمد بن حنبل، والدارقطني‏:‏ من قدم عليًًًًا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، فإنه وإن لم يكن عثمان أحق بالتقديم، وقد قدموه، كانوا إما جاهلين بفضله، وإما ظالمين بتقديم المفضول من غير ترجيح ديني‏.‏ ومن نسبهم إلى الجهل والظلم فقد أزرى بهم‏.‏

ولو زعم زاعم أنهم قدموا عثمان ِلضِغْنٍ كان في نفس بعضهم على عليٍّ، وأن أهل الضغن كانوا ذوي شوكة، ونحو ذلك مما يقوله أهل الأهواء، فقد نسبهم إلى العجز عن القيام بالحق، وظهور أهل الباطل منهم على أهل الحق‏.‏ هذا وهم في أعز ما كانوا، وأقوي ما كانوا، فإنه حين مات عمر كان الإسلام من القوة، والعز، والظهور، والاجتماع والائتلاف فيما لم يصيروا في مثله قط‏.‏وكان عمر أعَزَّ أهل الإيمان، وأذل أهل الكفر والنفاق‏:‏ إلى حد بلغ في القوة والظهور مبلغًًًًا، لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأمور‏.‏

فمن جعلهم في مثل هذه الحال جاهلين أو ظالمين أو عاجزين عن الحق فقد أزرى بهم، وجعل خير أمة أخرجت للناس على خلاف ما شهد اللّه به لهم‏.‏

وهذا هو أصل مذهب الرافضة، فإن الذي ابتدع الرفض كان يهوديًا أظهر الإسلام نفاقًًًًا، ودس إلى الجهال دسائس يقدح بها في أصل الإيمان؛ ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة‏.‏ فإنه يكون الرجل واقفًًًًا، ثم يصير / مُفَضِّلًًًًا، ثم يصير سَبَّابًا، ثم يصير غاليا، ثم يصير جاحدًًًًا مُعَطِّلًًًًا؛ ولهذا انضمت إلى الرافضة أئمة الزنادقة من الإسماعيلية والنصيرية، وأنواعهم من القرامطة والباطنية، والدرزية، وأمثالهم من طوائف الزندقة، والنفاق‏.‏

فإن القَدْح في خير القرون ـ الذين صحبوا الرسول ـ قَدْحٌ في الرسول ـ عليه السلام ـ كما قال مالك وغيره من أئمة العلم‏:‏ هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل‏:‏ رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلًًًًا صالحًًًًا لكان أصحابه صالحين‏.‏

وأيضًا، فهؤلاء الذين نقلوا القرآن، والإسلام، وشرائع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين نقلوا فضائل علي وغيره فالقدح فيهم يوجب ألا يوثق بما نقلوه من الدين، وحينئذ فلا تثبت فضيلة، لا لعلي، ولا لغيره‏.‏ والرافضة جهال ليس لهم عقل، ولا نقل ولا دين، ولا دنيا منصورة‏.‏ فإنه لو طلب منهم الناصبي ـ الذي يبغض عليًا، ويعتقد فسقه أو كفره‏:‏ كالخوارج وغيرهم ـ أن يثبتوا إيمان علي؛ وفضله‏:‏ لم يقدروا على ذلك، بل تغلبهم الخوارج‏.‏ فإن فضائل على إنما نقلها الصحابة الذين تقدح فيهم الرافضة‏.‏ فلا يتيقن له فضيلة معلومة على أصلهم، فإذا طعنوا في بعض الخلفاء ـ بما يفترونه عليهم من أنهم طلبوا الرياسة، وقاتلوا على ذلك ـ كان طعن الخوارج في علي بمثل ذلك وأضعافه أقرب من دعوى ذلك على من أطيع بلا قتال، ولكن الرافضة جهال متبعون الزنادقة‏.‏

/والقرآن قد أثنى على الصحابة في غير موضع، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏100‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏10‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏29‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏18‏]‏‏.‏ وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة‏)‏، وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه‏)‏، وقد ثبت عنه في الصحيح من غير وجه أنه قال‏:‏ ‏(‏خيْرُ القرون القرن الذي بُعِثْتُ فيهم، ثم الذين يَلُونَهُمْ، ثم الذين يَلُونَهُم‏)‏‏.‏ وهذه الأحاديث مستفيضة، بل متواترة في فضائل الصحابة، والثناء عليهم، وتفضيل قَرْنِهم على من بعدهم من القرون‏.‏ فالَقدْحُ فيهم قدح في القرآن، والسنة؛ ولهذا تكلم الناس في تكفير الرافضة بما قد بسطناه في غير هذا الموضع‏.‏ واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.‏

/ وَسُئلَ ـ رضي اللّهُ عَنْهُ ـ عما شَجَرَ بين الصحابة ـ علي، ومعاوية، وطلحة، وعائشة ـ هل يطالبون به أم لا‏؟‏

فَأَجَاب‏:‏

قد ثبت بالنصوص الصحيحة أن عثمان وعليًا، وطلحة، والزبير، وعائشة، من أهل الجنة، بل قد ثبت في الصحيح أنه لا يَدْخُل النارَ أحَدٌ بايع تحت الشجرة‏.‏

وأبو موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، هم من الصحابة، ولهم فضائل ومحاسن‏.‏

وما يحكى عنهم كثير منه كَذِب، والصدق منه إن كانوا فيه مجتهدين، فالمجتهد إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر، وخطؤه يغفر له‏.‏

/وإن قُدِّرَ أن لهم ذنوبًًًًا، فالذنوب لا توجب دخول النار مطلقًًًًا، إلا إذا انتفت الأسباب المانعة من ذلك وهي عشرة‏:‏

منها التوبة، ومنها الاستغفار، ومنها الحسنات الماحية، ومنها المصائب المكفرة، ومنها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها شفاعة غيره، ومنها دعاء المؤمنين، ومنها ما يهدي للميت من الثواب والصدقة والعتق، ومنها فتنة القبر، ومنها أهوال القيامة‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏خَيْر القرونِ القرنُ الذي بُعِثْتُ فيه، ثم الذين يَلُونَهُم، ثم الذين يلونهم‏)‏‏.‏

وحينئذ، فمن جزم في واحد من هؤلاء بأن له ذنبًا يدخل به النار قطعًا، فهو كاذب مفتر‏.‏ فإنه لو قال ما لا علم له به لكان مبطلًًًًا، فكيف إذا قال ما دلت الدلائل الكثيرة على نقيضه‏؟‏ فمن تكلم فيما شجر بينهم ـ وقد نهى اللّه عنه؛ من ذمهم أو التعصب لبعضهم بالباطل ـ فهو ظالم معتد‏.‏

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏تَمْرُقُ مارقة على حين فُرْقَة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق‏)‏، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال عن الحسن‏:‏ ‏(‏إن ابني هذا سيد، وسيصلح اللّه به بين فئتين عظيمتين من المسلمين‏)‏‏.‏

/وفي الصحيحين عن عمار أنه قال‏:‏ ‏(‏تقتله الفئة الباغية‏)‏، وقد قال تعالى في القرآن‏:‏ ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ ‏.‏

فثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف على أنهم مؤمنون مسلمون، وأن عليَّ بن أبي طالب والذين معه كانوا أولى بالحق من الطائفة المقاتلة له، واللّه أعلم‏.‏

/قال شَيخُ الإِسْلاَم ابن تَيْمِية‏:‏

فائــدة

ومما ينبغي أن يعلم‏:‏ أنه وإن كان المختار الإمساك عما شَجَرَ بين الصحابة، والاستغفار للطائفتين جميعًا وموالاتهم، فليس من الواجب اعتقاد أن كل واحد من العسْكَر لم يكن إلا مجتهدًا متأولًًًًا؛ كالعلماء، بل فيهم المذنب والمسىء، وفيهم المقصر في الاجتهاد لنوع من الهوى، لكن إذا كانت السيئة في حسنات كثيرة كانت مرجوحة مغفورة‏.‏

وأهل السنة تحسن القول فيهم وتترحم عليهم، وتستغفر لهم، لكن لا يعتقدون العِصْمَة من الإقرار على الذنوب، وعلى الخطأ في الاجتهاد، إلا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومَنْ سواه فيجوز عليه الإقرار على الذنب والخطأ، لكن هم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ‏}‏ الآية‏[‏الأحقاف‏:‏16‏]‏‏.‏

وفضائل الأعمال إنما هي بنتائجها وعواقبها لا بصورها‏.‏

/ فصل

في أعداء الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين

الخلفاء الراشدون الأربعة ابتلوا بمعاداة بعض المنتسبين إلى الإسلام من أهل القبلة، ولعنهم وبغضهم وتكفيرهم‏.‏ فأَبو بكر وعمر أبغضتهما الرافضة ولعنتهما دون غيرهم من الطوائف؛ ولهذا قيل للإمام أحمد‏:‏ من الرافضي‏؟‏ قال‏:‏ الذي يسب أبا بكر وعمر‏.‏ وبهذا سميت الرافضة، فإنهم رفضوا زيد بن علي لما تولى الخليفتين أبا بكر وعمر، لبغضهم لهما، فالمبغض لهما هو الرافضي، وقيل‏:‏ إنما سموا رافضة لرفضهم أبا بكر وعمر‏.‏

وأصل الرفض من المنافقين الزنادقة، فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق، وأظهر الغلوَّ في عليّ بِدَعوَى الإمامة والنص عليه، وادعى العصمة له؛ ولهذا لما كان مبدؤه من النفاق قال بعض السلف‏:‏ حب أبي بكر وعمر إيمان، وبغضهما نفاق، وحب بني هاشم إيمان، وبغضهم نفاق‏.‏

وقال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة، أي من شريعة النبي صلى الله عليه وسلم التي أمر بها؛ فإنه قال‏:‏ ‏(‏اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر وعمر‏)‏؛ ولهذا كان معرفة فضلهما على من بعدهما واجبًا لا يجوز التوقف فيه، بخلاف عثمان وعلى، ففي جواز التوقف فيهما قولان‏.‏

وكذلك هل يسوغ الاجتهاد في تفضيل عليّ على عثمان‏؟‏ فيه روايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا يسوغ ذلك، فمن فضل عليًا على عثمان خرج من السنة إلى البدعة؛ لمخالفته لإجماع الصحابة؛ ولهذا قيل‏:‏ من قدَّم عليًا على عثمان، فقد /أزرى بالمهاجرين والأنصار‏.‏ يروي ذلك عن غير واحد؛ منهم أيوب السختياني وأحمد بن حنبل، والدارقطني‏.‏

والثانية‏:‏ لا يُبَدَّع من قدم عليًا ؛ لتقارب حال عثمان وعليّ؛ إذ السنة هي الشريعة وهي ما شرعه اللّه ورسوله من الدين، وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب فلا يجوز اعتقاد ضد ذلك، لكن يجوز ترك المستحب من غير أن يجوز اعتقاد ترك استحبابه؛ ومعرفة استحبابه فرض على الكفاية، لئلا يضيع شىء من الدين‏.‏ فلما قامت الأدلة الشرعية على وجوب اتباع أبي بكر وعمر وتقديمهما، لم يجز ترك ذلك‏.‏

وأما عثمان، فأبغضه أو سبه أو كفره أيضًا ـ مع الرافضة ـ طائفة من الشيعة الزيدية والخوارج‏.‏

وأما علي، فأبغضه وسبه ـ أو كفره ـ الخوارج، وكثير من بني أمية وشيعتهم الذين قاتلوه وسبوه‏.‏ فالخوارج تكفر عثمان وعليًًًًا وسائر أهل الجماعة‏.‏

وأما شيعة علي، الذين شايعوه بعد التحكيم، وشيعة معاوية التي شايعته بعد التحكيم، فكان بينهما من التقابل، وتَلاعُن بعضهم، وتكافر بعضهم ما كان، ولم تكن الشيعة التي كانت مع على يظهر منها تَنَقُّص لأبي بكر وعمر، ولا فيها من يقدم عليًا على أبي بكر وعمر، ولا كان سَبُّ عثمان شائعًا فيها، وإنما كان يتكلم به بعضهم فيرد عليه آخر‏.‏

وكذلك تفضيل عليّ عليه لم يكن مشهورًا فيها، بخلاف سبّ على فإنه كان /شائعًا في أتباع معاوية؛ ولهذا كان علي وأصحابه أولى بالحق وأقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه‏.‏ كما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏تَمْرُقُ مارقة على حين فُرْقَةٍ من المسلمين، فتقتلهم أولى الطائفتين بالحق‏)‏‏.‏ وروى في الصحيح أيضًا‏:‏ ‏(‏أدنى الطائفتين إلى الحق‏)‏‏.‏

وكان سب على ولعنه من البغي الذي استحقت به الطائفة أن يقال لها‏:‏ الطائفة الباغية، كما رواه البخاري في صحيحه، عن خالد الحَذَّاء، عن عِكْرِمة، قال‏:‏ قال لي ابن عباس ولابنه على‏:‏ انطلقا إلى أبي سعيد واسمعا من حديثه‏.‏ فانطلقنا، فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحْتَبَي به، ثم أنشأ يحدثنا، حتى إذا أتى على ذكر بناء المسجد فقال‏:‏ كنا نحمل لَبِنَةً لَبِنة، وَعمَّار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يَنْفُضُ التراب عنه ويقول‏:‏ ‏(‏ويْحَ عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار‏)‏ قال‏:‏ يقول عمار‏:‏ أعوذ باللّه من الفتن‏.‏

ورواه مسلم عن أبي سعيد ـ أيضًا ـ قال‏:‏ أخبرني من هو خير مني ـ أبو قتادة ـ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لعمار ـ حين جعل يحفر الخندق ـ جعل يمسح رأسه ويقول‏:‏ ‏(‏بُؤْسَ ابن سُمَيَّةَ تقتله فئة باغية‏)‏ ‏.‏ ورواه مسلم ـ أيضًا ـ عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏تقتل عمارًا الفئة الباغية‏)‏‏.‏

وهذا ـ أيضًا ـ يدل على صحة إمامة على، ووجوب طاعته، وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار ـ وإن كان متأولا ـ وهو /دليل على أنه لم يكن يجوز قتال علي، وعلى هذا فمقاتله مخطئ، وإن كان متأولًًًًا أو باغ بلا تأويل، وهو أصح القولين لأصحابنا، وهو الحكم بتخطئة من قاتل عليًا وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين‏.‏

وكذلك أنكر يحيى بن مَعِين على الشافعي استدلاله بسيرة على في قتال البغاة المتأولين، قال‏:‏ أيجعل طلحة والزبير بغاة‏؟‏ رد عليه الإمام أحمد فقال‏:‏ ويحك، وأي شىء يسعه أن يضع في هذا المقام‏:‏ يعني إن لم يقتد بسيرة علي في ذلك لم يكن معه سنة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن كلا منهما مصيب، وهذا بناء على قول من يقول‏:‏ كل مجتهد مصيب، و هو قول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية‏.‏

وفيها قول ثالث‏:‏ إن المصيب واحد لا بعينه‏.‏ذكر الأقوال الثلاثة ابن حامد، والقاضي، وغيرهما ‏.‏ وهذا القول يشبه قول المتوقفين في خلافة على من أهل البصرة، وأهل الحديث، وأهل الكلام؛ كالكرامية الذين يقولون‏:‏ كلاهما كان إمامًا، ويجوزون عقد الخلافة لاثنين‏.‏

لكن المنصوص عن أحمد تَبْدِيعُ من توقف في خلافة علي، وقال‏:‏ هو أضل من حمار أهله، وأمر بهُجْرانه، ونهى عن مناكحته، ولم يتردد أحمد ـ ولا أحد من أئمة السنة ـ في أنه ليس غير علي أولى بالحق منه، ولا شكوا في ذلك‏.‏ فتصويب أحدهما لا بعينه تجويز لأن يكون غير على أولى منه بالحق، وهذا لا يقوله إلا مبتدع ضال، فيه نوع من النصب وإن كان متأولًًًًا، لكن قد /يسكت بعضهم عن تخطئة أحد كما يمسكون عن ذمه والطعن عليه إمساكًًًًا عما شجر بينهم، وهذا يشبه قول من يصوب الطائفتين‏.‏

ولم يسترب أئمة السنة، وعلماء الحديث‏:‏ أن عليا أولى بالحق وأقرب إليه، كما دل عليه النص، وإن استرابوا في وصف الطائفة الأخرى بظلم أو بغي، ومن وصفها بالظلم والبغي ـ لما جاء من حديث عمار ـ جعل المجتهد في ذلك من أهل التأويل ‏.‏

يبقى أن يقال‏:‏ فاللّه ـ تعالى ـ قد أمر بقتال الطائفة الباغية فيكون قتالها كان واجبا مع علي، والذين قعدوا عن القتال هم جملة أعيان الصحابة، كسعد، وزيد، وابن عمر، وأسامة، و محمد بن مسلمة، وأبي بَكْرَة، وهم يروون النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في القعود عن القتال في الفتنة، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الساعي، والساعي فيها خير من الموضع‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏يوشك أن يكون خير مال المسلم غَنَم يتبع بها شَعَفَ الجِبال، ومواقع القَطْر، يَفِرُّ بدينه من الفتن‏)‏ وأمره لصاحب السيف عند الفتنة ‏(‏أن يتخذ سيفًًًًا من خشب‏)‏ وبحديث أبي بَكْرَة للأحنف بن قيس، لما أراد أن يذهب ليقاتل مع علي، وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار‏)‏ الحديث، والاحتجاج على ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏لا تَرْجِعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رِقَاب بعض‏)‏‏.‏ وهذا مذهب أهل الحديث وعامة أئمة السنة، حتى قال‏:‏ لا يختلف أصحابنا أن قعود على عن القتال كان أفضل /له لو قعد، وهذا ظاهر من حاله في تلومه في القتال وتبرمه به، ومراجعة الحسن ابنه له في ذلك، وقوله له‏:‏ ألم أنهك يا أبت‏؟‏ وقوله‏:‏ للّه در مقام قامه سعد بن مالك وعبد اللّه بن عمر، إن كان برًا إن أجره لعظيم، وإن كان إثما إن خطأه ليسير‏.‏

وهذا يعارض وجوب طاعته، وبهذا احتجوا على الإمام أحمد في ترك التربيع بخلافته، فإنه لما أظهر ذلك قال له بعضهم‏:‏ إذا قلت‏:‏ كان إمامًا واجب الطاعة ففي ذلك طعن على طلحة والزبير حيث لم يطيعاه بل قاتلاه، فقال لهم أحمد‏:‏ إني لست من حربهم في شىء، يعني‏:‏ أن ما تنازع فيه على وإخوانه لا أدخل بينهم فيه؛ لما بينهم من الاجتهاد والتأويل الذي هم أعلم به مني، وليس ذلك من مسائل العلم التي تعنيني حتى أعرف حقيقة حال كل واحد منهم، وأنا مأمور بالاستغفار لهم، وأن يكون قلبي لهم سليمًا، ومأمور بمحبتهم وموالاتهم، ولهم من السوابق والفضائل ما لا يهدر، ولكن اعتقاد خلافته وإمامته ثابت بالنص وما ثبت بالنص، وجب اتباعه وإن كان بعض الأكابر تركه، كما أن إمامة عثمان وخلافته ثابتة إلى حين انقراض أيامه؛ وإن كان في تخلف بعضهم عن طاعته أو نصرته، وفي مخالفة بعضهم له من التأويل ما فيه، إذ كان أهون ما جرى في خلافة علي‏.‏

وهذا الموضع هو الذي تنازع فيه اجتهاد السلف والخلف، فمن قوم يقولون بوجوب القتال مع علي، كما فعله من قاتل معه، وكما يقول كثير /من أهل الكلام والرأي الذين صنفوا في قتال أهل البغي، حيث أوجبوا القتال معه؛ لوجوب طاعته، ووجوب قتال البغاة، ومبدأ ترتيب ذلك من فقهاء الكوفة واتبعهم آخرون‏.‏

ومن قوم يقولون‏:‏ بل المشروع ترك القتال في الفتنة كما جاءت به النصوص الكثيرة المشهورة، كما فعله من فعله من القاعدين عن القتال لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن ترك القتال في الفتنة خير، وأن الفرار من الفتن باتخاذ غَنَم في رؤوس الجبال خير من القتال فيها وكنهيه لمن نهاه عن القتال فيها، وأمره باتخاذ سيف من خشب، ولكون على لم يذم القاعدين عن القتال معه، بل ربما غبطهم في آخر الأمر‏.‏

ولأجل هذه النصوص لا يختلف أصحابنا أن ترك على القتال كان أفضل؛ لأن النصوص صرحت بأن القاعد فيها خير من القائم، والبعد عنها خير من الوقوع فيها، قالوا‏:‏ ورجحان العمل يظهر برجحان عاقبته، ومن المعلوم أنهم إذا لم يبدؤوه بقتال فلو لم يقاتلهم لم يقع أكثر مما وقع من خروجهم عن طاعته، لكن بالقتال زاد البلاء، وسفكت الدماء، وتنافرت القلوب، وخرجت عليه الخوارج، وحكم الحكمان، حتى سمى منازعه بأمير المؤمنين، فظهر من المفاسد ما لم يكن قبل القتال ولم يحصل به مصلحة راجحة‏.‏

وهذا دليل على أن تركه كان أفضل من فعله، فإن فضائل الأعمال إنما هي /بنتائجها وعواقبها، والقرآن إنما فيه قتال الطائفة الباغية بعد الاقتتال ؛ فإنه قال تعالى‏:‏‏}‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي‏}‏ الآية ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏‏.‏ فلم يأمر بالقتال ابتداء مع واحدة من الطائفتين، لكن أمر بالإصلاح وبقتال الباغية‏.‏

و إن قيل‏:‏ الباغية يعم الابتداء والبغي بعد الاقتتال‏.‏

قيل‏:‏ فليس في الآية أمر لأحدهما بأن تقاتل الأخرى، وإنما هو أمر لسائر المؤمنين بقتال الباغية، والكلام هنا إنما هو في أن فعل القتال من عِلىٍّ لم يكن مأموراً به، بل كان تركه أفضل، وأما إذا قاتل لكون القتال جائزاً، وإن كان تركه أفضل، أو لكونه مجتهداً فيه، وليس بجائز في الباطن، فهنا الكلام في وجوب القتال معه للطائفة الباغية أو الإمساك عن القتال في الفتنة، وهوموضع تعارض الأدلة، واجتهاد العلماء والمجاهدين من المؤمنين، بعد الجزم بأنه وشيعته أولى الطائفتين بالحق، فيمكن وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الأمر بقتال الطائفة الباغية مشروط بالقدرة والإمكان؛ إذ ليس قتالهم بأولى من قتال المشركين والكفار، ومعلوم أن ذلك مشروط بالقدرة والإمكان، فقد تكون المصلحة المشروعة أحياناً هي التألف بالمال، والمسالمة والمعاهدة، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة، والإمام إذا اعتقد وجود القدرة، ولم تكــن حــاصلة كان الترك فــي نفس الأمر أصلح‏.‏

/ومن رأى أن هذا القتال مفسدته أكثر من مصلحته، علم أنه قتال فتنة، فلا تجب طاعة الإمام فيه؛ إذ طاعته إنما تجب فيما لم يعلم المأمور أنه معصية بالنص، فمن علم أن هذا هو قتال الفتنة ـ الذي تركه خير من فعله ـ لم يجب عليه أن يعدل عن نص معين خاص إلى نص عام مطلق في طاعة أولى الأمر، ولا سيما وقد أمر اللّه ـ تعالى ـ عند التنازع بالرد إلى اللّه والرسول‏.‏

ويشهد لذلك أن الرسول أخبر بظلم الأمراء بعده وبغيهم، ونهى عن قتالهم؛ لأن ذلك غير مقدور إذ مفسدته أعظم من مصلحته، كما نهى المسلمون في أول الإسلام عن القتال، كما ذكره بقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 77‏]‏، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مأمورين بالصبر على أذى المشركين والمنافقين والعفو والصفح عنهم حتى يأتي اللّه بأمره‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أنها صارت باغية في أثناء الحال بما ظهر منها من نصب إمام وتسميته أمير المؤمنين، ومن لعن إمام الحق، ونحو ذلك‏.‏ فإن هذا بغي، بخلاف الاقتتال قبل ذلك، فإنه كان قتال فتنة، وهو ـ سبحانه ـ قد ذكر اقتتال الطائفتين من المؤمنين ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏، فلما أمر بالقتال إذا بغت إحدى الطائفتين المقتتلتين، دل على أن الطائفتين المقتتلتين قد تكون إحداهما باغية في حال دون حال‏.‏

فما ورد من النصوص بترك القتال في الفتنة، يكون قبل البغي، وما ورد من الوصف بالبغي يكون بعد ذلك، وحينئذ يكون القتال مع عليٍّ واجباً لما /حصل البغي، وعلى هذا يتأول ما روى ابن عمر‏:‏ إذا حمل على القتال في ذلك‏.‏ وحينئذ فبعد التحكيم والتشيع وظهور البغي لم يقاتلهم على، ولم تطعه الشيعة في القتال، ومن حينئذ ذمت الشيعة بتركهم النصر مع وجوبه، وفي ذلك الوقت سموا شيعة، وحينئذ صاروا مذمومين بمعصية الإمام الواجب الطاعة، وهو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، ولما تركوا ما يجب من نصره صاروا أهل باطل وظلم إذ ذاك يكون تارة لترك الحق وتارة لتعدي الحق‏.‏

فصار حينئذ شيعة عثمان الذين مع معاوية أرجح منهم؛ ولهذا انتصروا عليهم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على من خالفهم‏)‏ وبذلك استدل معاوية، وقام مالك بن يُخَامِر‏] ‏ويقال‏:‏ أخامر السكسكي الألهاني الحمصي، يقال‏:‏ له صحبة، وذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة سبعين، وقيل سنة اثنتين وسبعين‏[‏فروى عن معاذ بن جبل أنهم بالشام‏.‏ وعليّ هو من الخلفاء الراشدين، ومعاوية أول الملوك، فالمسألة هي من هذا الجنس، وهو‏:‏ قتال الملوك المسلطين مع أهل عدل واتباع لسيرة الخلفاء الراشدين، فإن كثيرًا من الناس يبادر إلى الأمر بذلك، لاعتقاده أن في ذلك إقامة العدل، ويغفل عن كون ذلك غير ممكن بل تربو مفسدته على مصلحته‏.‏

ولهذا كان مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة، والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر، أو يستراح من فاجر، وقد يكون هذا من أسرار القرآن في كونه لم يأمر بالقتال ابتداء، وإنما أمر بقتال الطائفة الباغية بعد اقتتال الطائفتين، وأمر بالإصلاح بينهما، فإنه إذا اقتتلت طائفتان من أهل /الأهواء ـ كقَيْس ويمن ـ إذ الآية نزلت في نحو ذلك ـ فإنه يجب الإصلاح بينهما، وإلا وجب على السلطان والمسلمين أن يقاتلوا الباغية؛ لأنهم قادرون على ذلك، فيجب عليهم أداء هذا الواجب، وهذا يبين رجحان القول ابتداء، ففي الحال الأول لم تكن القدرة تامة على القتال ولا البغي حاصلاً ظاهرًا، وفي الحال الثاني حصل البغي وقوى العجز وهو أولى الطائفتين بالحق وأقربهما إليه مطلقًا، والأخرى موصوفة بالبغي كما جاء ذلك في الحديث الصحيح من حديث أبي سعيد، كما تقدم‏.‏

وقد كان معاوية والمغيرة وغيرهما يحتجون لرجحان الطائفة الشامية، بما هو في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر اللّه، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة‏)‏، فقام مالك بن يخامر فقال‏:‏ سمعت معاذ بن جبل يقول‏:‏ وهم بالشام، فقال معاوية‏:‏ وهذا مالك بن يخامر يذكر أنه سمع معاذًا يقول‏:‏ وهم بالشام، وهذا الذي في الصحيحين من حديث معاوية فيهما ـ أيضاً ـ نحوه من حديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تزال من أمتي أمة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر اللّه وهم على ذلك‏)‏ وهذا يحتجون به في رجحان أهل الشام بوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الذين ظهروا وانتصروا وصار الأمر إليهم بعد الاقتتال والفتنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يضرهم من خالفهم‏)‏ وهذا يقتضى /أن الطائفة القائمة بالحق من هذه الأمة هى الظاهرة المنصورة، فلما انتصر هؤلاء كانوا أهل الحق‏.‏

والثاني‏:‏ أن النصوص عينت أنهم بالشام، كقول معاذ، وكما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يزال أهل الغرب ظاهرين‏)‏ قال الإمام أحمد‏:‏ وأهل الغرب هم أهل الشام‏.‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقيما بالمدينة فما يغرب عنها فهو غربه، وما يشرق عنها فهو شرقه، وكان يسمى أهل نجد وما يشرق عنها أهل المشرق، كما قال ابن عمر‏:‏ قدم رجلان من أهل المشرق فخطبا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من البيان لسحرًا‏)‏‏.‏

وقد استفاضت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشر أن أصله من المشرق؛ كقوله‏:‏ ‏(‏الفتنة من هاهنا، الفتنة من هاهنا‏)‏ ويشير إلى المشرق، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رأس الكفر نحو المشرق‏)‏ ونحو ذلك‏.‏ فأخبر أن الطائفة المنصورة القائمة على الحق من أمته بالمغرب وهو الشام وما يغرب عنها، والفتنة ورأس الكـفر بالمشرق، وكـان أهـل المدينة يسـمون أهــل الشام أهل المغرب، ويقولون عن الأوزاعي‏:‏ إنه إمام أهل المغرب، ويقولون عن سفيان الثوري ونحوه‏:‏ إنه مشرقي إمام أهل المشرق، وهذا لأن منتهى الشام عند الفرات هو على مُسَامَتَة‏ [‏أي‏:‏ على مقربة منه‏] مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم طول كل منهما، وبعد ذلك حَرَّان والرَّقَّة ونحوهما على مسامتة مكة؛ ولهذا كانت قبلتهم أعدل /القبلة، بمعنى‏:‏ أنهم يستقبلون الركن الشامي ويستدبرون القطب الشامي من غير انحراف إلى ذات اليمين؛ كأهل العراق، ولا إلى ذات الشمال؛ كأهل الشام‏.‏

قالوا‏:‏ فإذا دلت هذه النصوص على أن الطائفة القائمة بالحق من أمته التي لا يضرها خلاف المخالف، ولا خذلان الخاذل هي بالشام، كان هذا معارضًا لقوله‏:‏ ‏(‏تقتل عمارا الفئة الباغية‏)‏، ولقوله‏:‏ ‏(‏تقتلهم أولى الطائفتين بالحق‏)‏، وهذا من حجة من يجعل الجميع سواء والجميع مصيبين، أو يمسك عن الترجيح وهذا أقرب‏.‏ وقد احتج به من هؤلاء على أولئك، لكن هذا القول مرغوب عنه وهو من أقوال النواصب، فهو مقابل بأقوال الشيعة والروافض، هؤلاء أهل الأهواء وإنما نتكلم هنا مع أهل العلم والعدل‏.‏

ولا ريب أن هذه النصوص لابد من الجمع بينها والتأليف، فيقال‏:‏ أما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يزال أهل الغرب ظاهرين‏)‏ ونحو ذلك مما يدل على ظهور أهل الشام وانتصارهم، فهكذا وقع وهذا هو الأمر، فإنهم ما زالوا ظاهرين منتصرين‏.‏

وأما قوله ـ عـليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر اللّه‏)‏ ومن هو ظاهر، فلا يقتضي ألا يكون فيهم من فيه بغي ومن غيره أولى بالحق منهم، بل فيهم هذا وهذا‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏تقتلهم أولى الطائفتين بالحق‏)‏ فهذا دليل على أن عليًا /ومن معه كان أولى بالحق إذ ذاك من الطائفة الأخرى، وإذا كان الشخص أو الطائفة مرجوحًا في بعض الأحوال لم يمنع أن يكون قائماً بأمر اللّه، وأن يكون ظاهراً بالقيام بأمر اللّه عن طاعة اللّه ورسوله، وقد يكون الفعل طاعة وغيره أطوع منه‏.‏

وأما كون بعضهم باغياً في بعض الأوقات، مع كون بغيه خطأ مغفورًا، أو ذنبًا مغفورًا، فهذا ـ أيضاً ـ لا يمنع ما شهدت به النصوص؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن جملة أهل الشام وعظمتهم، ولا ريب أن جملتهم كانوا أرجح في عموم الأحوال‏.‏

وكذلك عمر بن الخطاب كان يفضلهم في مدة خلافته على أهل العراق، حتى قدم الشام غير مرة، وامتنع من الذهاب إلى العراق، واستشار فأشار عليه أنه لا يذهب إليها، وكذلك حين وفاته لما طعن أدخل عليه أهل المدينة أولاً وهم كانوا إذ ذاك أفضل الأمة، ثم أدخل عليه أهل الشام، ثم أدخل عليه أهل العراق، وكانوا آخر من دخل عليه ـ هكذا في الصحيح‏.‏

وكذلك الصديق كانت عنايته بفتح الشام أكثر من عنايته بفتح العراق حتى قال‏:‏ لَكَفْر من كفور الشام أحب إلى من فتح مدينة بالعراق‏.‏

والنصوص التي في كتاب اللّّه وسنة رسوله وأصحابه في فضل الشام، وأهل الغرب على نجد والعراق وسائر أهل المشرق، أكثر من أن تذكر هنا، بل عن/ النبي صلى الله عليه وسلم من النصوص الصحيحة في ذم المشرق وإخباره بأن الفتنة ورأس الكفر منه ما ليس هذا موضعه، وإنما كان فضل المشرق عليهم بوجود أمير المؤمنين على، وذاك كان أمرًا عارضًا؛ ولهذا لما ذهب عليٌّ ظهر منهم من الفتن، والنفاق، والردة، والبدع، ما يعلم به أن أولئك كانوا أرجح‏.‏

وكذلك ـ أيضًا ـ لا ريب أن في أعيانهم من العلماء والصالحين من هو أفضل من كثير من أهل الشام، كما كان على وابن مسعود وعمار وحذيفة ونحوهم، أفضل من أكثر من بالشام من الصحابة، لكن مقابلة الجملة وترجيحها لا يمنع اختصاص الطائفة الأخرى بأمر راجح‏.‏

والنبي صلى الله عليه وسلم ميز أهل الشام بالقيام بأمر اللّه دائمًا إلى آخر الدهر، وبأن الطائفة المنصورة فيهم إلى آخر الدهر، فهو إخبار عن أمر دائم مستمر فيهم مع الكثرة والقوة، وهذا الوصف ليس لغير الشام من أرض الإسلام، فإن الحجاز ـ التي هي أصل الإيمان ـ نقص في آخر الزمان منها‏:‏ العلم والإيمان والنصر والجهاد، وكذلك اليمن والعراق والمشرق‏.‏

وأما الشام فلم يزل فيها العلم والإيمان، ومن يقاتل عليه منصوراً مؤيداً في كل وقت، فهذا هذا، واللّه أعلم‏.‏

وهذا يبين رجحان الطائفة الشامية من بعض الوجوه مع أن علياً كان أولى / بالحق ممن فارقه، ومع أن عمارًا قتلته الفئة الباغية ـ كما جاءت به النصوص ـ فعلينا أن نؤمن بكل ما جاء من عند اللّه، ونقر بالحق كله، ولا يكون لنا هوى، ولا نتكلم بغير علم، بل نسلك سبل العلم والعدل، وذلك هو اتباع الكتاب والسنة‏.‏ فأما من تمسك ببعض الحق دون بعض، فهذا منشأ الفرقة والاختلاف‏.‏

ولهذا لما اعتقـدت طوائف من الفقهاء وجوب القتال مع علي، جعلوا ذلك قاعدة فقهية فيما إذا خرجت طائفة على الإمام بتأويل سائغ وهي عنده، راسلهم الإمام، فإن ذكروا مظلمة أزالها عنهم، وإن ذكروا شبهة بَيَّنَها، فإن رجعوا وإلا وجب قتالهم عليه وعلى المسلمين‏.‏

ثم إنهم أدخلوا في هذه القاعدة قتال الصدِّيق لمانعي الزكاة و قتال علي للخوارج المارقين؛ وصاروا فيمن يتولى أمور المسلمين من الملوك والخلفاء وغيرهم يجعلون أهل العدل من اعتقدوه لذلك، ثم يجعلون المقاتلين له بغاة، لا يفرقون بين قتال الفتنة المنهي عنه والذي تركه خير من فعله، كما يقع بين الملوك والخلفاء وغيرهم وأتباعهم؛ كاقتتال الأمين والمأمون وغيرهما، وبين قتال الخوارج الحرورية والمرتدة، والمنافقين؛ كالمزدكية ونحوهم‏.‏

وهذا تجده في الأصل من رأي بعض فقهاء أهل الكوفة وأتباعهم، ثم الشافعي وأصحابه، ثم كثير من أصحاب أحمد الذين صنفوا‏:‏ باب قتال أهل البغي، نسجوا على منوال أولئك، تجدهم هكذا، فإن الخَرْقِيّ نسج على منوال/ المُزَنِي، والمزني نسج على منوال مختصر محمد بن الحسن، وإن كان ذلك في بعض التبويب والترتيب‏.‏

والمصنفون في الأحكام‏:‏ يذكرون قتال البغاة والخوارج جميعاً، وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتال البغاة حديث، إلا حديث كَوْثَر بن حكيم عن نافع، وهو موضوع ‏.‏

وأما كتب الحديث المصنفة ـ مثل‏:‏ صحيح البخاري، والسنن ـ فليس فيها إلا قتال أهل الردة والخوارج، وهم أهل الأهواء، وكذلك كتب السنة المنصوصة عن الإمام أحمد ونحوه‏.‏

وكذلك ـ فيما أظن ـ كتب مالك و أصحابه، ليس فيها باب قتال البغاة، وإنما ذكروا أهل الردة وأهل الأهواء وهذا هو الأصل الثابت بكتاب اللّه وسنة رسوله، وهو الفرق بين القتال لمن خرج عن الشريعة والسنة، فهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأما القتال لمن لم يخرج إلا عن طاعة إمام معين، فليس في النصوص أمر بذلك، فارتكب الأولون ثلاثة محاذير‏:‏

الأول‏:‏ قتال من خرج عن طاعة ملك معين، وإن كان قريبًا منه ومثله ـ في السنة والشريعة ـ لوجود الافتراق، والافتراق هو الفتنة‏.‏

/والثاني‏:‏ التسوية بين هؤلاء وبين المرتدين عن بعض شرائع الإسلام‏.‏

والثالث‏:‏ التسوية بين هؤلاء، وبين قتال الخوارج المارقين من الإسلام، كما يمرق السهم من الرمية؛ ولهذا تجد تلك الطائفة يدخلون في كثير من أهواء الملوك وولاة الأمور، ويأمرون بالقتال معهم لأعدائهم، بناء على أنهم أهل العدل وأولئك البغاة، وهم في ذلك بمنزلة المتعصبين لبعض أئمة العلم، أو أئمة الكلام، أو أئمة المشيخة على نظرائهم، مدعين أن الحق معهم، أو أنهم أرجح، بهوى قد يكون فيه تأويل بتقصير، لا بالاجتهاد، وهذا كثير في علماء الأمة وعبادها وأمرائها وأجنادها، وهو من البأس الذي لم يرفع من بينها‏.‏ فنسأل اللّه العدل، فإنه لا حول ولا قوة إلا به‏.‏

ولهذا كان أعدل الطوائف‏:‏ أهل السنة أصحاب الحديث‏.‏

وتجد هؤلاء إذا أمروا بقتال من مرق من الإسلام، أو ارتد عن بعض شرائعه، يأمرون أن يسار فيه بسيرة عليّ في قتال طلحة والزبير، لا يُسْبَي لهم ذرية ولا يُغْنَمُ لهم مال، ولا يُجْهَزُ لهم على جريح، ولا يقتل لهم أسير، ويتركون ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وسار به عليّ في قتال الخوارج وما أمر اللّه به رسوله، وسار به الصديق في قتال مانعي الزكاة، فلا يجمعون بين ما فرق اللّه بينه من المرتدين والمارقين، وبين المسلمين المسيئين، ويفرقون بين ما جمع اللّه بينه من الملوك والأئمة المتقاتلين على الملك وإن كان بتأويل‏.‏ واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.

سُئلَ الشيخ ـ رَحمَهُ اللَّه ـ عن إسلام معاوية بن أبي سفيان، متى كان‏؟‏ وهل كان إيمانه كإيمان غيره أم لا ‏؟‏ وما قيل فيه غير ذلك‏؟‏

فَأَجَــاب‏:‏

إيمان معاوية بن أبي سفيان ـ رضي اللّه عنه ـ ثابت بالنقل المتواتر، وإجماع أهل العلم على ذلك، كإيمان أمثاله ممن آمن عام فتح مكة، مثل أخيه يزيد بن أبي سفيان، ومثل سُهَيْل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعِكْرِمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، وأبي أسد بن أبي العاص بن أمية، وأمثال هؤلاء‏.‏

فإن هؤلاء يسمون‏:‏ الطلقاء، فإنهم آمنوا عام فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة قهرًا، وأطلقهم ومنَّ عليهم، وأعطاهم وتألفهم، وقد روى أن معاوية بن أبي سفيان أسلم قبل ذلك وهاجر، كما أسلم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة الحَجَبِيّ ـ قبل فتح مكة ـ وهاجروا إلى المدينة، فإن كان هذا صحيحًا فهذا من المهاجرين‏.‏

/وأما إسلامه عام الفتح مع من ذكر، فمتفق عليه بين العلماء، سواء كان أسلم قبل ذلك أو لم يكن إسلامه إلا عام فتح مكة، ولكن بعض الكذابين زعم أنه عيّر أباه بإسلامه، وهذا كذب بالاتفاق من أهل العلم بالحديث‏.‏

وكان هؤلاء المذكورون من أحسن الناس إسلامًا، وأحمدهم سيرة، لم يتهموا بسوء، ولم يتهمهم أحد من أهل العلم بنفاق، كما اتهم غيرهم، بل ظهر منهم من حسن الإسلام وطاعة اللّه ورسوله، وحب اللّه ورسوله، والجهاد في سبيل اللّه، وحفظ حدود اللّه، ما دل على حسن إيمانهم الباطن وحسن إسلامهم، ومنهم من أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم واستعمله نائبا له، كما استعمل عَتَّاب بن أُسَيْد أميراً على مكة نائبا عنه، وكان من خيار المسلمين، كان يقول‏:‏ يا أهل مكة، واللّه لا يبلغني أن أحدًا منكم قد تخلف عن الصلاة إلا ضربت عنقه‏.‏

وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب ـ أبا معاوية ـ على نجران نائباً له، وتوفى النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان عامله على نجران‏.‏

وكان معاوية أحسن إسلامًا من أبيه باتفاق أهل العلم، كما أن أخاه يزيد بن أبي سفيان كان أفضل منه ومن أبيه؛ ولهذا استعمله أبو بكر الصديق ـ رضي اللّه عنه ـ على قتال النصارى حين فتح الشام، وكان هو أحد الأمراء الذين استعملهم أبو بكر الصديق، ووصاه بوصية معروفة نقلها أهل العلم، واعتمدوا عليها، وذكرها /مالك في الموطأ وغيره، ومشى أبو بكر ـ رضي اللهّ عنه ـ في ركابه مشيعا له، فقال له‏:‏ يا خليفة رسول اللّه، إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال‏:‏ لستَ بنازل ولستُ براكب، أحتسب خُطَائي هذه في سبيل اللّه ـ عز وجل‏.‏

وكان عمرو بن العاص أحد الأمراء، وأبو عبيدة بن الجراح ـ أيضًا ـ وقدم عليهم خالد ابن الوليد لشجاعته ومنفعته في الجهاد‏.‏

فلما توفى أبو بكر، وَلَّى عمر بن الخطاب أبا عبيدة أميراً على الجميع؛ لأن عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ كان شديدًا في اللّه، فولى أبا عبيدة؛ لأنه كان لينًا‏.‏ وكان أبوبكر ـ رضي اللّه عنه ـ لينًا، وخالد شديدًا على الكفار فولي اللينُ الشديد، وولي الشديدُ اللينَ؛ ليعتدل الأمر، وكلاهما فعل ما هو أحب إلى اللّه ـ تعالى ـ في حقه، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق، وكان شديدًا على الكفار والمنافقين، ونعته اللّه ـ تعالى ـ بأكمل الشرائع، كما قال اللّه تعالى في نعت أمته‏:‏ ‏{‏أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏، وقال‏:‏ فيهم‏:‏ ‏{‏أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏54‏]‏‏.‏

وقد ثبت في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استشار أصحابه في أسارى بدر، وأشار عليه أبو بكر أن يأخذ الفدية منهم وإطلاقهم، وأشار عليه عمر بضرب أعناقهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اللّه يلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من البَزَّ ‏[‏البَزُّ‏:‏ نوع من الثياب‏]‏، ويشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الصَّخْر، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم الخليل إذ قال‏:‏ ‏{‏فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏، ومثل عيسى ابن مريم إذ قال‏:‏ ‏{‏إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 118‏]‏، ومثلك يا عمر مثل نوح ـ عليه السلام ـ إذ قال‏:‏ ‏{‏رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏، ومثل موسى بن عمران إذ قال‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 88‏]‏‏ وكانا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما نعتهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكانا هما وزيريه من أهل الأرض‏.‏

وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنهما ـ أن سرير عمر بن الخطاب ـ رضي اللّه عنه ـ لما وضع وجاء الناس يصلون عليه، قال ابن عباس‏:‏ فالتفت فإذا عليّ بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ فقال‏:‏ واللّه ما على وجه الأرض أحد، أحب إلى من أن ألقى اللّه ـ تعالى ـ بعمله من هذا الميت‏.‏ واللّه، إني لأرجو أن يحشرك اللّه مع صاحبيك، فإني كثيرًا ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏دخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر‏)‏‏.‏

ثم ثبت في الصحيح أنه لما كان يوم أحد انهزم أكثر المسلمين، فإذا أبو سفيان، وكان القوم المرام إذ قال‏:‏ أفي القوم محمد‏؟‏ أفي القوم محمد‏؟‏ أفي القوم محمد‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تجيبوه‏)‏، ثم قال‏:‏ أفي /القوم ابن أبي قحافة‏؟‏ أفي القوم ابن أبي قحافة‏؟‏ أفي القوم ابن أبي قحافة‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تجيبوه‏)‏، فقال‏:‏ أفي القوم ابن الخطاب‏؟‏ أفي القوم ابن الخطاب‏؟‏ أفي القوم ابن الخطاب‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تجيبوه‏)‏، الحديث بطوله، فهذا أبو سفيان ـ قائد الأحزاب ـ لم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة‏:‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمرـ رضي اللّه عنهما ـ لعلمه بأن هؤلاء هم رؤوس عسكر المسلمين‏.‏

وقال الرشيد لمالك بن أنس‏:‏ أخبرني عن منزلة أبي بكر وعمر من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما بعد وفاته، فقال‏:‏ شفيتني يا مالك‏.‏

فلما توفي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر، جعل اللّه ـ تعالى ـ فيه من الشدة ما لم يكن فيه قبل ذلك، حتى فاق عمر في ذلك، حتى قاتل أهل الردة بعد أن جَهَّزَ جيش أسامة، وكان ذلك تكميلًا له لكمال النبي صلى الله عليه وسلم الذي صار خليفة له‏.‏

ولما استخلف عمر، جعل اللّه فيه من الرأفة والرحمة ما لم يكن فيه قبل ذلك تكميلًا له، حتى صار أمير المؤمنين ؛ ولهذا استعمل هذا خالدًا، وهذا أبا عبيدة‏.‏

وكان يزيد بن أبي سفيان على الشام، إلى أن ولي عمر؛ فمات يزيد بن أبي سفيان، فاستعمل عمر معاوية مكان أخيه يزيد بن أبي سفيان، وبقي معاوية /على ولايته تمام خلافته، وعمر ورعيته تشكره، وتشكر سيرته فيهم، وتواليه وتحبه، لما رأوا من حلمه وعدله، حتى إنه لم يَشْكُه منهم مُشْتَكٍ، ولا تَظَلَّمَهُ منهم مُتَظلِّم، ويزيد بن معاوية ليس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ولد في خلافة عثمان، وإنما سماه يزيد باسم عمه من الصحابة‏.‏

وقد شهد معاوية، وأخوه يزيد، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام وغيرهم ـ من مسلمة الفتح ـ مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة حنين، ودخلوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 26‏]‏، وكانوا من المؤمنين الذين أنزل اللّه سكينته عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وغزوة الطائف لما حاصروا الطائف ورماها بالمنجنيق، وشهدوا النصارى بالشام، وأنزل اللّه فيها سورة براءة، وهي غزوة العُسْرَة، التي جهز فيها عثمان بن عفان ـ رضي اللّه عنه ـ جيش العسرة بألف بعير في سبيل اللّه ـ تعالى ـ فأعوزت، وكملها بخمسين بعيرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما ضَرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم‏)‏، وهذا آخر مغازي النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن فيها قتال‏.‏

وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرين غَزَاة بنفسه، ولم /يكن القتال إلا في تسع غزوات‏:‏ بدر، وأحد، وبني المصطلق، والخندق، وذي قَرَدٍ، وغزوة الطائف، وأعظم جيش جمعه النبي صلى الله عليه وسلم كان بحنين والطائف، وكانوا اثنى عشر ألفًا، وأعظم جيش غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم جيش تبوك، فإنه كان كثيرًا لا يحصى، غير أنه لم يكن فيه قتال‏.‏

وهؤلاء المذكورون دخلوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 10‏]‏، فإن هؤلاء الطلقاء، مسلمة الفتح، هم ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل، وقد وعدهم اللّه الحسنى، فإنهم أنفقوا بحنين والطائف، وقاتلوا فيهما ـ رضي اللّه عنهم‏.‏

وهم ـ أيضًا ـ داخلون فيمن رضى اللّه عنهم حيث قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏، فإن السابقين هم الذين أسلموا قبل الحديبية، كالذين بايعوه تحت الشجرة، الذين أنزل اللّه فيهم‏:‏‏{‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏18‏]‏، كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وكلهم من أهل الجنة، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة‏)‏، وكان فيهم حاطب بن أبي بَلْتَعة، وكانت له سيئات /معروفة، مثل مكاتبته للمشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وإساءته إلى مماليكه، وقد ثبت في الصحيح أن مملوكه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ واللّه يا رسول اللّه، لابد أن يدخل حاطب النار‏.‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كذبت، إنه شهد بدرًا والحديبية‏)‏‏.‏

وثبت في الصحيح‏:‏ أنه لما كتب إلى المشركين يخبرهم بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، أرسل على بن أبي طالب والزبير إلى المرأة التي كان معها الكتاب، فأتيا بها، فقال‏:‏ ‏(‏ما هذا يا حاطب‏؟‏‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ واللّه يا رسول اللّه ما فعلت ذلك ارتدادًا عن ديني، ولا رضيت بالكفر بعد الإسلام، ولكن كنت امرأ مُلْصَقًا في قريش‏ [المُلْصَق‏:‏ هو الرجل المقيم في الحي، وليس منهم بنسب‏]، لم أكن من أنفسهم، وكان من معك من أصحابك لهم بمكة قرابات يحمون بها أهاليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتَّخِذَ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي، فقال عمر بن الخطاب‏:‏ دعني أضرب عنق هذا المنافق‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك أن اللّه قال‏:‏ اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم‏)‏‏.‏

وفي هذا الحديث بيان أن اللّّه يغفر لهؤلاء السابقين ـ كأهل بدر والحديبية ـ من الذنوب العظيمة، بفضل سابقتهم، وإيمانهم، وجهادهم، ما لا يجوز لأحد أن يعاقبهم بها، كما لم تجب معاقبة حاطب مما كان منه‏.‏

وهذا مما يستدل به على أن ما جرى بين على وطلحة والزبير ونحوهم، /فإنه إما أن يكون اجتهادًا لا ذنب فيه، فلا كلام‏.‏ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏)‏‏.‏

وإن كان هناك ذنب، فقد ثبت أن هؤلاء ـ رضي اللّه عنهم، وغفر لهم ـ ما فعلوه؛ فلا يضرهم ما وقع منهم من الذنوب إن كان قد وقع ذنب، بل إن وقع من أحدهم ذنب كان اللّه محاه بسبب قد وقع، من الأسباب التي يُمَحِّصُ اللّه بها الذنوب، مثل أن يكون قد تاب فيتوب اللّه عليه، أو كان له حسنات تمحو السيئات، أو يكون قد كَفَّر عنه ببلاء ابتلاه به، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما يصيب المؤمن من نَصَبٍ، ولا وَصَبٍ، ولا هَمٍّ، ولا غَمٍّ، ولا حَزَن، ولا أذى، إلا كَفَّر اللّه من خطاياه‏)‏‏.‏

وأما من بعد هؤلاء السابقين الأولين، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية، فهؤلاء دخلوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 10‏]‏، وفي قوله تعالى‏:‏‏{‏وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏، وقد أسلم قبل فتح مكة خالد ابن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة الحَجَبي، وغيرهم‏.‏ وأسلم بعد الطلقاء أهل الطائف وكانوا آخر الناس إسلاماً، وكان منهم عثمان بن أبي العاص الثقفي الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف، وكان من خيار الصحابة، مع تأخر إسلامه‏.‏

/فقد يتأخر إسلام الرجل، ويكون أفضل من بعض من تقدمه بالإسلام، كما تأخر إسلام عمر، فإنه يقال‏:‏ إنه أسلم تمام الأربعين، وكان ممن فضله اللّه على كثير ممن أسلم قبله، وكان عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، أسلموا قبل عمر على يد أبي بكر، وتقدمهم عمر‏.‏

وأول من أسلم من الرجال الأحرار البالغين أبو بكر، ومن الأحرار الصبيان على، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن النساء خديجة أم المؤمنين، وهذا باتفاق أهل العلم‏.‏

وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ‏}‏إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 72-75‏]‏ فهذه عامة، وقال تعالى‏:‏

‏{‏لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 8-10‏]‏‏.‏

فهذه الآية ـ والتي قبلها ـ تتناول من دخل فيها بعد السابقين الأولين إلى يوم القيامة؛ فكيف لا يدخل فيها أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، الذين آمنوا به وجاهدوا معه‏؟‏

وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏المهاجر من هجر ما نهى اللّه عنه‏)‏، فمن كان قد أسلم من الطلقاء وهجر ما نهى اللّه عنه كان له معنى هذه الهجرة، فدخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏، كما دخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏10‏]‏‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏29‏]‏، فهذا يتناول الذين آمنوا مع الرسول مطلقًا‏.‏

وقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح وغيرها من غير /وجه أنه قال‏:‏ ‏(‏خير القرونِ القرنُ الذي بعثت فيهم، ثم الذين يَلُونهم، ثم الذين يلونهم‏)‏‏.‏

وثبت عنه في الصحيح أنه كان بين عبد الرحمن وبين خالد كلام، فقال‏:‏ ‏(‏يا خالد، لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحُدٍ ذَهَباً ما بلغ مُدَّ أحدهم، ولا نَصِيفَه‏)‏ قال ذلك لخالد ونحوه، ممن أسلم بعد الحديبية، بالنسبة إلى السابقين الأولين‏.‏ يقول‏:‏ إذا أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصف مده‏.‏

وهؤلاء الذين أسلموا بعد الحديبية دخلوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 10‏]‏ بهذه المنزلة‏.‏

وكيف يكون بعد أصحابه‏؟‏ والصحبة اسم جنس تقع على من صحب النبي صلى الله عليه وسلم قليلًا أو كثيرًا، لكن كل منهم له من الصحبة بقدر ذلك، فمن صحبه سنة أو شهرًا أو يوماً أو ساعة أو رآه مؤمنا، فله من الصحبة بقدر ذلك، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يغزو فئام من الناس فيقولون‏:‏ هل فيكم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏‏)‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏هل فيكم من رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقولون‏:‏ هل فيكم من صحب من صحب رسول اللّه / صلى الله عليه وسلم‏؟‏ ـ وفي لفظ‏:‏ هل فيكم من رأى من رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقولون‏:‏ هل فيكم من رأى من رأى من رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ ـ وفي لفظ‏:‏ من صحب من صحب من صحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فيقولون‏:‏ نعم، فيفتح لهم‏)‏ وفي بعض الطرق فيذكر في الطبقة الرابعة كذلك‏.‏

فقد علق النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بصحبته وعلق برؤيته، وجعل فتح اللّه على المسلمين بسبب من رآه مؤمناً به‏.‏

وهذه الخاصية لا تثبت لأحد غير الصحابة ؛ ولو كانت أعمالهم أكثر من أعمال الواحد من أصحابه صلى الله عليه وسلم‏.

فَصْـــل

إذا تبين هذا، فمن المعلوم أن الطريق التي بها يعلم إيمان الواحد من الصحابة، هي الطريق التي بها يعلم إيمان نظرائه، والطريق التي تعلم بها صحبته، هي الطريق التي يعلم بها صحبة أمثاله‏.‏

فالطلقاء الذين أسلموا عام الفتح مثل‏:‏ معاوية، وأخيه يزيد، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وقد ثبت بالتواتر عند الخاصة إسلامهم وبقاؤهم على الإسلام إلى حين الموت‏.‏

ومعاوية أظهر إسلامًا من غيره، فإنه تولى أربعين سنة؛ عشرين سنة نائبًا لعمر وعثمان، مع ما كان في خلافة على ـ رضي اللّه عنه ـ وعشرين سنة مستوليًا، وأنه تولى سنة ستين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين سنة، وسلم إليه الحسن بن علي ـ رضي اللّه عنهما ـ الأمر عام أربعين، الذي يقال له‏:‏ عام الجماعة؛ لاجتماع الكلمة وزوال الفتنة بين المسلمين‏.‏

وهذا الذي فعله الحسن ـ رضي اللّه عنه ـ مما أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح البخاري وغيره عن أبي بكر ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي / صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن ابني هذا سيد، وسيصلح اللّه به بين فئتين عظيمتين من المسلمين‏)‏، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مما أثنى به على ابنه الحسن ومدحه على أن أصلح اللّه تعالى به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، وذلك حين سلم الأمر إلى معاوية، وكان قد سار كل منهما إلى الآخر بعساكر عظيمة‏.‏

فلما أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بالإصلاح وترك القتال، دل على أن الإصلاح بين تلك الطائفتين كان أحب إلى اللّه ـ تعالى ـ من فعله، فدل على أن الاقتتال لم يكن مأمورًا به، ولو كان معاوية كافرًا لم تكن تولية كافر وتسليم الأمر إليه مما يحبه اللّه ورسوله، بل دل الحديث على أن معاوية وأصحابه كانوا مؤمنين، كما كان الحسن وأصحابه مؤمنين، وأن الذي فعله الحسن كان محمودًا عند اللّه ـ تعالى ـ محبوبًا مرضيًا له ولرسوله‏.‏

وهذا كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال‏:‏ ‏(‏تَمرُقُ مارقة على حين فُرْقَةٍ من الناس، فتقتلهم أولى الطائفتين بالحق‏)‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏فتقتلهم أدناهم إلى الحق‏)‏‏.‏ فهذا الحديث الصحيح دليل على أن كلا الطائفتين المقتتلتين - على وأصحابه، ومعاوية وأصحابه ـ على حق، وأن عليًا وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه‏.‏

فإن على بن أبي طالب هو الذي قاتل المارقين، وهم الخوارج الحرورية، الذين كانوا من شيعة علي ثم خرجوا عليه، وكفروه، وكفروا من والاه، ونصبوا له العداوة، وقاتلوه ومن معه‏.‏ وهم الذين أخبر عنهم النبي / صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة المستفيضة، بل المتواترة، حيث قال فيهم‏:‏ ‏(‏يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند اللّه يوم القيامة، آيتهم أن فيهم رجلًا مُخدَج اليدين، له عَضَل عليها شَعرات تدردر‏)‏‏[وتدَرْدَر‏:‏ أي تَرَجْرَج، تجيء وتذهب]‏‏.‏

وهؤلاء هم الذين نصبوا العداوة لعلي ومن والاه، وهم الذين استحلوا قتله وجعلوه كافرًا، وقتله أحد رؤوسهم ـ عبد الرحمن بن مِلْجَم المرَادي ـ فهؤلاء النواصب الخوارج المارقون إذ قالوا‏:‏ إن عثمان وعلي بن أبي طالب ومن معهما كانوا كفارًا مرتدين، فإن من حجة المسلمين عليهم ما تواتر من إيمان الصحابة، وما ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة من مدح اللّه ـ تعالى ـ لهم، وثناء اللّه عليهم، ورضاه عنهم، وإخباره بأنهم من أهل الجنة، ونحو ذلك من النصوص‏.‏ ومن لم يقبل هذه الحجج لم يمكنه أن يثبت إيمان علي بن أبي طالب وأمثاله‏.‏

فإنه لو قال هذا الناصبي للرافضي‏:‏ إن عليا كان كافرًا، أو فاسقًا ظالمًا، وأنه قاتل على الملك لطلب الرياسة لا للدين، وأنه قتل من أهل الملة ـ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ـ بالجمل، وصفين، وحروراء، ألوفًا مؤلفة، ولم يقاتل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كافرًا، ولا فتح مدينة، بل قاتل أهل القبلة، ونحو هذا الكلام الذي تقوله النواصب المبغضون لعلي رضي اللّه /عنه ـ لم يمكن أن يجيب هؤلاء النواصب إلا أهل السنة والجماعة، الذين يحبون السابقين الأولين كلهم، ويوالونهم‏.‏

فيقولون لهم‏:‏ أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، ونحوهم، ثبت بالتواتر إيمانهم وهجرتهم وجهادهم، وثبت في القرآن ثناء اللّه عليهم، والرضى عنهم، وثبت بالأحاديث الصحيحة ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم خصوصـًا وعمومًا ، كقوله في الحديث المستفيض عنه‏:‏‏(‏لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏ إنه قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثُون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر‏)‏، وقوله عن عثمان‏:‏ ‏(‏ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة‏؟‏‏)‏ وقوله لعلي‏:‏ ‏(‏لأعطين الراية رجلًا يحب اللّه ورسوله، ويحبه اللّه ورسوله، يفتح اللّه على يديه‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏لكل نبي حواريون، وحواريي الزبير‏)‏ وأمثال ذلك‏.‏

وأما الرافضي فلا يمكنه إقامة الحجة على من يبغض عليًا من النواصب، كما يمكن ذلك أهل السنة الذين يحبون الجميع، فإنه إن قال‏:‏ إسلام عليّ معلوم بالتواتر‏.‏ قال له‏:‏ وكذلك إسلام أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، وغيرهم، وأنت تطعن في هؤلاء، إما في إسلامهم، وإما في عدالتهم‏.‏

فإن قال‏:‏ إيمان عليٍّ ثبت بثناء النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قلنا له‏:‏ هذه الأحاديث إنما نقلها الصحابة الذين تطعن أنت فيهم، ورواة فضائلهم‏:‏ سعد بن أبي /وقاص، وعائشة، وسهل بن سعد الساعدي، وأمثالهم، والرافضة تقدح في هؤلاء، فإن كانت رواية هؤلاء وأمثالهم ضعيفة، بطل كل فضيلة تروى لعليّ، ولم يكن للرافضة حجة، وإن كانت روايتهم صحيحة، ثبتت فضائل على وغيره، ممن روى هؤلاء فضائله؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم‏.‏

فإن قال الرافضي‏:‏ فضائل عليٍّ متواترة عند الشيعة ـ كما يقولون‏:‏ إن النص عليه بالإمامة متواتر ـ قيل له‏:‏ أما‏[‏الشيعة‏] ‏الذين ليسوا من الصحابة‏:‏ فإنهم لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سمعوا كلامه، ونقلهم نقل مرسل منقطع، إن لم يسنده إلى الصحابة لم يكن صحيحًا‏.‏

والصحابة الذين تواليهم الرافضة نفر قليل ـ بضعة عشر وإما نحو ذلك ـ وهؤلاء لا يثبت التواتر بنقلهم لجواز التواطؤ على مثل هذا العدد القليل، والجمهور الأعظم من الصحابة، الذين نقلوا فضائلهم، تقدح الرافضة فيهم، ثم إذا جوزوا على الجمهور الذين أثنى عليهم القرآن الكذب والكتمان، فتجويز ذلك على نفر قليل أولى وأجوز‏.‏

وأيضًا، فإذا قال الرافضي‏:‏ إن أبا بكر، وعمر، وعثمان، كان قصدهم الرياسة والملك، فظلموا غيرهم بالولاية‏.‏ قال لهم‏:‏ هؤلاء لم يقاتلوا مسلمًا على الولاية، وإنما قاتلوا المرتدين والكفار، وهم الذين كسروا كسرى وقيصر، وفتحوا بلاد فارس، وأقاموا الإسلام وأعزوا الإيمان وأهله، وأذلوا الكفر وأهله‏.‏

/وعثمان هو دون أبي بكر وعمر في المنزلة، ومع ذلك فقد طلبوا قتله وهو في ولايته، فلم يقاتل المسلمين، ولا قتل مسلمًا على ولايته‏.‏ فإن جوزت على هؤلاء أنهم كانوا ظالمين في ولايتهم، أعداء الرسول، كانت حجة الناصبي عليك أظهر‏.‏

وإذا أسأت القول في هؤلاء، ونسبتهم إلى الظلم والمعاداة للرسول وطائفته، كان ذلك حجة للخوارج والنواصب المارقين عليك، فإنهم يقولون‏:‏ أيما أولى أن ينسب إلى طلب الرياسة‏:‏ من قاتل المسلمين على ولايته ـ ولم يقاتل الكفارـ وابتدأهم بالقتال ليطيعوه، وهم لا يطيعونه، وقتل من أهل القبلة الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويحجون البيت العتيق، ويصومون شهر رمضان، ويقرؤون القرآن ـ ألوفًا مؤلفة، ومن لم يقاتل مسلمًا، بل أعزوا أهل الصلاة والزكاة، ونصروهم وآووهم، أو من قتل وهو في ولايته، لم يقاتل ولم يدفع عن نفسه حتى قتل في داره وبين أهله ـ رضي اللّه عنه ‏؟‏ فإن جوزت على مثل هذا أن يكون ظالمًا للملك ظالمًا للمسلمين بولايته، فتجويزك هذا على من قاتل على الولاية وقتل المسلمين عليها أولى وأحرى‏.‏

وبهذا وأمثاله، يتبين أن الرافضة أمة ليس لها عقل صريح، ولا نقل صحيح، ولا دين مقبول، ولا دنيا منصورة، بل هم من أعظم الطوائف كذبًا وجهلًا ودينهم يدخل على المسلمين كل زنديق ومرتد، كما دخل فيهم النصيرية، / والإسماعيلية وغيرهم، فإنهم يعمدون إلى خيار الأمة يعادونهم، وإلى أعداء اللّه من اليهود والنصارى والمشركين يوالونهم، ويعمدون إلى الصدق الظاهر المتواتر يدفعونه، وإلى الكذب المختلق الذي يعلم فساده يقيمونه، فهم كما قال فيهم الشعبي- وكان من أعلم الناس بهم ـ‏:‏ لو كانوا من البهائم لكانوا حمرًا، ولو كانوا من الطير لكانوا رَخَمًا‏.‏

ولهذا كانوا أبْهَت الناس وأشدهم فِريَة، مثل ما يذكرون عن معاوية، فإن معاوية ثبت بالتواتر أنه أمَّره النبي صلى الله عليه وسلم كما أمَّر غيره، وجاهد معه، وكان أمينًا عنده يكتب له الوحي، وما اتهمه النبي صلى الله عليه وسلم في كتابة الوحي‏.‏ وولاه عمر بن الخطاب‏:‏ الذي كان من أخبر الناس بالرجال، وقد ضرب اللّه الحق على لسانه وقلبه، ولم يتهمه في ولايته‏.‏

وقد ولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أباه أبا سفيان إلى أن مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو على ولايته‏.‏ فمعاوية خير من أبيه وأحسن إسلامًا من أبيه باتفاق المسلمين، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ولى أباه فلأن تجوز ولايته بطريق الأولى والأحرى، ولم يكن من أهل الردة قط، ولا نسبه أحد من أهل العلم إلى الردة، فالذين ينسبون هؤلاء إلى الردة هم الذين ينسبون أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعامة أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، وغيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان إلى ما لا يليق بهم‏.‏

/والذين نسبوا هؤلاء إلى الردة يقول بعضهم‏:‏ إنه مات ووجهه إلى الشرق والصليب على وجهه، وهذا مما يعلم كل عاقل أنه من أعظم الكذب والفرية عليه‏.‏ ولو قال قائل هذا فيمن هو دون معاوية من ملوك بني أمية وبني العباس؛ كعبد الملك بن مروان وأولاده، وأبى جعفر المنصور وولديه ـ الملقبين بالمهدي، والهادي والرشيد، وأمثالهم من الذين تولوا الخلافة وأمر المؤمنين، فمن نسب واحدًا من هؤلاء إلى الردة، وإلى أنه مات على دين النصارى، لَعَلِم كل عاقل أنه من أعظم الناس فرية، فكيف يقال مثل هذا في معاوية وأمثاله من الصحابة‏.‏

بل يزيد ابنه، مع ما أحدث من الأحداث، من قال فيه‏:‏ إنه كافر مرتد، فقد افترى عليه، بل كان ملكًا من ملوك المسلمين كسائر ملوك المسلمين، وأكثر الملوك لهم حسنات ولهم سيئات، وحسناتهم عظيمة، وسيئاتهم عظيمة، فالطاعن في واحد منهم دون نظرائه إما جاهل، وإما ظالم‏.‏

وهؤلاء لهم ما لسائر المسلمين، منهم من تكون حسناته أكثر من سيئاته، ومنهم من قد تاب من سيئاته، ومنهم من كفر اللّه عنه، ومنهم من قد يدخله الجنة، ومنهم من قد يعاقبه لسيئاته، ومنهم من قد يتقبل اللّه فيه شفاعة نبي أو غيره من الشفعاء، فالشهادة لواحد من هؤلاء بالنار هو من أقوال أهل البدع والضلال‏.‏

/وكذلك قصد لعنة أحد منهم بعينه، ليس هو من أعمال الصالحين والأبرار‏.‏ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لعن اللّه الخمرة، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، وساقيها، وشاربها، وبائعها، ومشتريها، وآكل ثمنها‏)‏‏.‏ وصح عنه أنه كان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجل يكثر شربها يدعى‏[حمارًا‏]‏، وكان كلما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم جلده، فأتى به إليه ليجلده، فقال رجل‏:‏ لعنه اللّه‏!‏ ما أكثر ما يؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تلعنه، فإنه يحب اللّه ورسوله‏)‏‏.‏ وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم شارب الخمر عمومًا، ونهى عن لعنة المؤمن المعين‏.‏

كما أنا نقول ما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏10‏] ‏فلا ينبغي لأحد أن يشهد لواحد بعينه أنه في النار، لإمكان أن يتوب أو يغفر له اللّه بحسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، أو يعفو اللّه عنه، أو غير ذلك‏.‏

فهكذا الواحد من الملوك أو غير الملوك، وإن كان صدر منه ما هو ظلم، فإن ذلك لا يوجب أن نلعنه ونشهد له بالنار‏.‏ ومن دخل في ذلك كان من أهل البدع والضلال، فكيف إذا كان للرجل حسنات عظيمة يرجى له بها المغفرة مع ظلمه، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه /قال‏:‏ ‏(‏أول جيش يغزو قسطنطينية مغفور له‏)‏، وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية، وكان معه في الغُزَاة أبو أيوب الأنصاري، وتوفى هناك، وقبره هناك إلى الآن‏)‏‏.‏

ولهذا كان المقتصدون من أئمة السلف يقولون في يزيد وأمثاله‏:‏ إنا لا نسبهم ولا نحبهم، أي‏:‏ لا نحب ما صدر منهم من ظلم‏.‏ والشخص الواحد يجتمع فيه حسنات وسيئات، وطاعات ومعاصي، وبر وفجور وشر، فيثيبه اللّه على حسناته، ويعاقبه على سيئاته إن شاء أو يغفر له، ويحب ما فعله من الخير، ويبغض ما فعله من الشر‏.‏

فأما من كانت سيئاته صغائر، فقد وافقت المعتزلة على أن اللّه يغفرها‏.‏

وأما صاحب الكبيرة، فسلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة لا يشهدون له بالنار، بل يجوزون أن اللّه يغفر له، كما قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏48‏]‏، فهذه في حق من لم يشرك، فإنه قيدها بالمشيئة، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا‏}‏‏[الزمر‏:‏ 35‏]‏، فهذا في حق من تاب، ولذلك أطلق وعم‏.‏

والخوارج والمعتزلة يقولون‏:‏ إن صاحب الكبيرة يُخَلَّد في النار، ثم إنهم / قد يتوهمون في بعض الأخيار أنه من أهل الكبائر، كما تتوهم الخوارج في عثمان وعلى وأتباعهما أنهم مخلدون في النار، كما يتوهم بعض ذلك في مثل معاوية وعمرو بن العاص، وأمثالهما، ويبنون مذاهبهم على مقدمتين باطلتين‏:‏

إحداهما‏:‏ أن فلانًا من أهل الكبائر‏.‏

والثانية‏:‏ أن كل صاحب كبيرة يخلد في النار‏.‏

وكلا القولين باطل‏.‏ وأما الثاني فباطل على الإطلاق، وأما الأول فقد يعلم بطلانه، وقد يتوقف فيه‏.‏

ومن قال عن معاوية وأمثاله، ممن ظهر إسلامه وصلاته، وحجه وصيامه ـ أنه لم يسلم، وأنه كان مقيمًا على الكفر‏:‏ فهو بمنزلة من يقول ذلك في غيره، كما لو ادعى مدع ذلك في العباس، وجعفر، وعقيل، وفي أبي بكر، وعمر، وعثمان‏.‏ وكما لو ادعى أن الحسن والحسين ليسا ولدي عليّ بن أبي طالب، إنما هما أولاد سلمان الفارسي، ولو ادعى أن النبي صلىالله عليه وسلم  لم يتزوج ابْنَتَيْ أبي بكر وعمر، ولم يزوج بنتيه عثمان، بل إنكار إسلام معاوية أقبح من إنكار هذه الأمور، فإن منها ما لا يعرفه إلا العلماء‏.‏

وأما إسلام معاوية وولايته على المسلمين والإمارة والخلافة، فأمر يعرفه جماهير الخلق، ولو أنكر منكر إسلام عليّ أو ادعى بقاءه على الكفر، لم يحتج /عليه إلا بمثل ما يحتج به على من أنكر إسلام أبي بكر، وعمر، وعثمان ومعاوية وغيرهم، وإن كان بعضهم أفضل من بعض، فتفاضلهم لا يمنع اشتراكهم في ظهور إسلامهم‏.‏

وأما قول القائل‏:‏ إيمان معاوية كان نفاقًا فهو ـ أيضا ـ من الكذب المختلق، فإنه ليس في علماء المسلمين من اتهم معاوية بالنفاق، بل العلماء متفقون على حسن إسلامه، وقد توقف بعضهم في حسن إسلام أبي سفيان ـ أبيه ـ وأما معاوية، وأخوه يزيد، فلم يتنازعوا في حسن إسلامهما، كما لم يتنازعوا في حسن إسلام عكرمة بن أبي جهل، وسُهَيْل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وأمثالهم من مسلمة الفتح، وكيف يكون رجلًا متوليًا على المسلمين أربعين سنة نائبًا، ومستقلًا يصلي بهم الصلوات الخمس ويخطب ويعظهم، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويقيم فيهم الحدود، ويقسم بينهم فيْأهم ومغانمهم وصدقاتهم، ويحج بهم، ومع هذا يخفى نفاقه عليهم كلهم وفيهم من أعيان الصحابة جماعة كثيرة‏!‏

بل أبلغ من هذا أنه ـ وللّه الحمد ـ لم يكن من الخلفاء الذين لهم ولاية عامة ـ من خلفاء بني أمية، وبني العباس ـ أحد يتهم بالزندقة والنفاق، وبنو أمية لم ينسب أحد منهم إلى الزندقة والنفاق ـ وإن كان قد ينسب الرجل منهم إلى نوع من البدعة، أو نوع من الظلم، لكن لم ينسب أحد منهم من أهل العلم إلى زندقة ونفاق‏.‏

/وإنما كان المعروفون بالزندقة والنفاق بني عبيد القداح، الذين كانوا بمصر والمغرب، وكانوا يدعون أنهم علويون، وإنما كانوا من ذرية الكفار، فهؤلاء قد اتفق أهل العلم على رميهم بالزندقة والنفاق، وكذلك رمي بالزندقة والنفاق قوم من ملوك النواحي الخلفاء من بني بويه وغير بني بويه، فأما خليفة عام الولاية في الإسلام، فقد طهر اللّه المسلمين أن يكون ولي أمرهم زنديقًا منافقًا، فهذا مما ينبغي أن يعلم ويعرف، فإنه نافع في هذا الباب‏.‏

واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك، كان ملكه ملكًا ورحمة، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏يكون الملك نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عَضُوض‏)‏‏[‏وملك عَضُوض أي‏:‏ يصيب الرَّعية فيه عسف وظلم‏] وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين، ما يعلم أنه كان خيرًا من ملك غيره‏.‏

وأما من قبله فكانوا خلفاء نبوة، فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة، ثم تصير ملكًا‏)‏‏.‏ وكان أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي ـ رضي اللّه عنهم ـ هم الخلفاء الراشدون، والأئمة المهديون، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء/ الراشدين من بعدي، تَمَسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة‏)‏‏.‏

وقد تنازع كثير من الناس في خلافة عليّ، وقالوا‏:‏ زمانه زمان فتنة، لم يكن في زمانه جماعة، وقالت طائفة‏:‏ يصح أن يولي خليفتان، فهو خليفة، ومعاوية خليفة، لأن الأمة لم تتفق عليه، ولم تنتظم في خلافته‏.‏

والصحيح الذي عليه الأئمة‏:‏ أن عليًا ـ رضي اللّه عنه ـ من الخلفاء الراشدين، بهذا الحديث، فزمان علي كان يسمى نفسه أمير المؤمنين، والصحابة تسميه بذلك، قال الإمام أحمد بن حنبل‏:‏ من لم يُرَبِّع بعليّ ـ رضي اللّه عنه ـ في الخلافة فهو أضل من حمار أهله، ومع هذا فلكل خليفة مرتبة‏.‏

فأبو بكر وعمر لا يوازنهما أحد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقتدوا باللذين من بعدي‏:‏ أبي بكر وعمر‏)‏، ولم يكن نزاع بين شيعة علي الذين صحبوه في تقديم أبي بكر وعمر، وثبت عن علي من وجوه كثيرة أنه قال‏:‏ لا أوتى برجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلاجلدته حد المفترى‏.‏

وإنما كانـوا يتنازعون في عثمان وعـلي ـ رضي اللّه عنهما ـ لكن ثبت تقديم عثمان على عليٍّ، باتفاق السابقين على مبايعة عثمان طوعًا بلا كره، بعد أن جعل عمر الشورى في ستة‏:‏ عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، /وعبد الرحمن بن عوف‏.‏ وتركها ثلاثة وهم‏:‏ طلحة، والزبير، وسعد، فبقيت في ثلاثة‏:‏ عثمان، وعليّ، وعبد الرحمن فولى أحدهما، فبقى عبد الرحمن يشاور المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ثلاثة أيام، ثم أخبر أنهم لم يعدلوا بعثمان‏.‏

ونقل وفاته وولايته حديث طويل، فمن أراده فعليه بأحاديث الثقات، واللّه أعلم‏.‏ وصلى اللّه على نبينا محمد وسلم‏.‏

/قال شيخ الإسْلام ـ رَحِمَه اللّه‏:‏

فَصْــل

افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق‏:‏ طرفان ووسط‏.‏

فأحد الطرفين قالوا‏:‏ إنه كان كافرًا منافقًا، وأنه سعى في قتل سبط رسول اللّه، تَشَفِّيًا من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وانتقامًا منه، وأخذًا بثأر جده عتبة، وأخي جده شيبة، وخاله الوليد بن عتبة، وغيرهم ممن قتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب وغيره يوم بدر وغيرها، وقالوا‏:‏ تلك أحقاد بدرية، وآثار جاهلية، وأنشدوا عنه‏:‏

لما بدت تلك الحمول وأشـــرفت ** تلك الرؤوس على ربـي جيرون

نعق الغراب، فقلت نح أولا تنح ** فلقــد قضـيت من النــبي ديوني

وقالوا‏:‏ إنه تمثل بشعر ابن الزَّبَعْرى الذي أنشده يوم أحد‏:‏

ليت أشياخي ببدر شهــــدوا ** جزع الخـــزرج من وقع الأسل

/قــد قتلنا الكثير من أشياخهم ** وعدلنــاه ببـــدر فاعتــــــدل

وأشياء من هذا النمط‏.‏

وهذا القول سهل على الرافضة الذين يكفرون أبا بكر، وعمر، وعثمان، فتكفير يزيد أسهل بكثير‏.‏

والطرف الثاني‏:‏ يظنون أنه كان رجلًا صالحًا وإمام عدل، وأنه كان من الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحمله على يديه وبرَّك عليه، وربما فضله بعضهم على أبي بكر وعمر، وربما جعله بعضهم نبيًا، ويقولون عن الشيخ عدي، أو حسن المقتول ـ كذبًا عليه ـ‏:‏ إن سبعين وليًا صرفت وجوههم عن القبلة لتوقفهم في يزيد‏.‏

وهذا قول غالية العدوية والأكراد ونحوهم من الضلال، فإن الشيخ عديًا كان من بني أمية، وكان رجلًا صالحًا عابدًا فاضلًا، ولم يحفظ عنه أنه دعاهم إلا إلى السنة التي يقولها غيره كالشيخ أبي الفرج المقدسي، فإن عقيدته موافقة لعقيدته، لكن زادوا في السنة أشياء كذب وضلال، من الأحاديث الموضوعة والتشبيه الباطل، والغلو في الشيخ عدي وفي يزيد، والغلو في ذم الرافضة، بأنه لا تقبل لهم توبة، وأشياء أخر‏.‏

وكلا القولين ظاهر البطلان عند من له أدنى عقل وعلم بالأمور وسير المتقدمين؛ ولهذا لا ينسب إلى أحد من أهل العلم المعروفين بالسنة، ولا إلى ذي عقل من العقلاء الذين لهم رأي وخبرة‏.‏

/والقول الثالث‏:‏ أنه كان ملكًا من ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات، ولم يولد إلا في خلافة عثمان، ولم يكن كافرا، ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين، وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صاحبًا ولا من أولياء اللّه الصالحين، وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة‏.‏

ثم افترقوا ثلاث فرق‏:‏ فرقة لعنته، وفرقة أحبته، وفرقة لا تسبه ولا تحبه، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد، وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين‏.‏

قال صالح بن أحمد‏:‏ قلت لأبي‏:‏ إن قومًا يقولون‏:‏ إنهم يحبون يزيد، فقال‏:‏ يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن باللّه واليوم الآخر‏؟‏ فقلت‏:‏ يا أبت، فلماذا لا تلعنه‏؟‏ فقال‏:‏ يا بني، ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا‏.‏

وقال مهنا‏:‏ سألت أحمد عن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان‏.‏ فقال‏:‏ هو الذي فعل بالمدينة ما فعل‏.‏ قلت‏:‏ وما فعل‏؟‏ قال‏:‏ قتل من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وفعل‏.‏ قلت‏:‏ وما فعل‏؟‏ قال‏:‏ نهبها‏.‏ قلت‏:‏ فيذكر عنه الحديث‏؟‏ قال‏:‏ لا يذكر عنه حديث‏.‏ وهكذا ذكر القاضي أبو يعلى وغيره‏.‏

وقال أبو محمد المقدسي لما سئل عن يزيد‏:‏ فيما بلغني لا يُسَبّ ولا يُحَبّ‏.‏

وبلغني ـ أيضًا ـ أن جدنا أبا عبد اللّه بن تيمية سئل عن يزيد‏.‏ فقال‏:‏ لا تنقص ولا تزيد‏.‏ وهذا أعدل الأقوال فيه وفي أمثاله وأحسنها‏.‏

/أما ترك سبه ولعنته، فبناء على أنه لم يثبت فسقه الذي يقتضي لعنه، أو بناء على أن الفاسق المعين لا يلعن بخصوصه، إما تحريمًا، وإما تنزيهًا‏.‏ فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمر في قصة ‏[حمار‏] الذي تكرر منه شرب الخمر وجلده لما لعنه بعض الصحابة، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تلعنه ، فإنه يحب اللّه ورسوله‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏لَعْنُ المؤمِن كقتله‏)‏‏.‏ متفق عليه‏.‏

هذا مع أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الخمر وشاربها، فقد ثبت أن النبي لعن عمومًا شارب الخمر، ونهى في الحديث الصحيح عن لعن هذا المعين‏.‏

وهذا كما أن نصوص الوعيد عامة في أكل أموال اليتامى، والزاني، والسارق، فلا نشهد بها عامة على معين بأنه من أصحاب النار؛ لجواز تخلف المقتضَى عن المقتضِي لمعارض راجح‏:‏ إما توبة، وإما حسنات ماحية، وإما مصائب مكفرة، وإما شفاعة مقبولة، وإما غير ذلك كما قررناه في غير هذا الموضع، فهذه ثلاثة مآخذ‏.‏

ومن اللاعنين من يرى أن ترك لعنته مثل ترك سائر المباحات من فضول القول، لا لكراهة في اللعنة‏.‏ وأما ترك محبته، فلأن المحبة الخاصة إنما تكون للنبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، وليس واحدًا منهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المرء مع من أحب‏)‏ ومن آمن باللّه واليوم الآخر، لا يختار أن يكون مع يزيد، ولا مع أمثاله من الملوك، الذين ليسوا بعادلين‏.‏

/ ولترك المحبة مأخذان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لم يصدر عنه من الأعمال الصالحة ما يوجب محبته، فبقى واحدًا من الملوك المسلطين، ومحبة أشخاص هذا النوع ليست مشروعة، وهذا المأخذ، ومأخذ من لم يثبت عنده فسقه اعتقد تأويلًا‏.‏

والثاني‏:‏ أنه صدر عنه ما يقتضى ظلمه وفسقه في سيرته، وأمر الحسين وأمر أهل الحرة‏.‏

وأما الذين لعنوه من العلماء كأبي الفرج ابن الجوزي، والكياالهراسي‏ [هو أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري، الملقب بعماد الدين، الفقيه الشافعي، كان من أهل طبرستان، تولى تدريس المدرسة النظامية ببغداد، كانت ولادته سنة 450هـ، وتوفى سنة 504 هـ ببغداد] وغيرهما، فلما صدر عنه من الأفعال التي تبيح لعنته، ثم قد يقولون‏:‏ هو فاسق، وكل فاسق يلعن‏.‏ وقد يقولون بلعن صاحب المعصية وإن لم يحكم بفسقه، كما لعن أهل صفين بعضهم بعضًا في القنوت، فلعن على وأصحابه في قنوت الصلاة رجالًا معينين من أهل الشام؛ وكذلك أهل الشام لعنوا، مع أن المقتتلين من أهل التأويل السائغ ـ العادلين، والباغين ـ لا يفسق واحد منهم، وقد يلعن لخصوص ذنوبه الكبار، وإن كان لا يعلن سائر الفساق، كما لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنواعًا من أهل المعاصي، وأشخاصًا من العصاة، وإن لم يلعن جميعهم، فهذه ثلاثة مآخذ للعنته‏.‏

وأما الذين سوغوا محبته أو أحبوه، كالغزالي، والدستي فلهم مأخذان‏:‏

/أحدهما‏:‏ أنه مسلم ولي أمر الأمة على عهد الصحابة وتابعه بقاياهم، وكانت فيه خصال محمودة، وكان متأولًا فيما ينكر عليه من أمر الحرة وغيره، فيقولون‏:‏ هو مجتهد مخطئ، ويقولون‏:‏ إن أهل الحرة هم نقضوا بيعته أولًا، وأنكر ذلك عليهم ابن عمر وغيره، وأما قتل الحسين فلم يأمر به ولم يرض به، بل ظهر منه التألم لقتله، وذم من قتله، ولم يحمل الرأس إليه، وإنما حمل إلى ابن زياد‏.‏

والمأخذ الثاني‏:‏ أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر؛ أن رسول اللّهصلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له‏)‏ وأول جيش غزاها كان أميره يزيد‏.‏

والتحقيق أن هذين القولين يسوغ فيهما الاجتهاد؛ فإن اللعنة لمن يعمل المعاصي مما يسوغ فيها الاجتهاد، وكذلك محبة من يعمل حسنات وسيئات، بل لا يتنافى عندنا أن يجتمع في الرجل الحمد والذم، والثواب والعقاب، كذلك لا يتنافى أن يصلى عليه ويدعى له، وأن يلعن ويشتم أيضًا باعتبار وجهين‏.‏

فإن أهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة ـ وإن دخلوا النار، أو استحقوا دخولها فإنهم لابد أن يدخلوا الجنة، فيجتمع فيهم الثواب والعقاب، ولكن الخوارج والمعتزلة تنكر ذلك، وترى أن من استحق الثواب لا يستحق العقاب، ومن استحق العقاب لا يستحق الثواب‏.‏ والمسألة مشهورة، وتقريرها في غير هذا الموضع‏.‏

/وأما جواز الدعاء للرجل وعليه، فبسط هذه المسألة في الجنائز، فإن موتى المسلمين يُصلى عليهم؛ برهم وفاجرهم، وإن لعن الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه، لكن الحال الأول أوسط وأعدل، وبذلك أجبت مقدم المغل بولاي؛ لما قدموا دمشق في الفتنة الكبيرة، وجرت بيني وبينه وبين غيره مخاطبات، فسألني فيما سألني‏:‏ ما تقولون في يزيد‏؟‏ فقلت‏:‏ لا نسبه ولا نحبه، فإنه لم يكن رجلًا صالحًا فنحبه، ونحن لا نسب أحدًا من المسلمين بعينه، فقال‏:‏ أفلا تلعنونه‏؟‏ أما كان ظالمًا‏؟‏ أما قتل الحسين‏؟‏

فقلت له‏:‏ نحن إذا ذكر الظالمون ـ كالحجاج بن يوسف وأمثاله ـ نقول كما قال اللّه في القرآن‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 18‏]‏ ولا نحب أن نلعن أحدًا بعينه، وقد لعنه قوم من العلماء، وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن ذلك القول أحب إلينا وأحسن‏.‏

وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضى بذلك، فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل اللّه منه صَرْفًا ولا عَدْلًا‏.‏

قال‏:‏ فما تحبون أهل البيت‏؟‏ قلت‏:‏ محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه، فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال‏:‏ خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بغَدِير يدعى‏:‏ خمّا، بين مكة والمدينة فقال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه‏)‏، فذكر كتاب اللّه وحض عليه، ثم قال‏:‏ ‏(‏وعِتْرَتِي / أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي‏)‏‏.‏ قلت لمقدم‏:‏ ونحن نقول في صلاتنا كل يوم‏:‏ ‏(‏اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد‏)‏‏.‏ قال مقدم‏:‏ فمن يبغض أهل البيت‏؟‏ قلت‏:‏ من أبغضهم فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل اللّه منه صرفًا ولا عدلا‏.‏

ثم قلت للوزير المغولي‏:‏ لأي شىء قال عن يزيد وهذا تتريٌ‏؟‏ قال‏:‏ قد قالوا له‏:‏ إن أهل دمشق نواصب، قلت بصوت عال‏:‏ يكذب الذي قال هذا، ومن قال هذا، فعليه لعنة اللّه، واللّه ما في أهل دمشق نواصب، وما علمت فيهم ناصبيًا، ولو تنقص أحد عليا بدمشق، لقام المسلمون عليه، لكن كان ـ قديمًا لما كان بنو أمية ولاة البلاد ـ بعض بني أمية ينصب العداوة لعليّ ويسبه، وأما اليوم فما بقى من أولئك أحد‏.‏

/ سُئـلَ عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد، ومنهم من يقول‏:‏ إن الدين فسد من قبل هذه، وهو من حين أخذت الخلافة من علي بن أبي طالب، فإن الذين تولوا مكانه لم يكونوا أهلا للولاية، فلم تصح توليتهم، ولم يصح للمسلمين بعد ذلك عقد من عقودهم، لا عقد نكاح ولا غيره، وأن جميع من تزوج بعد تلك الواقعة فنكاحه فاسد، وكذلك العقود جميعها فاسدة، والولايات وغيرها‏.‏

ويزعم قائل هذا‏:‏ أن اللّه صليب، وأن كل حرف من الجلالة على رأس خط من خطوط الصليب، ويقرر للناس أن اليهود والنصارى على حق، وكذلك المجوس وغيرهم‏!‏‏!‏

فأَجَـابَ ـ رحمه اللّه تعالى‏:‏

أما هذا الجاهل فهو شبيه في جهله بالرافضة، الذين يكذبون، وخرافاتهم التي لا تروج إلا على جاهل لا يعرف أصول الإسلام، كالذين ذكروا في هذا السؤال‏.‏

وقيل‏:‏ إنهم يقولون‏:‏ إن الدين فسد من حين أخذت الخلافة من علي، وذلك / من حين موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الخلفاء الراشدين لم يكونوا أهلًا للولاية، وأن عقود المسلمين باطلة، وأن اللّه صليب، ويقرر دين اليهود والنصارى والمجوس، فإن هذا زنديق من شر الزنادقة، من جنس قرامطة الباطنية، كالنصيرية والإسماعيلية وأتباعهم‏.‏

ولهذا يتكلم بالتناقض، فإن من يقرر دين اليهود والنصارى والمجوس، ويطعن في دين الخلفاء الراشدين المهديين، والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، لا يكون إلا من أجهل الناس وأكفرهم، ولو كان من المؤمنين، الذين يعلمون أن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وأن خير الأمة القرن الأول، ثم الذين يلونه ثم الذين يلونه؛ لما كان مقررًا لدين الكفار، طاعنًا في دين المهاجرين والأنصار، والرد على هذا ونحوه مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

وقد ذكرنا في ذلك في الرد على الرافضة ما لا يتسع له هذا الموضع‏.‏

ومثل هذا القول لا يقوله من يؤمن بأن محمدًا رسول اللّه، فنجيب من يقر أن محمدًا رسول اللّه، فنبين له مما جاء به ما يزيل شبهته، فأما من يطعن في نبوته، فنكلمه من وجه آخر، ولكل مقام مقال‏.‏

/ سُئلَ ـ رَحمَهُ اللَّه ـ‏:‏

هل يصح عند أهل العلم‏:‏ أن عليًا ـ رضي اللّه عنه ـ قاتل الجن في البئر‏؟‏ ومدَّ يده يوم خيبر، فعبر العسكر عليها‏؟‏ وأنه حمل في الأحزاب فافترقت قدامه سبع عشرة فرقة‏؟‏ وخلف كل فرقة رجل يضرب بالسيف يقول‏:‏ أنا علي‏؟‏ وأنه كان له سيف يقال له‏:‏ ذو الفقار، وكان يمتد ويقصر، وإنه ضرب به مرحبًا وكان على رأسه جُرْن من رخام فقصم له ولفرسه بضربة واحدة، ونزلت الضربة في الأرض، ومناد ينادي في الهواء‏:‏ لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا عليّ‏؟‏ وأنه رمي في المنجنيق إلى حصن الغراب‏؟‏ وأنه بعث إلى كل نبي سرًا، وبعث مع النبي صلى الله عليه وسلم جهرًا‏؟‏ وأنه كان يحمل في خمسين ألفًا، وفي عشرين ألفًا، وفي ثلاثين ألفًا وحده‏؟‏ وأنه لما برز إليه مرحب من خيبر ضربه ضربة واحدة فَقَدَّه‏ [أي‏:‏ قطعة‏] ‏طولًا، وقد الفرس عرضًا، ونزل السيف في الأرض ذراعين أو ثلاثة‏؟‏ وأنه مسك حلقة باب خيبر وهزها فاهتزت المدينة، ووقع من على السور شرفات، فهل صح من ذلك شىء‏؟‏‏!‏

فَأَجَــاب‏:‏

الحمد للّه، هذه الأمور المذكورة كذب مُخْتَلَقٌ باتفاق أهل العلم والإيمان، /لم يقاتل عليّ ولا غيره من الصحابة الجن، ولا قاتل الجنَّ أحدٌ من الإنس، لا في بئر ذات العلم ولا غيرها‏.‏

والحديث المروي في قتاله للجن موضوع مكذوب باتفاق أهل المعرفة، ولم يقاتل عليّ قط على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعسكر كان خمسين ألفًا أو ثلاثين ألفًا، فضلا عن أن يكون وحده قد حمل فيهم، ومغازيه التي شهدها مع رسول اللّه وقاتل فيها كانت تسعة‏:‏ بدرًا، وأحدًا، والخندق، وخيبر، وفتح مكة، ويوم حنين، وغيرها‏.‏

وأكثر ما يكون المشركون في الأحزاب وهي الخندق، وكانوا محاصرين للمدينة، ولم يقتتلوا هم والمسلمون كلهم، وإنما كان يقتتل قليل منهم وقليل من الكفار، وفيها قتل عليّ عمرو بن عَبْد ود العامري، ولم يبارز عليّ وحده قط إلا واحدًا، ولم يبارز اثنين‏.‏

وأما مرحب يوم خيبر، فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لأعطين الراية رجلًا يحب اللّهَ ورسولَه، ويحبه اللّهُ ورسولُه، يفتح اللّه على يديه‏)‏ ، فأعطاها لعلي، وكانت أيام خيبر أيامًا متعددة، وحصونها، فتح على يد عليّ ـ رضي اللّه عنه ـ بعضها‏.‏

وقد روي أثر أنه قتل مرحبًا، وروي أنه قتله محمد بن مسلمة، ولعلهما مرحبان، وقتله القتل المعتاد، ولم يقده جميعه، ولا قد الفرس، ولا نزل /السيف إلى الأرض، ولا نزل لعلي ولا لغيره سيف من السماء، ولا مد يده ليعبر الجيش، ولا اهتز سور خيبر لقلع الباب، ولا وقع شىء من شرفاته، وإن خيبر لم تكن مدينة وإنما كانت حصونًا متفرقة، ولهم مزارع‏.‏

ولكن المروي أنه ما قلع باب الحصن حتى عبره المسلمون، ولا رمي في منجنيق قط، وعامة هذه المغازي التي تروى عن عليّ وغيره، قد زادوا فيها أكاذيب كثيرة، مثل ما يكذبون في سيرة عنترة والأبطال‏.‏ وجميع الحروب التي حضرها علي ـ رضي اللّه عنه ـ بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثة حروب‏:‏ الجمل، وصفين، وحرب أهل النهروان، واللّه أعلم‏.‏

/ سُئِـــل عمن قال‏:‏

إن عليا قاتل الجن في البئر، وأنه حمل على اثني عشر ألفًا وهزمهم‏.‏

فَأَجَــاب‏:‏

لم يحمل أحد من الصحابة وحده لا في اثني عشر ألفًا ولا في عشرة آلاف ، لا علي ولا غيره، بل أكثر عدد اجتمع على النبي صلى الله عليه وسلم هم الأحزاب الذين حاصروه بالخندق، وكانوا قريبًا من هذه العدة، وقتل علي رجلا من الأحزاب اسمه‏:‏ عمرو بن عبد ودٍ العامري‏.‏

ولم يقاتل أحد من الإنس للجن، لا علىٌّ ولا غيره، بل عليٌّ كان أجل قدرًا من ذلك، والجن الذين يتبعون الصحابة يقاتلون كفار الجن، لا يحتاجون في ذلك إلى قتال الصحابة معهم‏.

سُئل عن فاطمة أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت‏:‏ يارسول اللّه، إن عليًا يقوم الليالي كلها إلا ليلة الجمعة، فإنه يصلي الوِتْر، ثم ينام إلى أن يطلع الفجر فقال‏:‏ ‏(‏إن اللّه يرفع روح علي كل ليلة جمعة تسبح في السماء إلى طلوع الفجر‏)‏ فهل ذلك صحيح أم لا‏؟‏ وهل هذا صحيح عن علي أنه قال‏:‏ اسألوني عن طرق السماء، فإني أعرف بها من طرق الأرض‏؟‏

فأجَـاب‏:‏

وأما الحديث المذكور عن علي فكذب، ما رواه أحد من أهل العلم‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏(‏اسألوني عن طرق السماء‏)‏ فإنه قاله، ولم يرد بذلك طريقًا للهدى، وإنما يريد بمثل هذا الكلام الأعمال الصالحة التي يتقرب بها، واللّه أعلم‏.‏

/ سُئلَ ـ رَحمَهُ اللَّهُ ـ عن رجل قال عن علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ أنه ليس من أهل البيت، ولا تجوز الصلاة عليه، والصلاة عليه بدعة‏.‏

فأَجَـاب‏:‏

أما كون علي بن أبي طالب من أهل البيت، فهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين، وهو أظهر عند المسلمين من أن يحتاج إلى دليل، بل هو أفضل أهل البيت، وأفضل بني هاشم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أدار كساءه على علىّ وفاطمة، وحَسَن، وحسين، فقال‏:‏ ‏(‏اللّهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرِّجْس وطهرهم تطهيرًا‏)‏‏.‏

وأما الصلاة عليه منفردًا، فهذا ينبني على أنه هل يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم منفردًا ‏؟‏ مثل أن يقول‏:‏ اللهم صل على عمر أو علي‏.‏ وقد تنازع العلماء في ذلك‏.‏

فذهب مالك، والشافعي، وطائفة من الحنابلة إلى أنه لا يصلي على غير النبي صلى الله عليه وسلم منفردًا، كما روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لا أعلم الصلاة تنبغي علَى أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

/ وذهب الإمام أحمد وأكثر أصحابه إلى أنه لا بأس بذلك؛ لأن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ـ قال لعمر بن الخطاب‏:‏ صلى اللّه عليك، وهذا القول أصح وأولى‏.‏

ولكن إفراد واحد من الصحابة والقرابة كعلي أو غيره بالصلاة عليه دون غيره مضاهاة للنبي صلى الله عليه وسلم، بحيث يجعل ذلك شعارًا معروفًا باسمه، هذا هو البدعة‏.‏

/ سُئِلَ شَيْخُ الإسْلام ـ قدس اللّهَ رُوحَهُ‏:‏

هل صح عند أحد من أهل العلم والحديث، أو من يقتدى به في دين الإسلام، أن أمير المؤمنين علي بـن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ إذا أنا مت فأركبوني فوق ناقتي وسيبوني، فأينما بركت ادفنوني، فسارت ولم يعلم أحد قبره‏؟‏ فهل صح ذلك أم لا‏؟‏ وهل عرف أحد من أهل العلم أين دفن أم لا‏؟‏ وما كان سبب قتله‏؟‏ وفي أي وقت كان ‏؟‏ ومن قتله‏؟‏

ومن قتل الحسين‏؟‏ وما كان سبب قتله‏؟‏ وهل صح أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم سُبُوا‏؟‏ وأنهم أركبوا على الإبل عراة، ولم يكن عليهم ما يسترهم، فخلق اللّه ـ تعالى ـ للإبل التي كانوا عليها سنامين استتروا بها‏.‏ وأن الحسين لما قطع رأسه داروا به في جميع البلاد، وأنه حمل إلى دمشق، وحمل إلى مصر ودفن بها‏؟‏ وأن يزيد بن معاوية هو الذي فعل هذا بأهل البيت، فهل صح ذلك أم لا ‏؟‏

وهل قائل هذه المقالات مبتدع بها في دين اللّه‏؟‏ وما الذي يجب عليه إذا /تحدث بهذا بين الناس‏؟‏ وهل إذا أنكر هذا عليه منكر هل يسمى آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر أم لا‏؟‏ أفتونا مأجورين، و بينوا لنا بيانًا شافيا‏.‏

فَأَجَــاب‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، أما ما ذكر من توصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ إذا مات أركب فوق دابته وتسيب، ويدفن حيث تبرك، وأنه فعل ذلك به، فهذا كذب مختلق باتفاق أهل العلم، لم يوص علي بشىء من ذلك، ولا فعل به شيء من ذلك، ولم يذكر هذا أحد من المعروفين بالعلم والعدل، وإنما يقول ذلك من ينقل عن بعض الكذابين‏.‏

ولا يحل أن يفعل هذا بأحد من موتى المسلمين، ولا يحل لأحد أن يوصي بذلك، بل هذا مُثْلَة بالميت، ولا فائدة في هذا الفعل، فإنه إن كان المقصود تعمية قبره، فلابد إذا بركت الناقة من أن يحفر له قبر ويدفن فيه، وحينئذ يمكن أن يحفر له قبر ويدفن به بدون هذه المثلة القبيحة، وهو أن يترك ميتًا على ظهر دابة تسير في البرية‏.‏

وقد تنازع العلماء في موضع قبره‏.‏ والمعروف عند أهل العلم أنه دفن بقصر الإمارة بالكوفة، وأنه أخفى قبره لئلًا ينبشه الخوارج ـ الذين كانوا يكفرونه ويستحلون قتله ـ فإن الذي قتله واحد من الخوارج، وهو عبد الرحمن /بن مِلْجَم المرادي، وكان قد تعاهد هو وآخران على قتل علي وقتل معاوية، وقتل عمرو بن العاص، فإنهم يكفرون هؤلاء كلهم، وكل من لا يوافقهم على أهوائهم‏.‏

وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بذمهم‏.‏ خرج مسلم في صحيحه حديثهم من عشرة أوجه، وخرجه البخاري من عدة أوجه، وخرجه أصحاب السنن والمساند من أكثر من ذلك‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم فيهم‏:‏ ‏(‏يَحْقِر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمِيَّة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ـ وفي رواية ـ أينما لقيتموهم فاقتلوهم ـ فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم عند اللّه يوم القيامة، يقتلون أهل الإسلام‏)‏‏.‏

وهؤلاء اتفق الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ على قتالهم، لكن الذي باشر قتالهم وأمر به، علي ـ رضي اللّه عنه ـ كما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏تمرق مارقة على حين فُرْقَةٍ من الناس، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق‏)‏ فقتلهم علي ـ رضي اللّه عنه ـ بالنَّهْرَوان، وكانوا قد اجتمعوا في مكان يقال له‏:‏ حَرُورَاء؛ ولهذا يقال لهم‏:‏ الحرورية‏.‏

وأرسل إليهم ابن عباس فناظرهم حتى رجع منهم نحو نصفهم، ثم إن الباقين قتلوا عبد اللّه بن خَبَّاب، وأغاروا على سرح المسلمين، فأمر / علي الناس بالخروج إلى قتالهم‏.‏ وروى لهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم وذكر العلامة التي فيهم‏:‏ أن فيهم رجلًا مُخْدَجَ اليدين ـ ناقص اليد ـ على ثديه مثل البضعة من اللحم تَدَرْدَر‏.‏ ولما قتلوا وجد فيهم هذا المنعوت‏.‏

فلما اتفق الخوارج ـ الثلاثة ـ على قتل أمراء المسلمين الثلاثة، قتل عبد الرحمن بن ملجم عليًا ـ رضي اللّه عنه ـ يوم الجمعة سابع عشر، شهر رمضان، عام أربعين، اختبأ له، فحين خرج لصلاة الفجر ضربه، وكانت السنة أن الخلفاء ونوابهم الأمراء الذين هم ملوك المسلمين، هم الذين يصلون بالمسلمين الصلوات الخمس، والجمع والعيدين، والاستسقاء والكسوف، ونحو ذلك كالجنائز، فأمير الحرب هو أمير الصلاة الذي هو إمامها‏.‏

وأما الذي أراد قتل معاوية فقالوا‏:‏ إنه جرحه، فقال الطبيب‏:‏ إنه يمكن علاجك، لكن لا يبقى لك نسل، ويقال‏:‏ إنه من حينئذ اتخذ معاوية المقصورة في المسجد، واقتدى به الأمراء؛ ليصلوا فيها هم وحاشيتهم، خوفًا من وثوب بعض الناس على أمير المؤمنين وقتله، وإن كان قد فعل فيها مع ذلك ما لا يسوغ، وكره من كره الصلاة في نحو هذه المقاصير‏.‏

وأما الذي أراد قتل عمرو بن العاص، فإن عمرًا كان قد استخلف ذلك اليوم رجلاـ اسمه خارجة ـ فظن الخارجي أنه عمرو فقتله، فلما تبين له قال‏:‏ أردت عمرًا وأراد اللّه خارجة، فصارت مثلا‏.‏

/فقيل‏:‏ إنهم كتموا قبر علي وقبر معاوية وقبر عمرو خوفًا عليهم من الخوارج؛ ولهذا دفنوا معاوية داخل الحائط القبلي من المسجد الجامع في قصر الإمارة، الذي كان يقال له الخضراء، وهو الذي تسميه العامة قبر هود، وهود باتفاق العلماء لم يجئ إلى دمشق، بل قبره ببلاد اليمن حيث بعث، وقيل‏:‏ بمكة حيث هاجر، ولم يقل أحد‏:‏ إنه بدمشق‏.‏

وأما معاوية الذي هو خارج باب الصغير، فإنه معاوية بن يزيد، الذي تولى نحو أربعين يومًا، وكان فيه زهد ودين‏.‏ فعلي دفن هناك وعفي قبره؛ فلذلك لم يظهر قبره‏.‏

وأما المشهد الذي بالنَّجف، فأهل المعرفة متفقون على أنه ليس بقبر علي، بل قيل‏:‏ إنه قبر المغيرة بن شعبة، ولم يكن أحد يذكر أن هذا قبر علي، ولا يقصده أحد أكثر من ثلاثمائة سنة، مع كثرة المسلمين من أهل البيت، والشيعة وغيرهم، وحكمهم بالكوفة‏.‏

وإنما اتخذوا ذلك مشهدًا في ملك بني بويه ـ الأعاجم ـ بعد موت علي بأكثر من ثلاثمائة سنة، ورووا حكاية فيها‏:‏ أن الرشيد كان يأتي إلى تلك، وأشياء لا تقوم بها حجة‏.‏

وأما السؤال عن سَبْي أهل البيت وإركابهم الإبل حتى نبت لها سنامان وهي البَخَاتِيّ؛ ليستتروا بذلك، فهذا من أقبح الكذب وأبينه، وهو مما افتراه الزنادقة /والمنافقون، الذين مقصودهم الطعن في الإسلام، وأهله من أهل البيت، وغيرهم‏.‏ فإن من سمع مثل هذا وشهرته وما فيه من الكذب قد يظن أو يقول‏:‏ إن المنقول إلينا من معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء هو من هذا الجنس، ثم إذا تبين أن الأمة سَبتْ أهل بيت نبيها، كان فيها من الطعن في خير أمة أخرجت للناس ما لا يعلمه إلا اللّه؛ إذ كل عاقل يعلم أن الإبل البَخَاِتيّ كانت مخلوقة موجودة قبل أن يبعث اللّه النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل وجود أهل البيت، كوجود غيرها من الإبل والغنم، والبقر والخيل والبغال والمعز‏.‏

وإنما هذا الكذب نظير كذبهم بأن عليًا ـ رضي اللّه عنه ـ نصب يده بخيبر فوطئته البغلة، فقال لها‏:‏ قطع اللّه نسلك، فإن كل عاقل يعلم أن البغلة لم يكن لها نسل قط‏.‏ هذا مع أنهم لم يكن معهم بخيبر بغلة، بل لم يكن للمسلمين بغال، وأول بغلة صارت لهم التي أهداها المقوقس ـ صاحب مصر ـ للنبي صلى الله عليه وسلم حتى مات وهي عنده‏.‏

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد‏:‏ نساء كاسيات مائلات مُمِيلات، على رؤوسهن مثل أسْنِمَة البُخْت، لا يَدْخُلْنَ الجنة، ولا يَجِدْن ريحها، ورجال معهم سِياط مثل أذناب البقر، يضربون بها عباد اللّه‏)‏‏.‏

فالنبي صلى الله عليه وسلم شبه أصحاب العصائب الكبار ـ التي ستكون بعد موته ـ بأسنمة البخاتي، فلولا أنهم كانوا يعرفونها لم يفهموا، وهذه العصائب قد /ظهرت بعده بمدة طويلة في هذا الزمان ونحوه، ثم إن البخاتي لا يستتر راكبها إذا كان عاريًا، ولو شاء اللّه أن يستتر من عري ـ بغيرحق ـ لستره بما يصلح له، كما ستر إبراهيم الخليل لما جرد وألقى في المنجنيق‏.‏

ومما يبين ظهور الكذب في هذا، أن المسلمين ما زالوا يسبون الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، ومع هذا فما علم أنهم قط كانوا يرحلون النساء مجردات بادية أبدانهن، بل غاية ما يظهر من المرأة المسْبِيَّة وجهها، أو يداها، أو قدمها‏.‏

ولم يعلم في الإسلام أن أهل البيت سبى أحدًا منهم أحد من المسلمين في وقت من الأوقات، مع العلم بأنهم من أهل البيت، اللهم إلا أن يقع في أثناء ما تسبيه المسلمون من لا يعلم أنه من أهل البيت، كامرأة سباها العدو ثم استنقذها المسلمون، وإذا تبين أنها كانت حرة الأصل أرسلوها، وإن كان في ضمن ذلك من لا يعرف من يخفي نسبها ويستحل منها ما حرم اللّه من هو زنديق منافق، فاللّه أعلم بحقيقة ذلك، لكن لم يكن شىء من ذلك علانية في الإسلام قط‏.‏

وهذا مما يقوله هؤلاء الجهال، أن الحجاج بن يوسف قتل الأشراف وأراد قطع دابرهم، وهذا من الجهل بأحوال الناس، فإن الحجاج ـ مع كونه مُبِيرًا‏ [‏أي‏:‏ مهلك يسرف في إهلاك الناس] سفاكًا للدماء قتل خلقًا كثيرًا ـ لم يقتل من أشراف بني هاشم أحدًا قط، بـل سلطانه عبد الملك بن مروان نهاه عن التعرض لبني هاشم وهم الأشراف، وذكر أنه أتى إلى الحـرب لمـا تعرضوا لهم، يعني لما قتل الحسين‏.‏

/ولا يعلم في خلافة عبد الملك والحجاج نائبه على العراق أنه قتل أحدًا من بني هاشم‏.‏

والذي يذكر لنا السبي أكثر ما يذكر مقتل الحسين وحمل أهله إلى يزيد، لكنهم جهال بحقيقة ما جرى، حتى يظن الظان منهم أن أهله حملوا إلى مصر، وأنهم قتلوا بمصر، وأنهم كانوا خلقًا كثيرًا، حتى إن منهم من إذا رأى موتى عليهم آثار القتل قال‏:‏ هؤلاء من السبي الذين قتلوا، وهذا كله جهل وكذب‏.‏ والحسين ـ رضي اللّه عنه، ولعن من قتله، ورضي بقتله ـ قتل يوم عاشوراء عام واحد وستين‏.‏

وكان الذي حض على قتله الشَّمِر بن ذي الجَوْشَن، صار يكتب في ذلك إلى نائب السلطان على العراق عبيد اللّه بن زياد، وعبيد اللّه هذا أمر ـ بمقاتلة الحسين ـ نائبه عمر ابن سعد بن أبي وقاص، بعد أن طلب الحسين منهم ما طلبه آحاد المسلمين لم يجئ معه مقاتلة، فطلب منهم أن يدعوه إلى أن يرجع إلى المدينة، أو يرسلوه إلى يزيد ابن عمه، أو يذهب إلى الثَّغْرِ يقاتل الكفار، فامتنعوا إلا أن يستأسر لهم أو يقاتلوه، فقاتلوه حتى قتلوه وطائفة من أهل بيته وغيرهم‏.‏

ثم حملوا ثقله وأهله إلى يزيد بن معاوية إلى دمشق، ولم يكن يزيد أمرهم بقتله، ولا ظهر منه سرور بذلك ورضى به، بل قال كلامًا فيه ذم لهم حيث نقل عنه أنه قال‏:‏ لقد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين، وقال‏:‏ /لعن اللّه ابن مرْجَانة ـ يعني عبيد اللّه بن زياد ـ واللّه لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله ـ يريد بذلك الطعن في استلحاقه حيث كان أبوه زياد استلحق حتى كان ينتسب إلى أبي سفيان صخر بن حرب ـ وبنو أمية وبنو هاشم كلاهما بنو عبد مناف‏.‏

وروى أنه لما قدم على يزيد ثقل الحسين وأهله ظهر في داره البكاء والصراخ لذلك، وأنه أكرم أهله، وأنزلهم منزلًا حسنًا، وخير ابنه عليًا بين أن يقيم عنده وبين أن يذهب إلى المدينة، فاختار المدينة، والمكان الذي يقال له سجن على بن الحسين بجامع دمشق باطل لا أصل له‏.‏

لكنه مع هذا لم يقم حد اللّه على من قتل الحسين ـ رضي اللّه عنه ـ ولا انتصر له، بل قتل أعوانه لإقامة ملكه، وقد نقل عنه أنه تمثل في قتل الحسين بأبيات تقتضي من قائلها الكفر الصريح، كقوله‏:‏

لما بدت تلك الحمول وأشرفــــت ** تلك الـرؤوس إلى ربى جـــيرون

نعق الغراب فقلت نح أو لا تنــــح ** فلقد قضيت مـن النبـي ديـونـي ‏!‏‏!‏

وهذا الشعر كفر‏.‏

ولا ريب أن يزيد تفاوت الناس فيه، فطائفة تجعله كافرًا، بل تجعله هو وأباه كافرين؛ بل يكفرون مع ذلك أبا بكر وعمر، ويكفرون عثمان، وجمهور المهاجرين والأنصار‏.‏ وهؤلاء الرافضة من أجهل خلق اللّه وأضلهم، وأعظمهم /كذبًا على اللّه ـ عز وجل ـ ورسوله والصحابة والقرابة وغيرهم، فكذبهم على يزيد مثل كذبهم على أبي بكر وعمر وعثمان، بل كذبهم على يزيد أهون بكثير ‏.‏

وطائفة تجعله من أئمة الهدى، وخلفاء العدل، وصالح المؤمنين، وقد يجعله بعضهم من الصحابة، وبعضهم يجعله نبيًا، وهذا ـ أيضًا ـ من أبين الجهل والضلال، وأقبح الكذب والمحال، بل كان ملكًا من ملوك المسلمين له حسنات وسيئات، والقول فيه كالقول في أمثاله من الملوك، وقد بسطنا القول في هذا في غير هذا الموضع‏.‏

وأما الحسين ـ رضي اللّه عنه ـ فقتل بكَرْبِلاء قريب من الفرات، ودفن جسده حيث قتل، وحمل رأسه إلى قُدام عبيد اللّه بن زياد بالكوفة، هذا الذي رواه البخاري في صحيحه وغيره من الأئمة‏.‏

وأما حمله إلى الشام إلى يزيد، فقد روي ذلك من وجوه منقطعة لم يثبت شيء منها، بل في الروايات ما يدل على أنها من الكذب المختلق، فإنه يذكر فيها أن يزيد جعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وأن بعض الصحابة الذين حضروه ـ كأنس بن مالك، وأبي بَرْزَة ـ أنكر ذلك، وهذا تلبيس، فإن الذي جعل ينكت بالقضيب إنما كان عبيد اللّه بن زياد، هكذا في الصحيح والمساند‏.‏ وإنما جعلوا مكان عبيد اللّه بن زياد‏ [يزيد‏]‏، وعبيد اللّه لا ريب أنه أمر بقتله، وحمل الرأس إلى بين يديه‏.‏ ثم إن ابن زياد قتل بعد ذلك لأجل ذلك‏.‏/ومما يوضح ذلك أن الصحابة المذكورين كأنس وأبي برزة لم يكونوا بالشام، وإنما كانوا بالعراق ـ حينئذ ـ وإنما الكذابون جهال بما يستدل به على كذبهم‏.‏

وأما حمله إلى مصر فباطل باتفاق الناس، وقد اتفق العلماء كلهم على أن هذا المشهد الذي بقاهرة مصر الذي يقال له‏:‏ مشهد الحسين باطل، ليس فيه رأس الحسين ولا شىء منه، وإنما أحدث في أواخر دولة بني عبيد اللّه بن القداح الذين كانوا ملوكًا بالديار المصرية مائتي عام، إلى أن انقرضت دولتهم في أيام نور الدين محمود وكانوا يقولون‏:‏ إنهم من أولاد فاطمة، ويدعون الشرف‏.‏ وأهل العلم بالنسب يقولون‏:‏ ليس لهم نسب صحيح، ويقال‏:‏ إن جدهم كان ربيب الشريف الحسيني فادعوا الشرف لذلك‏.‏

فأما مذاهبهم وعقائدهم، فكانت منكرة باتفاق أهل العلم بدين الإسلام، وكانوا يظهرون التشيع، وكان كثير من كبرائهم وأتباعهم يبطنون مذهب القرامطة الباطنية، وهو من أخبث مذاهب أهل الأرض، أفسد من اليهود والنصارى؛ ولهذا كان عامة من انضم إليهم أهل الزندقة والنفاق والبدع‏:‏ المتفلسفة، والمباحية، والرافضة، وأشباه هؤلاء، ممن لا يستريب أهل العلم والإيمان في أنه ليس من أهل العلم والإيمان‏.‏

فأحدث هذا المشهد في المائة الخامسة، نقل من عسقلان، وعقيب ذلك بقليل انقرضت دولة الذين ابتدعوه بموت العاضد ـ آخر ملوكهم‏.‏

/والذي رجحه أهل العلم في موضع رأس الحسين بن علي ـ رضي اللّه عنهما ـ هو ما ذكره الزبير بن بكار في كتاب‏ [‏أنساب قريش‏] ‏والزبير بن بكار هو من أعلم الناس وأوثقهم في مثل هذا، ذكر أن الرأس حمل إلى المدينة النبوية ودفن هناك، وهذا مناسب، فإن هناك قبر أخيه الحسن، وعم أبيه العباس، وابنه علي وأمثالهم‏.‏

قال‏ [أبو الخطاب‏] ابن دَحية ـ الذي كان يقال له‏:‏‏[ذو النسبين بين دحية والحسين‏] ‏في كتاب ‏[العلم المشهور في فضل الأيام والشهور]ـ لما ذكر ما ذكره الزبير بن بكار عن محمد بن الحسن‏:‏ أنه قدم برأس الحسين وبنو أمية مجتمعون عند عمرو بن سعيد، فسمعوا الصياح فقالوا‏:‏ ما هذا ‏؟‏ فقيل‏:‏ نساء بني هاشم يبكين حين رأين رأس الحسين ابن علي، قال‏:‏ وأتي برأس الحسين بن علي، فدخل به على عمرو فقال‏:‏ واللّه لوددت أن أمير المؤمنين لم يبعث به إلي، قال ابن دحية‏:‏ فهذا الأثر يدل أن الرأس حمل إلى المدينة ولم يصح فيه سواه، والزبير أعلم أهل النسب وأفضل العلماء بهذا السبب، قال‏:‏ وما ذكر من أنه في عسقلان في مشهد هناك فشيء باطل، لا يقبله من معه أدنى مُسْكَة‏ [المُسْكَة‏:‏ ما يمسك الرَّمَق من الطعام والشراب، والمقصود هنا‏:‏ من معه أدنى بقية من العقل] ‏من العقل والإدراك، فإن بني أمية ـ مع ما أظهروه من القتل والعداوة والأحقاد ـ لا يتصور أن يبنوا على الرأس مشهدًا للزيارة‏.‏

هذا، وأما ما افتعله بنو عبيد في أيام إدبارهم، وحلول بوارهم، وتعجيل دمارهم، في أيام الملقب بالقاسم عيسى بن الظافر وهو الذي عقد له بالخلافة /وهو ابن خمس سنين وأيام ؛ لأنه ولد يوم الجمعة الحادي من المحرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وبويع له صبيحة قتل أبيه الظافر يوم الخميس سلخ المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة‏.‏ وله من العمر ما قدمنا، فلا تجوز عقوده ولا عهوده، وتوفى وله من العمر إحدى عشرة سنة وستة أشهر وأيام؛لأنه توفى لليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة، فافتعل في أيامه بناء المشهد المحدث بالقاهرة، ودخول الرأس مع المشهديِّ العسقلاني أمام الناس، ليتوطن في قلوب العامة ما أورد من الأمور الظاهرة، وذلك شىء افتعل قصدًا، أو نصب غرضًا، وقضوا ما في نفوسهم لاستجلاب العامة عرضًا، والذي بناه طلائع بن رُزَيْك الرافضي‏.‏ وقد ذكره جميع من ألف في مقتل الحسين أن الرأس المكرم ما غرب قط، وهذا الذي ذكره أبو الخطاب بن دَحية في أمر هذا المشهد، وأنه مكذوب مفترى، هو أمر متفق عليه عند أهل العلم‏.‏

والكلام في هذا الباب وأشباهه متسع، فإنه بسبب مقتل عثمان ومقتل الحسين وأمثالهما جرت فتن كثيرة، وأكاذيب وأهواء، وقع فيها طوائف من المتقدمين والمتأخرين، وكذب على أمير المؤمنين عثمان وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنواع من الأكاذيب، يكذب بعضها شيعتهم ونحوهم، ويكذب بعضها مبغضوهم، لاسيما بعد مقتل عثمان، فإنه عظم الكذب والأهواء‏.‏

/وقيل في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مقالات من الجانبين، علي برىء منها‏.‏ وصارت البدع والأهواء والكذب تزداد، حتى حدث أمور يطول شرحها، مثل ما ابتدعه كثير من المتأخرين يوم عاشوراء، فقوم يجعلونه مأتمًا يظهرون فيه النياحة والجزع، وتعذيب النفوس وظلم البهائم، وسب من مات من أولياء اللّه والكذب على أهل البيت، وغير ذلك من المنكرات المنهى عنها بكتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق المسلمين‏.‏

والحسين ـ رضي اللّه عنه ـ أكرمه اللّه ـ تعالى ـ بالشهادة في هذا اليوم، وأهان بذلك من قتله، أو أعان على قتله، أو رضى بقتله، وله أسوة حسنة بمن سبقه من الشهداء، فإنه وأخاه سيدا شباب أهل الجنة، وكانا قد تربيا في عز الإسلام، لم ينالا من الهجرة والجهاد والصبر على الأذى في اللّه ما ناله أهل بيته، فأكرمهما اللّه ـ تعالى ـ بالشهادة؛ تكميلًا لكرامتهما، ورفعا لدرجاتهما، وقتله مصيبة عظيمة، واللّه ـ سبحانه ـ قد شرع الاسترجاع عند المصيبة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 155-157‏]‏‏.‏ وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏(‏ما من مسلم يصاب بمصيبة فيقول‏:‏ إنا للّه وإنا إليه راجعون، اللهم أجِرْنِي في مصيبتي، واخْلُفْ لي خيرًا منها، إلا آجره اللّه في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها‏)‏ ومن أحسن ما يذكر هنا‏:‏ أنه قد روى الإمام أحمد وابن ماجه عن فاطمة بنت /الحسين عن أبيها الحسين ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قَدُمَتْ، فيحدث عندها استرجاعًا، كتب اللّه له مثلها يوم أصيب‏)‏، هذا حديث رواه عن الحسين ابنته فاطمة التي شهدت مصرعه‏.‏

وقد علم أن المصيبة بالحسين تذكر مع تقادم العهد، فكان في محاسن الإسلام أن بلغ هو هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، و هو أنه كلما ذكرت هذه المصيبة يسترجع لها، فيكون للإنسان من الأجر مثل الأجر يوم أصيب بها المسلمون‏.‏

وأما من فعل مع تقادم العهد بها ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم عند حدثان العهد بالمصيبة فعقوبته أشد، مثل لطم الخدود وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية‏.‏ ففي الصحيحين عن عبد اللّه بن مسعود ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية‏)‏‏.‏ وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ ‏(‏أنا بريء مما برئ منه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم برئ من الحالقة، والصالقة، والشاقة‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري‏:‏ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن‏:‏ الفخر بالأحساب، /والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏النائحة إذا لم تَتُبْ قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سِرْبَال من قَطِرَان، ودِرْع من جَرَبٍ‏)‏، والآثار في ذلك متعددة‏.‏

فكيف إذا انضم إلى ذلك ظلم المؤمنين، ولعنهم وسبهم، وإعانة أهل الشقاق والإلحاد على ما يقصدونه للدين من الفساد وغير ذلك، مما لا يحصيه إلا اللّه ـ تعالى‏.‏

وقوم من المتسننة رووا ورويت لهم أحاديث موضوعة، بنوا عليها ما جعلوه شعارًا في هذا اليوم، يعارضون به شعار ذلك القوم، فقابلوا باطلًا بباطل، وردوا بدعة ببدعة، وإن كانت إحداهما أعظم في الفساد وأعون لأهل الإلحاد، مثل الحديث الطويل الذي روى فيه‏:‏ ‏(‏من اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام، ومن اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد ذلك العام‏)‏ وأمثال ذلك من ‏(‏الخضاب يوم عاشوراء والمصافحة فيه‏)‏ ونحو ذلك‏.‏ فإن هذا الحديث ونحوه كذب مختلق باتفاق من يعرف علم الحديث، وإن كان قد ذكره بعض أهل الحديث وقال‏:‏ إنه صحيح وإسناده على شرط الصحيح، فهذا من الغلط الذي لا ريب فيه، كما هو مبين في غير هذا الموضع‏.‏

ولم يستحب أحد من أئمة المسلمين الاغتسال يوم عاشوراء، ولا الكحل فيه والخِضاب، وأمثال ذلك، ولا ذكره أحد من علماء المسلمين الذين يقتدى بهم، /ويرجع إليهم في معرفة ما أمر اللّه به ونهى عنه، ولا فعل ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي ‏.‏

ولا ذكر مثل هذا الحديث في شىء من الدواوين التي صنفها علماء الحديث، لا في المسندات ؛ كمسند أحمد، وإسحاق، وأحمد بن مَنِيع الحميدي، والدالاني، وأبو يعلى الموصلي، وأمثالها‏.‏ ولا في المصنفات على الأبواب؛ كالصحاح، والسنن‏.‏ ولا في الكتب المصنفة الجامعة للمسند والآثار؛ مثل موطأ مالك، ووَكِيع، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأمثالها‏.‏

ثم إن أهل الأهواء ظنت أن من يفعل هذا أنه يفعله على سبيل نصب العداوة لأهل البيت والاشتفاء منهم، فعارضهم من تسنن، وأجاب عن ذلك بإجابة بين فيها براءتهم من النصب واستحقاقهم لموالاة أهل البيت، وأنهم أحق بذلك من غيرهم‏.‏ وهذا حق‏.‏ لكن دخلت عليهم الشبهة والغلط في ظنهم أن هذه الأفعال حسنة مستحبة، واللّه أعلم بمن ابتدأ وضع ذلك وابتداعه، هل كان قصده عداوة أهل البيت أو عداوة غيرهم‏؟‏ فالهدى بغير هدى من اللّه ـ أو غير ذلك ـ ضلالة‏.‏

ونحن علينا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا من الكتاب والحكمة، ونلزم الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم اللّه عليهم، من النبيين، والصديقين، /والشهداء، والصالحين، ونعتصم بحبل اللّه جميعًا ولا نتفرق، ونأمر بما أمر اللّّه به وهو المعروف، وننهي عما نهى عنه وهو المنكر؛ وأن نتحرى الإخلاص للّه في أعمالنا، فإن هذا هو دين الإسلام قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏112‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏125‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏‏[‏الأعراف‏:‏ 28-30‏]‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏ 102-106‏]‏ قال ابن عباس‏:‏ تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏‏.‏

/ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وليس الكذب في هذا المشهد وحده، بل المشاهد المضافة إلى الأنبياء وغيرهم كذب، مثل القبر الذي يقال له‏:‏‏[‏قبر نوح‏] ‏قريب من بعلبك في سفح جبل لبنان، ومثل القبر الذي في قبلي مسجد جامع دمشق، الذي يقال له‏:‏ قبر هود، فإنما هو قبر معاوية بن أبي سفيان، ومثل القبر الذي في شرقي دمشق الذي يقال له‏:‏ قبر أبي بن كعب، فإن أبيًّا لم يقدم دمشق باتفاق العلماء‏.‏

وكذلك ما يذكر في دمشق من قبور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما توفين بالمدينة النبوية‏.‏

وكذلك ما يذكر في مصر من قبر علي بن الحسين أو جعفر الصادق أو نحو ذلك، هو كذب باتفاق أهل العلم‏.‏ فإن علي بن الحسين وجعفر الصادق إنما توفيا بالمدينة، وقد قال عبد العزيز الكناني ـ الحديث المعروف ـ‏:‏ ليس في قبور الأنبياء ما ثبت، إلا قبر نبينا قال غيره‏:‏ وقبر الخليل أيضًا‏.‏

وسبب اضطراب أهل العلم بأمر القبور أن ضبط ذلك ليس من الدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى أن تتخذ القبور مساجد، فلما لم يكن معرفة ذلك من الدين لم يجب ضبطه‏.‏

/فأما العلم الذي بعث اللّه به نبيه صلى الله عليه وسلم فإنه مضبوط ومحروس، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَِِِِِ‏‏ِِِِِ} [‏الحجر‏:‏ 9‏]‏ وفي الصحاح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يَضُرُّهُمْ من خالفهم، ولا من خَذَلَهُمْ، حتى تقوم الساعة‏)‏‏.‏

وأصل هذا الكتاب هو الضلال والابتداع والشرك، فإن الضُّلال ظنوا أن شد الرحال إلى هذه المشاهد، والصلاة عندها، والدعاء والنذر لها، وتقبيلها واستلامها، وغير ذلك، من أعمال البر والدين، حتى رأيت كتابًا كبيرًا قد صنفه بعض أئمة الرافضة ـ محمد بن النُّعْمَان الملقب بالشيخ المُفِيد، شيخ الملقب بالمرتضي وأبي جعفر الطوسي ـ سماه ‏[‏الحج إلى زيارة المشاهد] ذكر فيه من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وزيارة هذه المشاهد والحج إليها، ما لم يذكر مثله في الحج إلى بيت اللّه الحرام‏.‏

وعامة ما ذكره من أوضح الكذب وأبين البهتان، حتى إني رأيت في ذلك من الكذب والبهتان أكثر مما رأيته من الكذب في كثير من كتب اليهود والنصارى، وهذا إنما ابتدعه وافتراه في الأصل قوم من المنافقين والزنادقة؛ ليصدوا به الناس عن سبيل اللّه‏.‏ ويفسدوا عليهم دين الإسلام، وابتدعوا لهم أصل الشرك المضاد لإخلاص الدين للّه، كما ذكره ابن عباس وغيره من السلف في قوله تعالى عن قوم نوح‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 23، 24‏]‏ قالوا‏:‏ هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عَكَفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، وقد ذكر ذلـك البخاري فـي صحيحه، وبسطه وبـينه في أول كتابه في قصص الأنبياء وغيرها‏.‏

ولهذا صنف طائفة من الفلاسفة الصابئين المشركين في تقرير هذا الشرك ما صنفوه، واتفقوا هم والقرامطة الباطنية على المحادة للّه ولرسوله، حتى فتنوا أمما كثيرة وصدوهم عن دين اللّه ‏.‏ وأقل ما صار شعارًا لهم، تعطيل المساجد وتعظيم المشاهد، فإنهم يأتون من تعظيم المشاهد وحجها والإشراك بها، ما لم يأمر اللّه به ولا رسوله ولا أحد من أئمة الدين، بل نهى اللّه عنه ورسوله عباده المؤمنين‏.‏

وأما المساجد التي أمر اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فيخربونها، فتارة لا يصلون جمعة ولا جماعة؛ بناء على ما أصلوه من شُعب النفاق، وهو أن الصلاة لا تصح إلا خلف معصوم، ونحو ذلك من ضلالتهم‏.‏

وأول من ابتدع القول بالعصمة لعلي، وبالنص عليه في الخلافة، هو رأس هؤلاء المنافقين عبد اللّه بن سبأ الذي كان يهوديًا، فأظهر الإسلام وأراد فساد دين الإسلام، كما أفسد بولص دين النصارى، وقد أراد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قتل هذا لما بلغه أنه يسب أبا بكر وعمر حتى هرب منه، /كما أن عليًا حرق الغالية الذين ادعوا فيه الإلهية‏.‏ وقال في المفضلة‏:‏ لا أوتى بأحد يفضلني على أبى بكر وعمر إلا جلدته جلد المفترى‏.‏

فهؤلاء الضالون المفترون أتباع الزنادقة المنافقون، يعطلون شعار الإسلام وقيام عموده، وأعظمه سنن الهدى التي سنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، بمثل هذا الإفك والبهتان، فلا يصلون جمعة ولا جماعة‏.‏

ومن يعتقد هذا فقد يسوى بين المشاهد والمساجد، حتى يجعل العبادة كالصلاة والدعاء، والقراءة، والذكر، وغير ذلك مشروعًا عند المقابر، كما هو مشروع في المساجد، وربما فضل بحاله أو بقاله العبادة عند القبور، و المشاهد على العبادة في بيوت اللّه التي هي المساجد، حتى تجد أحدهم إذا أراد الاجتهاد في الدعاء والتوبة ونحو ذلك قصد قبر من يعظمه، كشيخه أو غير شيخه، فيجتهد عنده في الدعاء والتضرع، والخشوع والرقة، ما لا يفعله مثله في المساجد، ولا في الأسحار، ولا في سجوده للّه الواحد القهار‏.‏

وقد آل الأمر بكثير من جهالهم إلى أن صاروا يدعون الموتى ويستغيثون بهم، كما تستغيث النصارى بالمسيح وأمه، فيطلبون من الأموات تفريج الكربات وتيسير الطلبات، والنصر على الأعداء ورفع المصائب والبلاء، وأمثال ذلك، مما لا يقدر عليه إلا رب الأرض والسماء‏.‏

حتى إن أحدهم إذا أراد الحج، لم يكن أكثر همه الفرض الذي فرضه /اللّه عليه وهو‏[‏حج بيت اللّه الحرام]‏، وهو شعار الحنيفية ملة إبراهيم إمام أهل دين اللّه، بل يقصد المدينة‏.‏

ولا يقصد ما رغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة في مسجده، حيث قال في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام‏(‏، ولا يهتم بما أمر اللّه به من الصلاة والسلام على رسوله حيث كان، ومن طاعة أمره، واتباع سنته، وتعزيره، وتوقيره، وهو أن يكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين، بل أن يكون أحب إليه من نفسه، بل يقصد من زيارة قبره أو قبر غيره ما لم يأمر اللّه به ورسوله، ولا فعله أصحابه ولا استحسنه أئمة الدين‏.‏

وربما كان مقصوده بالحج من زيارة قبره أكثر من مقصوده بالحج، وربما سوى بين القصدين، وكل هذا ضلال عن الدين باتفاق المسلمين، بل نفس السفر لزيارة قبر من القبورـ قبر نبي أو غيره ـ منهي عنه عند جمهور العلماء، حتى إنهم لا يجوزون قصد الصلاة فيه، بناء على أنه سفر معصية ؛ لقوله الثابت في الصحيحين‏:‏ ‏(‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا‏)‏ وهو أعلم الناس بمثل هذه المسألة‏.‏

وكل حديث يروى في زيارة القبر فهو ضعيف، بل موضوع، بل قد /كره مالك وغيره من أئمة المدينة أن يقول القائل‏:‏ زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما المسنون السلام عليه إذا أتى قبره صلى الله عليه وسلم، وكما كان الصحابة والتابعون يفعلون إذا أتوا قبره، كما هو مذكور في غير هذا الموضع‏.‏

ومن ذلك الطواف بغير الكعبة، وقد اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الطواف إلا بالبيت المعمور، فلا يجوز الطواف بصخرة بيت المقدس، ولا بحجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا بالقبة التي في جبل عرفات، ولا غير ذلك‏.‏

وكذلك اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الاستلام ولا التقبيل إلا للركنين اليمانيين؛ فالحجرالأسود يستلم ويقبل، واليماني يستلم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه يقبل، وهو ضعيف‏.‏

وأما غير ذلك فلا يشرع استلامه ولا تقبيله، كجوانب البيت، والركنين الشاميين، ومقام إبراهيم، و الصخرة، والحجرة النبوية، وسائر قبور الأنبياء والصالحين‏.‏

وفي الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏قَاتَل اللّهُ اليهود والنصارى، اتَّخَذُوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ وفي رواية لمسلم‏:‏ ‏(‏لَعَنَ اللّهُ اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏‏.‏

/ وفي الصحيحين أيضًا عن عائشة وابن عباس قالا‏:‏ لما نزل برسول اللّه صلى الله عليه وسلم طَفِقَ يطرح خَمِيصَة له على وجهه، فإذا اغْتَمَّ بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك‏:‏ ‏(‏لعن اللّه اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏، يُحَذِّر ما صنعوا‏.‏

وفي الصحيحين ـ أيضًا ـ عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه‏:‏ ‏(‏لعن اللّه اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشى أن يتخذ مسجدًا‏.‏

وفي صحيح مسلم عن جُنْدُب بن عبد اللّه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قبل موته بخمس وهو يقول‏:‏ ‏(‏إني أبرأ إلى اللّه أن يكون لي منكم خليل، فإن اللّه اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ألا وإن من كان قبلكم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم عن أبي مَرْثَد الغَنوىّ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها‏)‏ ‏.‏

وعن أبي سعيد الخدري ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام‏)‏ رواه أهل السنن، /كأبي داود، والترمذي، وابن ماجه، وعلله بعضهم بأنه روي مرسلًا، وصححه الحافظ‏.‏

وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ قالت‏:‏ لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له بعض نسائه أنها رأت كنيسة بأرض الحبشة يقال لها‏:‏ [مارية‏]‏‏.‏ وكانت أم سلمة وأم حبيبة أتتا أرض الحبشة، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه فقال‏:‏ ‏(‏أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند اللّه‏)‏‏.‏

وعن ابن عباس ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ ‏(‏لعن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زَوَّارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرُج‏)‏‏.‏ رواه أهل السنن، كأبي داود، والنسائي، والترمذي‏.‏ وقال‏:‏ حديث حسن، وفي بعض النسخ صحيح‏.‏

وفي موطأ مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏اللهم لا تجعل قبري وَثَنًا يُعْبَد‏)‏، وفي سنن أبي داود عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تتخذوا قبري عيدًا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر‏)‏‏.‏

وأما العبادات في المساجد ؛ كالصلاة والقراءة والدعاء، ونحو ذلك، فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏411‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏}‏ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏18 ‏]‏

وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان، فإن اللّه تعالى يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ‏}‏‏)‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏18‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏}‏الآية ‏[‏الأعراف‏:‏29‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏18‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ‏}‏ الآية‏[‏النور‏:‏36‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏}‏ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏187‏]‏‏.‏

وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏صلاة الرجل في المسجد تَفْضُلُ على صلاته في بيته وسُوقه بخمس وعشرين درجة‏)‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم بخمس وعشرين درجة‏)‏ وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معي، معهم حُزَم من حَطَبٍ، إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار‏)‏ ‏.‏

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ أنه قال‏:‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال‏:‏ يا رسول اللّه، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته فرخص /له‏.‏فلما ولى دعاه، فقال‏:‏ ‏(‏هل تسمع النداء بالصلاة‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ فأجب‏)‏‏.‏

وفيه ـ أيضًا ـ عن أبي سعيد ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ من سَرَّهُ أن يلقى اللّه غدًا مسلمًا، فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن، فإن اللّه شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب اللّه له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها خطيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهَادى‏ [‏وقوله‏:‏ يُهَادى بين رجلين‏:‏ أي‏:‏ يمشي بينهما معتمدًا عليهما من ضعفه وتمايله‏]‏ بين رجلين حتى يقام في الصف‏.‏

وهذا باب واسع، قد نبهنا بما كتبناه على سبيل الهدى في هذا الأمر، الفارق بين أهل التوحيد الحنفاء أهل ملة إبراهيم، المتبعين لدين اللّه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وبين من لبس الحق بالباطل، وشاب الحنيفية بالإشراك‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏ ‏.‏

/وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء‏}‏ الآية ‏[‏البينة‏:‏ 5‏]‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30-32‏]‏

واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم‏.

قَالَ شَيْخُ الإسْلام ـ رَحمَهُ اللَّهُ‏:‏

فَصــل

وأما الصحابة والتابعون، فقال غير واحد من الأئمة‏:‏ إن كل من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن لم يصحبه مطلقًا، وعينوا ذلك في مثل معاوية، وعمر بن عبد العزيز، مع أنهم معترفون بأن سيرة عمر بن عبد العزيز أعدل من سيرة معاوية، قالوا‏:‏ لكن ما حصل لهم بالصحبة من الدرجة أمر لا يساويه ما يحصل لغيرهم بعلمه‏.‏

واحتجوا بما في الصحيحين أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تَسُبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهبا لما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه‏)‏، قالوا‏:‏ فإذا كان جبل أحد ذهبًا لا يبلغ نصف مد أحدهم، كان في هذا من التفاضل ما يبين أنه لم يبلغ أحد مثل منازلهم التي أدركوها بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وفي المسألة بسط وبيان لا يحتمله هذا المكان‏.‏

/ سُئلَ ـ رَحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ عن رجلين تنازعا في ساب أبي بكر، أحدهما يقول‏:‏ يتوب اللّه عليه، وقال الآخر‏:‏ لا يتوب اللّه عليه‏.‏

فَأجَـــابَ‏:‏

الصواب الذي عليه أئمة المسلمين أن كل من تاب تاب اللّه عليه، كما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏53‏]‏، فقد ذكر في هذه الآية أنه يغفر للتائب الذنوب جميعًا؛ ولهذا أطلق وَعمَّم‏.‏ وقال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ فهذا في غير التائب، ولهذا قَيَّد وخصَّص‏.‏

وليس سَب بعض الصحابة بأعظم من سب الأنبياء؛ أو سب اللّه ـ تعالى ـ و اليهود والنصارى الذين يسبون نبينا سرًا بينهم إذا تابوا وأسلموا قُبِلَ ذلك منهم باتفاق المسلمين، والحديث الذي يروى‏:‏ ‏(‏سَبُّ صحابتي ذَنْبٌ لا يُغْفَر‏)‏، كذب على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، والشرك الذي لا يغفره اللّه، يغفره /لمن تاب باتفاق المسلمين، وما يقال‏:‏ إن في ذلك حقًا لآدمي يجاب عنه من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن اللّه قد أمر بتوبة السارق و الملَقِّب ونحوهما من الذنوب التي تعلق بها حقوق العباد، كقوله‏:‏ ‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 38، 39‏]‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏، ومن توبة مثل هذا أن يعوض المظلوم من الإحسان إليه بقدر إساءته إليه‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن هؤلاء متأولون، فإذا تاب الرافضي من ذلك، واعتقد فضل الصحابة، وأحبهم، ودعا لهم، فقد بَدَّل اللّه السيئة بالحسنة، كغيره من المذنبين‏.‏

/ وَسُئلَ عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد، ومنهم من إذا قرئ عليه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي يكون راويها عبد اللّه بن مسعود، أو قيل له‏:‏ هذا مذهب عبد اللّه ابن مسعود شرع في تنقيصه، وأخذ يقدح فيه، ويجعله ضعيف الرواية، ويزعم أنه كان بين الصحابة منقوصا، حتى إن بعضهم لم يثبت في المصاحف قراءته، وأنه كان يحذف من القرآن المعوذتين‏؟‏

فَأَجَابَ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏

ابن مسعود ـ رضي اللّه عنه ـ من أجلاء الصحابة، وأكابرهم، حتى كان يقول فيه عمر بن الخطاب‏:‏ كُنَيْف ‏[‏كُنَيْف‏:‏ هو تصغير تعظيم للكِنْف‏.‏ والكِنْف‏:‏ الوِعَاء] مُلِئ علمًا‏.‏ وقال أبوموسى‏:‏ ما كنا نعد عبد اللّه بن مسعود إلا من أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ من كثرة ما نرى دخوله وخروجه‏.‏ وقال له صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذْنُكَ علي أن تَرْفَعَ الحِجَاب، وأن تسمع بسِوَادي حتى أنهاك‏)‏‏.‏ وفي السنن‏:‏ ‏(‏اقتدوا باللذين من بعدي‏:‏ أبي بكر وعمر، وتمسَّكوا بِهَدْي ابن أم ِّعَبْدٍ‏)‏‏.‏

وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏من سره أن يقرأ القرآن غَضّا كما أنزل، فليقرأ على قراءة ابن أم عَبْد‏)‏، ولما فتح العراق بعثه عليهم ليعلمهم الكتاب والسنة، فهو أعلم الصحابة /الذين بعثهم إلى العراق، وقال فيه أبو موسى‏:‏ لا تسألوني عن شىء ما دام هذا الحبر فيكم‏.‏ وكان ابن مسعود يقول‏:‏ لو أعلم أن أحدًا أعلم بكتاب اللّه مني تبلغه الإبل لأتيته‏.‏

وهو أحد الثلاثة الذين سماهم معاذ بن جبل عند موته لما بكى مالك بن يُخَامِر السَّكْسَكِي، فقال له معاذ بن جبل‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ فقال‏:‏ واللّه ما أبكي على رحم بيني وبينك، ولا على دنيا أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك، فقال‏:‏ إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما، اطلب العلم عند أربعة فإن أعياك هؤلاء ؛ فسائر أهل الأرض أعجز، فسَمَّى له ابن مسعود، و أبيّ بن كعب، وعبد اللّه بن سلام وأظن الرابع أبا الدرداء‏.‏

وسئل علي عن علماء الناس، فقال‏:‏ واحد بالعراق ابن مسعود‏.‏ وابن مسعود في العلم من طبقة عمر، وعلي، وأبي، ومعاذ، وهو من الطبقة الأولى من علماء الصحابة، فمن قدح فيه أو قال‏:‏ هو ضعيف الرواية فهو من جنس الرافضة الذين يقدحون في أبي بكر وعمر وعثمان، وذلك يدل على إفراط جهله بالصحابة، أو زندقته ونفاقه‏.‏

/ سُئلَ ـ رَحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ عن رجل يناظر مع آخر في‏ [مسألة المصراة‏]، وردها إذا أراد المشتري، فاستدل من ادعى جواز الرد بحديث أبي هريرة المتفق عليه، فعارضه الخصم بأن قال‏:‏ أبو هريرة لم يكن من فقهاء الصحابة، وقد أنكر عليه عمر بن الخطاب كثرة الرواية، ونهاه عن الحديث، وقال‏:‏ إن عدت تحدث فعلت وفعلت، وكذا أنكر عليه ابن عباس، وعائشة أشياء‏.‏ فهل ما ذكره الخصم صحيح أم لا‏؟‏وما يجب على من تكلم في أبي هريرة بهذا الكلام‏؟‏

فَأَجَـــاب‏:‏

الحمد للّه‏.‏ هذا الراد مخطئ من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ قوله‏:‏‏ [إنه لم يكن من فقهاء الصحابة‏] ‏فإن عمر بن الخطاب ولى أبا هريرة على البحرين، وهم خيار المسلمين، الذين هاجر وَفْدُهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهم وفد عبد القيس‏.‏

وكان أبو هريرة ـ أميرهم ـ هو الذي يفتيهم بدقيق الفقه، مثل‏:‏ مسألة/ المطلقة دون الثلاث، إذا تزوجت زوجًا أصابها، هل تعود إلى الأول على الثلاث ـ كما هو قول ابن عباس وابن عمر، وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن عمر، بناء على أن إصابة الزوج تهدم ما دون الثلاث كما هدمت الثلاث ـ أو تعود على ما بقى كما هو قول عمر وغيره من أكابر الصحابة وهو مذهب مالك والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، بناء على أن إصابة الزوج الثاني إنما هي غاية التحريم الثابت بالطلاق الثلاث، فهو الذي يرتفع بها، والمطلقة دون الثلاث لم تحرم، فلا ترفع الإصابة منها شيئًا، فأفتى أبو هريرة بهذا القول‏.‏ ثم سأل عمر فأقره على ذلك وقال‏:‏ لو أفتيتَ بغيره لأوجعتك ضربًا‏.‏

وكذلك أفتى أبوهريرة في دقائق مسائل الفقه مع فقهاء الصحابة، كابن عباس وغيره من أشهر الأمور، وأقواله المنقولة في فتاويه تدل على ذلك‏.‏ وإذا كان عمر وعلى أفقه من عمران بن حُصَين، وأبي موسى الأشعري، لم يخرجا بذلك من الفقه، وكذلك إذا كان معاذ وابن مسعود ونحوهما أفقه من أبي هريرة وعبد اللّه بن عمر ونحوهما، لم يخرجا بذلك من الفقه‏.‏

الثاني‏:‏ أن يقال لهذا المعترض‏:‏ جميع علماء الأمة عملت بحديث أبي هريرة فيما يخالف القياس والظاهر، كما عملوا جميعهم بحديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها‏)‏‏.‏ وعمل أبو حنيفة /مع الشافعي وأحمد وغيرهما بحديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أكل أو شرب ناسيًا فلْيُتِمَّ صَوْمَه، فإنما أطعمه اللّه وسَقَاه‏)‏ مع أن القياس عند أبي حنيفة أنه يفطر، فترك القياس لحديث أبي هريرة، ونظائر ذلك تطول‏.‏

ومالك مع الشافعي وأحمد عملوا بحديث أبي هريرة في غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا، مع أن القياس عند مالك أنه لا يغسل؛ لأنه طاهر عنده، بل الأئمة يتركون القياس لما هو دون حديث أبي هريرة، كما ترك أبو حنيفة القياس في مسألة [‏القهقهة] ‏بحديث مرسل لا يعرف من رواه من الصحابة وحديث أبي هريرة أثبت منه باتفاق الأمة‏.‏

الثالث‏:‏ أن يقال‏:‏ المحدث إذا حفظ اللفظ الذي سمعه لم يضره ألا يكون فقيها، كالملقنين بحروف القرآن، وألفاظ التشهد والأذان ونحو ذلك‏.‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نَضَّر اللّه امرأ سمع حديثًا فبَلَّغَه إلى من لم يسمعه، فَرُبَّ حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه‏)‏، وهذا بين في أنه يؤخذ حديثه الذي فيه الفقه من حامله، الذي ليس بفقيه، ويأخذ عمن هو دونه في الفقه، وإنما يحتاج في الرواية إلى الفقه إذا كان قد روى بالمعنى، فخاف أن غير الفقيه يغير المعنى وهو لا يدري‏.‏

و أبو هريرة كان من أحفظ الأمة، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالحفظ قال‏:‏ فلم أنْسَ شيئًا سمعته بعد؛ ولهذا روى حديث المُصَرَّاة ‏[‏المُصَرَّاة‏:‏ الناقة أو البقرة أو الشاة يُجمع اللبن في ضَرْعها ويُحبس قبل بيعها بأيام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك لأنه خداع وغش‏]‏ وغيره بلفظ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏

/الرابع‏:‏ أن الصحابة كلهم كانوا يأخذون بحديث أبي هريرة، كعمر وابن عمر وابن عباس وعائشة، ومن تأمل كتب الحديث عرف ذلك‏.‏

الخامس‏:‏ أن أحدًا من الصحابة لم يطعن في شىء رواه أبو هريرة، بحيث قال‏:‏ إنه أخطأ في هذا الحديث، لا عمر ولا غيره، بل كان لأبي هريرة مجلس إلى حجرة عائشة، فيحدث ويقول‏:‏ يا صاحبة الحجرة، هل تنكرين مما أقول شيئًا ‏؟‏ فلما قضت عائشة صلاتها لم تنكر مما رواه، لكن قالت‏:‏ إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث سردكم، ولكن كان يحدث حديثًا لو عده العاد لحفظه، فأنكرت صفة الأداء لا ما أداه‏.‏

وكذلك ابن عمر قيل له‏:‏ هل تنكر مما يحدث أبو هريرة شيئًا‏؟‏ فقال‏:‏ لا، ولكن أخبر وجبنا، فقال أبو هريرة‏:‏ ما ذنبي أن كنت حفظت ونسوا‏.‏وكانوا يستعظمون كثرة روايته حتى يقول بعضهم‏:‏ أكثر أبو هريرة، حتى قال أبو هريرة‏:‏ الناس يقولون‏:‏ أكثر أبو هريرة، واللّه الموعد ؛أما إخواني من المهاجرين، فكان يشغلهم الصَّفْقُ‏ [‏الصَّفْقُ‏:‏ هو أن يضرب كل من البائع والمشترى يده على يد الآخر، عند البيع، وبهذا يكون قد وجب البيع‏] ‏بالأسواق‏.‏ وأما إخواني من الأنصار، فكان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فكنت أشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا‏.‏ ولقد حدثنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حديثًا، ثم قال‏:‏ ‏(‏أيكم يبسط ثوبه‏؟‏‏)‏، فبسطت ثوبي‏.‏ فدعا لي‏.‏ فلم أنْسَ بعد شيئا سمعته منه صلى الله عليه وسلم‏.‏

/وروى عنه أنه كان يجزئ الليل ثلاثة أجزاء‏:‏ ثلثًا يصلي، وثلثًا يكرر على الحديث، وثلثًا ينام‏.‏

فقد بين أن سبب حفظه ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقطع العلائق ودعاؤه له‏.‏

وكان عمر بن الخطاب يستدعى الحديث من أبي هريرة، ويسأله عنه ولم ينهه عن رواية ما يحتاج إليه من العلم الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا توعده على ذلك‏.‏ ولكن كان عمر يحب التثبت في الرواية ؛ حتى لا يجترئ الناس فيزاد في الحديث‏.‏

ولهذا طلب من أبي موسى الأشعري من يوافقه على حديث الاستئذان، مع أن أبا موسى من أكابر الصحابة وثقاتهم باتفاق الأئمة‏.‏

السادس‏:‏ أن الصحابة كانوا يرجعون في مسائل الفقه إلى من هو دون أبي هريرة في الفقه، كما رجع عمر بن الخطاب إلى حَمَل بن مالك وغيره في دية الجنين، وكما رجع عثمان بن عفان إلى الفُرَيْعَة بنت مالك في لزوم المتوفى عنها لمنزل الوفاة، وكما رجع عمر ابن الخطاب وغيره في توريث المرأة من دية زوجها، إلى الضحاك بن سفيان الكِلابِيّ‏.‏ وكما رجع زيد بن ثابت وغيره إلى امرأة من الأنصار في سقوط طواف الوداع عن الحائض‏.‏

/وكذلك ابن مسعود لما أفتى المفوضة المتوفى عنها بمهر المثل، فقام رجال من أشجع فشهدوا أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قضى في بَرْوَع بنت وَاشِق بمثل ما قضيت به، ففرح عبد اللّه بذلك فرحًا شديدًا‏!‏ وأبو بكر الصديق ورَّث الجدة بحديث المغيرة بن شعبة، ومحمد ابن سلمة، ونظائر هذا كثيرة‏.‏

السابع‏:‏ أن يقال‏:‏ المخالف لحديث أبي هريرة في المصراة، يقول‏:‏ إنه يخالف الأصول أو قياس الأصول‏.‏

فيقال له‏:‏ بل القول فيه كالقول في نظائره التي اتبعت فيها النصوص، فهذا الحديث ورد فيما يخالف غيره لا فيما يماثل غيره؛ والقياس هو التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين، وذلك أن من خالفه يقول‏:‏ إنه أثبت الرد بالمعيب، وقدر بدل المتلف، بل إن كان من المثليات ضمن بمثله وإلا فقيمته، وهذا مضمون بغير مثل ولا قيمة، وجعل الضمان على المشترى والخراج بالضمان‏.‏

فيقال له‏:‏ الرد يثبت بالتدليس، ويثبت باختلاف الصفة باتفاق الأئمة، والمدلس الذي أظهر أن المبيع على صفة وليس هو عليها كالواصف لها بلسانه، وهذا النوع من الخيار غير خيار الرد بالعيب‏.‏

/ويقال له‏:‏ المشترى لم يضمن اللبن الحادث على ملكه، ولكن ضمن ما في الضرع، فإنه لما اشترى المصراة وفيها لبن تلف عنده، كان عليه ضمانه، وإنما قدر الشارع البدل ؛ لأنه اختلط اللبن القديم باللبن الحادث، فلم يبق يعرف مقدار اللبن القديم‏.‏

فلهذا لم يمكن ضمانه بمثله ولا بقيمته، فقدر الشارع في ذلك بدلا يقطع به النزاع، كما قدر ديات النفس وديات الأعضاء ومنافعها، ونحو ذلك من المقدرات التي يقطع بها نزاع الناس، فإنه إذا أمكن العلم بمقدار الحق، كان هو الواجب‏.‏ وإذا تعذر ذلك شرع الشارع ما هو أمثل الطرق وأقربها إلى الحق‏.‏

فتارة يأمر بالخَرْصِ ‏[‏الخَرْصُ‏:‏ الحَزْر‏.‏ يقال‏:‏ خرصت النخلة‏:‏ إذا حزرت ما عليها من التمر، فهو من الخَرْص، أي‏:‏ الظن؛ لأن الحزْر إنما هو تقديرُ بِظَنٍّ‏] ‏إذا تعذر الكيل أو الوزن، إقامة للظن مقام العلم عند تعذر العلم، ويأمر بالاستهام لتعيين المستحق عند كمال الإبهام‏.‏ وتارة يقدر بدل الاستحقاق إذا لم يكن طريق آخر لقطع الشقاق، ورد المشترى للصاع بدل ما أخذ من اللبن من هذا الباب‏.‏

وفي المسألة حكاية ثانية، ذكرها أبو سعيد بن السمعاني عن الشيخ العارف يوسف الهمداني، عن الشيخ الفقيه أبي إسحاق الشيرازي، عن القاضي أبي الطيب الطبري، قال‏:‏ كنا جلوسًا بالجامع ببغداد، فجاء خراساني سألنا عن المصراة، فأجبناه فيها، واحتججنا بحديث أبي هريرة، فطعن في أبي هريرة،/فوقعت حية من السقف، وجاءت حتى دخلت الحلقة وذهبت إلى ذلك الأعجمي فضربته فقتلته‏.‏

ونظير هذه ما ذكره الطبراني في كتاب السنة عن زكريا بن يحيى الساجي قال‏:‏ كنا نختلف إلى بعض الشيوخ لسماع حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فاسترعنا في المشي، ومعنا شاب ماجن‏.‏ فقال‏:‏ ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة، لا تكسروها‏.‏ قال‏:‏ فما زال حتى جفته رجلاه، ولهذا نظائر، نسأل اللّه تعالى الاعتصام بكتابه، و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع ما أقام من دليله، واللّه ـ سبحانه ـ أعلم‏.‏

/ وَسُئِلَ ـ أَيْضًا ـ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ عن فرقة من المسلمين يقرون بالشهادتين ويصومون، ويحجون ويخرجون الزكاة، ويجاهدون أنفسهم في مرضاة اللّه، غير أنهم يكفرون سابِّي صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرجوا لأحد توبة إذا تاب وأن المصر على ذلك مخلد في النار، ومن قال بتوبتهم يسمونهم الرجوية ولا يصلون إلا مع من يتحققون عقيدته، وما يتفوه أحدهم من شىء أو يسأل عن شىء إلا يقول‏:‏ إن شاء اللّه‏.‏ فهل هم مصيبون في أفعالهم‏؟‏ أم مخطئون في أقوالهم‏؟‏

فَأَجَـــاب‏:‏

الحمد للّه، هؤلاء قوم مسلمون لهم ما لأمثالهم من المسلمين، يثيبهم اللّه على إيمانهم باللّه ورسوله، وطاعتهم للّه ورسوله، ولا يذهب بذلك إيمانهم وتقواهم بما غلطوا فيه من هذه المسائل، كسائر طوائف المسلمين الذين أصابوا في جمهور ما يعتقدونه ويعملونه، وقد غلطوا في قليل من ذلك، فهؤلاء بمنزلة أمثالهم من المسلمين‏.‏

/وقولهم‏:‏ إن توبة سابِّ الصحابة لا تقبل، وأنه مخلد في النار خطأ، بل الذي عليه السلف والأئمة كالأئمة الأربعة وغيرهم‏:‏ أن توبة الرافضي تقبل كما تقبل توبة أمثاله، والحديث الذي يروى‏:‏ ‏(‏سب صحابتي ذنب لا يغفر‏)‏ حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم، ولو قدر صحته فالمراد به من لم يتب، فإن اللّه يأخذ حق الصحابة منه‏.‏

وأما من تاب فقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏، وهذا في حق التائب، أخبر‏:‏ أنه يغفر جميع الذنوب، وسابُّ الصحابة إذا كان يعتقد جواز ذلك فهذا مبتدع ضال كسائر الضلال، والحق في ذلك للّه، كمن سب الرسول معتقدًا أنه ساحر أو كاذب، فإذا أسلم هذا قبل اللّه إسلامه كذلك الرافضي إذا تبين له الحق وتاب قبل اللّه منه، وإن كان يقر بتحريم ذلك فهذا ظالم، كمن قذف غيره واغتابه، ومظالم العباد تصح التوبة منها، ويدعو لهم ويثني عليهم بقدر ما لعنهم وسبهم، فإن الحسنات يذهبن السيئات‏.‏

وإذا قال القائل‏:‏ هذا حَجَر، وقال‏:‏ لا أقطع بأن هذا حجر فهذا مخطئ، لكن إن كان مراده أني إذا قطعت بأنه حجر فقد جعلت اللّه عاجزًا عن تغيره، فإنه يقال له‏:‏ بل هو الآن حجر ـ قطعًا ـ واللّه قادر على تغييره وإن كان مراده بقوله‏:‏ إن شاء اللّه‏:‏ أن اللّه قادر /على تغييره، فهذا المعنى صحيح، وإن كان شاكًا في كونه حجرًا فهذا متجاهل، يعزر على ذلك‏.‏

وتجوز الصلاة خلف كل مسلم مستور باتفاق الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين، فمن قال‏:‏ لا أصلي جمعة ولا جماعة إلا خلف من أعرف عقيدته في الباطن، فهذا مبتدع مخالف للصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين الأربعة وغيرهم، واللّه أعلم‏.‏

آخر ما وجد من كتاب مفصل الاعتقاد

ويليه كتاب

الأسماء والصفات‏. 

 

إتحاف النبلاء بأخبار الثقلاء جلال الدين السيوطي

  إتحاف النبلاء بأخبار الثقلاء    جلال الدين السيوطي إتحاف النبلاء بأخبار الثقلاء بسم ال...